سعدي يوسف لي أكثرُ من نصفِ قرنٍ مع هذا الرفيقِ الذي لم يخذلْني يوماً ، وإنْ خذلتُهُ كثيراً ، في محاولتي التعرُّفَ عليه أكثرَ ، ومعرفةَ خِصالِهِ وطِباعِهِ ، وأدبَ مرافقَتِهِ ومُجالسَتِهِ . والحقَّ أقولُ إنني أبذلُ ما أستطيعُ بَذلَه ،وأستمتِعُ بما أبذلُ .رِحلتي دائمةٌ ، وهو ، أعني الشِّعرَ ، قريبٌ ، ناءٍ .واضحٌ ، غامضٌ .كأنّ الحياةَ بأسْرِها ســاحةٌ للشِعرِ وملعبٌ . وكأنني مُكَلَّفٌ بأن أذرعَ هذه الساحةَ في محاولةِ بلوغِ الفنّ ، بلوغِ الشِعر. هل الشعرُ قراءةٌ للحياةِ فقط ؟ أعتقدُ أن الأمرَ أوسعُ وأعمقُ . للبشــرِ ، طرائقُ عِدّةٌ في قراءة حياتهم ، طرائقُ بينَها العِلمُ والسياسةُ . لكنّ شأنَ الشِعرِ مختلفٌ .
إنْ كان العِلمُ والمسعى السياسيُّ يَعِدانِ ، ويُعِدّانِ زمناً ما ، فإن الشِعرَ راهنٌ ، مباشــرٌ ، وفوريٌّ . أعني أن قدرةَ الشعرِ على القراءةِ والمشاركةِ والتغييرِ هي أكثرُ فاعليّةً ، وأعمقُ في مجرى العروقِ . الشِعرُ مُغَيِّــرٌ . الشعرُ مُغَيِّرٌ في اللحظةِ الحميمةِ التي تجمعُ ، بينَ الراهنِ والأبديّ ، في عناقٍ عجيبٍ . الأداةُ التي يستعملُها ، هي الأكثرُ تداولاً ، وعاديّةً ، ويوميةً ، في حياةِ الناسِ . إنها في الأسواقِ ، وعـلى شفـَـــتَي الطفلِ ،قبلَ أن تكونَ بين دفّتَي كتابٍ . إنها أداةٌ متاحةٌ ، بسيطةٌ وديمقراطيةٌ . هي اللغةُ المستعمَلةُ . إذاً ، من أين تأتّى للشِعرِ أن يأتي بمعجزتِهِ ؟ أحسَبُ أن ثمّتَ جذرَينِ غائرَينِ لهذه المعجزةِ : أوّلُهُما ، أن الشِعرَ يعودُ باللغةِ إلى بداءتِها ، آنَ الكلمةُ مرهفةٌ كالوتَر الحسّاسِ. ومن هنا علاقتُه. وثانيهما ، أن الشِعرَ يقدِّمُ الخطوةَ الأولى في السُّـلَّـمِ الذي يحملُ البشرَ إلى السماءِ. ومن هنا إغراؤهُ. وأقولُ عن نفسي : ليس لي من حياةٍ فِعليّةٍ ، خارج الشِعر . الشِعرُ خبزي اليومي . وأريدُ له أن يكونَ خبزَ الناسِ جميعاً . لندن 09.03.2009
|
اخر تحديث الثلاثاء, 17 مارس/آذار 2009 14:01 |