ســعدي يوســف يبدو لي ، أحياناً ، أن عنواناً مثل " الشعر والجمهور " ، ملتبسٌ التباساً ما . وفي زعمي أن هذا العنوان يمثل استقطاباً : أي أنه يضع الشعر مقابل الجمهور ، أو يضع الجمهور مقابل الشعر . كأن الشعر والجمهور قطبانِ ذوَي علاقةٍ هي السلْبُ تحديداً . قد يرى راءٍ أن الحلّ ( إنْ سلّمْـنا بأننا إزاءَ سؤالٍ ) هو في " الشاعر الجماهيريّ " أو " الشعر الجماهيريّ " ، والتعبيرانِ كلاهُما لا يتمتعان بالاحترام حتى من لَدُنِ القائلينَ بهما . فالتعبيرانِ يُنزلانِ الشعرَ ، باعتبارهِ فنّاً ، والجمهورَ ، باعتبارِه مستقبِلَ فنٍّ ، منزلةً دُنيا ، تتعارضُ أساساً ، ومسعى الفنّ في الارتقاء بالفنّ والبشرِ إلى الـمَقامِ الأرفع . كما أن
الأمر يضعُنا ، ثانيةً ، في السياق الأمّـيّ ، لـثُنائية الفن للفن ، والفن للحياة . ما الـمدخلُ الـمُتاحُ ، إذاً ؟ ازعُـمُ أن النصّ هو موضعُ الاجتهاد . النصُّ الشعريّ هو الوسيلة والغايةُ . الأداة والهدف . النصّ الشعريّ هو مُـتّـحَـدُ الإرسال والاستقبال . النصّ الشعريّ هو المكتملُ بذاته ، المتضمِّــنُ ذواتِــه ، ما دَقَّ منها ، وما انتشـرَ . النصّ الشعريّ هو الوحدةُ العُليا لدورةِ الفنّ . والفنُّ ، ما كان يوماً ، بالمنفصلِ . بل ما كان له أن يغدو منفصلاً . إذْ أن ذلك المفترَضَ يعني الغيابَ . * قد كنتُ قلتُ إن النصّ الشعريّ هو المكتملُ بذاته ، المتضمِّــنُ ذواتِهِ ، ما دَقَّ منها ، وما انتشـرَ . وأردتُ بذلك أن أشير إلى أن العملية الفنيةَ ( الدائرةَ السايكولوجية والفيزيقية للحظةِ الإبداعِ ) هي عمليةُ تصعيدٍ واحدةٌ ، بالرُّغمِ من تعقيدِها ، وليستْ ذاتَ قطبَينِ . النصُّ لا تكتمل صيرورتُه إلاّ بالتلقِّــي . إذاً ، هو متوجِّـهٌ منذ ميلادِهِ ، إلى مستقبِــلٍ ما . تماماً مثل ما يتوجّه الوليدُ إلى أُمِّــهِ ، أو مثل ما تتوجّـه الأمُّ إلى الوليدِ . * الشاعرُ ، هو المستقبِل الأول لِما كتبَ ، هو . الشاعرُ ، هو جمهورُهُ . هو القاريء الجيّد للنصّ ، لأن النصَّ صناعتُــه . ولأنه يعرف ، على تفاوتٍ ، مدى ما كتبَ . الشاعرُ ، وموضعُه من المسعى الفنيّ ، يحددان مدى النصّ المتاح . كلّما اتّسعت الرؤيا ، غدا النصُّ أحَــدَّ مضاءً ، وأشـدَّ وميضاً . ولسوف تلتهب الأكفُّ بالتصفيق ! إنّ ما يُحقِّقُ اتّساعَ الرؤيا ، متّصلٌ بالتكوين الثقافيّ /الاجتماعيّ للشاعر . التكوين الثقافيّ ، في واقع الشعر العربي الراهن ، معضلٌ . أي أن بإمكان المرء القولَ إن التكوين الثقافيّ لِـمُعْظم من ينشرون ما يشاؤون تسميته شعراً ، أهونُ من أن يساعدَ في تأهيلِ عارفٍ بالقراءة والكتابة . وبإمكاني الحديثُ عن أسماءَ كُرِّستْ في الراهن الشعري ، وهي عاجزةٌ عن الـمُضِيّ في قراءة نصٍّ مشكولٍ لأكثرَ من سطرٍ واحدٍ . إنْ كانت اللغةُ ، الأداةَ ، وأنتَ غيرُ مَـعْـنِـيٍّ بها ، فمَن أتى بكَ إلى حارتِنا ؟ ثمّت ، إذاً ، عائقٌ أخلاقيّ ، متّصلٌ بأحقيّةِ الكتابة . قومٌ كهؤلاء ، لا يؤخَذون مأخذَ الجِــدّ ، لأنهم ، هم ، أنفسَهُم ، انتأوا بأنفسهِم عن أخلاق الفن الصعبة . هذا الخلل الأخلاقيّ سوف ينتجُ مستواه الاجتماعي ، حتماً : الشعرَ اللاعَلاقة . الشعرَ الـمُـنْـبَتّ . شعرَ فترتِنا المظلمة ؛ مع أن هؤلاءِ القومَ الأُلى يكتبونه يحظَونَ بمباركةِ مدُنِ الضياء في الشمال الغريب . الـمدنِ التي تجهلُ لغتَـتنا العربيةَ والناطقينَ بها . المدنِ التي ليس فيها جمهورٌ ، للشعرِ عربياً . * أعودُ لأؤكِّدَ أن الشاعرَ هو جمهورُهُ . وهو ، إذ يقسِّـمُ جسمَه في جسومٍ كثيرةٍ ، عارفٌ بما فعلَ ، وبما هو فاعلٌ بعد لحظةٍ ، آنَ تفارقُ القصيدةُ شفتَيهِ في ما يشبه التمتمة … القصيدةُ ستكون أغنيةً أو نشيداً ! أمّا هو فحاضرٌ / غائبٌ … وما أبهى الغياب ! * في تجربتي الشخصية ( وهي عاديّـةٌ جداً ، ولا تصلُحُ مثالاً يُقتَدى ) ، لم أُسائلْ ، ولو مرّةً ، مبدأَ أنني لا أتمـلّقُ القاعة . تَـمَـلُّقُ القاعةِ ، يعني احتقارَ أهلِها . يعني الحطَّ من شأنِهم باعتبارِهم سُذّجاً ، قليلي ثقافةٍ ومذاقٍ وإلمامٍ بالفن الشعري ّ . دأبتُ على قراءة نصوصي الصعبةِ نوعاًما . وكنتُ أراهنُ ، دوماً ، على حصافة الناس ، ورهافةِ تلقّـيهِم النصَّ الشعريّ . ولم يكن رهاني الاستراتيجيّ خائباً ، يوماً . كيف حدث ذلك ؟ أعني : من أين جاء هذا الرهان ؟ * أرى أن الأمر متأتٍّ من منبعٍ فلسفيّ معيّن . من شِقشِـقةٍ ماركسيةٍ أتشدّقُ بها ، وأعتمدُها ، في عُمقِ النصّ . الإنسانُ أثمنُ رأسمالٍ في العالَم ! فليكنِ الإنسانُ حاضراً في البدءِ ، كما في المنتهى … لندن 19.12.2006
|