زيارةُ ريتشارد Richard’s Visit |
|
|
سعدي يوسف أمس ، نهاراً ، زارني في منزلي بالضاحية اللندنية ، صديقٌ بريطانيٌّ ، إنجليزيٌّ أباً عن جَـدٍّ ؛ لا هنديّ ، ولا عـربيّ مثلي ، ولا جامايكيّ ... إلخ . والأمرُ عجَبٌ حقاً . إذ ليس من عادة الناس ، هنا ، التزاور في البيوت ، أساساً . أمّا أن يزور إنجليزيٌّ شخصاً عربياً غريباً ، وفي بيته بالضاحية ، فهو العجبُ العُجاب ! كان ريتشارد شابّاً ، في حوالي الثلاثين ، جاء بسيارته الفورد ، ذات الدفع الرباعيّ ، من أسِكْس Essex
غير القريبة ، إلى مقامي الخرافيّ ، بيتِ الشاعر ، في قرية هَيرفِيلد Harefield حيث المستشـفى الشـهير للـسَير ( الآن ) مـجدي يعقوب ، عبقريّ طبّ القلب ، القادمِ من مصر العظيمة . جاء في العاشرة والنصف صباحاً ! لم أكن التقيتُه من قبلُ . قدّمتُ له شاياً بالنعناع . * كان اتّصلَ هاتفياً ، قبل أسبوع ، يطلب الزيارة . لم أسألْه عن سبب زيارته ، إذ بدا لي أن سؤالاً كهذا قد يبدو غير مهذّبٍ ، كما أنني من محبّي المفاجآت ... مرحـباً إذاً ! ريتشارد يحتسي الشاي المنعنَع بهدوءٍ متلذذٍ . أتدري لِـمَ جئتُكَ ؟ لقد قرأتُ كتاباً عنك باللغة الإنجليزية ، لا بدّ أن الكتاب لديك . سعدي يوسف بين الوطن والمنفى ، لمؤلفه يائير حوري . The Poetry of Saadi Yusuf between homeland and exile, by Yair Huri. قلتُ له : الكتاب لديّ حقاً . جاءني هديةً من المؤلف . سألني : أتعرف المؤلف ؟ أجبتُه : لا . هل كنتما تتراسلان ؟ أجبتُه : لا . * بدا الأمرُ ، لدى ريتشارد ، مُـحَـيِّـراً . قال لي : ما رأيُكَ بهذه العبارات التي وردت على غلاف الكتاب ؟ " منذ أمدٍ طويلٍ ، اعتُبِــرَ سعدي يوسف أهمّ شاعرٍ عراقيّ حيّ ، ومن أشهر مُجددي الشعر العربي " Saadi Yousef has long been acknowledged as Iraq’s foremost living poet and one of the preeminent modernists of Arabic poetry. أجبتُه : هذا رأيٌ . وهناك آراءُ تختلف عنه . سألني ريتشارد : مثلاً ؟ أجبتُ : هناك مَن يرى أنني لم أكنْ شاعراً يوماًما . قال : إذاً ، ماذا كنتَ في رأيهم ؟ أجبتُ : ثورياً ، يريد أن يغيِّــر العالَمَ ، ويعيد تشكيله تحت الراية الحمراء ! أحسستُ أن المسألة التبستْ على ريتشارد . قال : لكنّ الصلة قائمةٌ جداً بين الشعر وتغيير العالم ... أعني أن صورتك وأنت تحمل الراية الحمراء خفّاقةً تمنح شعركَ ، جدوى . الناس مَعْـنيّـةٌ بالـمُـغَــيِّــرِ . في شعرنا الإنجليزي ، تُعتبَر فترة الثلاثينيات ، العصرَ الذهبي ، لأن جيل أودِن العظيم ارتبط بفكرة التغيير ، ارتبط بحلم اليسار النقيّ . شعراء ذلك الجيل ذهبوا إلى إسبانيا يقاتلون مع الجمهوريين . إبريق الشاي بردَ ، ونضب شــايُهُ . لكن الحديث أخذ يكتسب حرارةً معيّنةً . قلتُ : كلامُك صحيحٌ تماماً ، يا ريتشارد ، وبخاصة عن جيل أودِن ، وراية اليسار التي لم يرفضها إلاّ كاثوليكيٌّ واحدٌ اسمُهُ ت.س. إليوت . كان يحبّ فرانكو لأن الجنرال كاثوليكيٌّ مثله ! لكنّ أمرَنا ، أمرَ شعرِنا ، في المنطقة العربية ، هذه الأيامَ ، مختلفٌ ، بل عجيبٌ ! سألني ريتشارد : كيف ؟ * الكتابة بالعربية ، وكتابةُ الشعر بالعربية خاصةً ، ليستْ كتابةً . تأويلُ الأمرِ أن الكاتب العربي ، لأَقُل الشاعر العربي ، ما دمنا نتحدث عن الشعر ، لم يَعُدْ قائماً : لقد احتلَّ مكانه ، بل مكانتَه ، الصحافيّ المتشبّثُ بمعاشه ، فصارَ يكتبُ ما يحسبُه أصحابُهُ في المهنة شعراً . واحتلَّ مكانَهُ الموظفُ الحزبيُّ المأجورُ ، فصار يكتبُ ما يصفِّقُ له قادةُ حزبه الجهلةُ باعتباره شعراً . واحتلَّ مكانهُ الجنودُ السابقون ، ومسّاحو أحذيةِ الطغاةِ وأبناءِ الطغاةِ ، فصاروا يكتبون ما يظنون أنه سيجعلهم متصوفةً لا جنوداً سابقين ومسّاحي أحذيةٍ . واحتلَّ مكانه الفاشلون الذين اشترتْهمُ دوائرُ أوربا وأميركا الاستعماريةُ ، فصاروا يكتبون ما اعتقدوا أنه يرضي تلك الدوائرَ ، ويرسُمُ لها الصورةَ المشتهاةَ . واحتلَّ مكانَـهُ الأطفالُ الرُّضَّعُ لمشيخاتِ الخليجِ ، حيث لا حقَّ ولا حقوقَ ، فصاروا يكتبون ما يخجل السرياليّ من فرطِ سرياليته ، وما ينتكسُ الحداثيُّ الـمُغالي من فرْطِ حداثيّته . كأنّ بغداد لم يحتلَّها أحدٌ . كأن فلسطين لم يحتلّها أحد . كأن الجنوب اللبناني ليس على الخارطة . وكأن مَدارجَ الطائرات الأميركية التي ظلّت تقتل أبناء العراق لم تكن تعرف الخليج منطلَقاً . الشاعر العربي الآن : كاذبٌ . مزيَّفُ حقائق . جبانٌ . * في المملكة المتحدة ، تقليدٌ في الصحافةِ أثيرٌ : الأقسام الثقافية في الصحافة لا يتولّى شأنَها مبدعون في القَصِّ أو الشِعر ، خشيةَ اللاموضوعية ، وتغليب مَنازعِ الذات الأمّارةِ بالسوء ، أحياناً . الأقسامُ الثقافية يتولّى شأنَها نقّادٌ ، وصحافيون محترفون . أمّا عندنا ، يا ريتشارد ، فكلُّ من تولّى صفحةً ثقافيةً أو بعضَ صفحةٍ ، صار بقدرةِ قادرٍ ، قاصّاً لامعاً ، أو شاعراً رائعاً ... المحررون ، اللامعون ، يُـلَــمِّعون بعضَهم ... لينشأَ نوعٌ من التربيت يُدْعى متابَعةً أو حتى نقداً . وشعراءُ الصفحات الثقافية ، وقصّاصوها ، صاروا شعراءَ أمّةٍ وقصّاصي أمّةٍ ابتُلِيَتْ بأبنائها العاقّـين . في الماضي المجيد ، أي قبل حوالَي اثنَي عشر قرناً ، كان الوضعُ أفضلَ بما لا يُقاسُ . أمثالُ هؤلاء كانوا يسمَونَ: الشعراء الكُتّاب . وشعرُهمُ يصَنّف نقدياً بأنه شعرُ الكُتّاب ، كنايةً عن أضعف الشِعر . والحَقُّ أن شعر أصحابنا الآن هو أضعفُ الشعر ، لكنك لا تملك منبراً تعلِن منه ذلك ... هؤلاء الشعراء/ الكُتّابُ ، يحميهم التخلّفُ ، وتحميهم أوربا الاستعمارية ، والولاياتُ المتحدةُ أيضاً ، ونحميهم نحن باعتبارهم أصدقاءَ ، وإنْ لم يُعِيروا ، هم ، أي معنىً للصداقة . لكنهم يظلّون ، الشعراءَ الكُتّاب َ ، يختفون فجأةً في ظلامٍ لا نورَ بعده ، بمجرّد توقُّفِ الصحيفةِ ، أو توقيفِ الصحيفةِ إيّاهُم ... مصيرٌ مضحكٌ على أي حال ! * الغرفة مشحونةٌ بما لم يكن مقدَّراً لها . كان ريتشارد ، مدوَّخاً أو يكادُ . دعوتُه إلى كأسٍ ، ولو للطريق . اعتذر . قال إنه سيسوق سيارته الفورد ذات الدفع الرباعي ، إلى مكانه البعيد . * سآخذ كأسي ، وحيداً . لندن 19.04.2007
|