ســعدي يوسـف " إحياءً لذكرى كيفن يونغ " لم أُكَـتِّـمْ يوماً إعجاباً أكنُّــهُ لـ" كيفن يونغ " Gavin Young 1928 –2001 ، بل لقد حضرتُ قدّاساً أُقيمَ لراحة نفسه بعد رحيله عنا في العام 2001 ، كما قدّمتُ التعازي لأخته ، وأسـهمتُ في ندوةٍ أقيمت هنا ، في العاصمة البريطانية ، إحياءً لذكراه . كان كيفن يونغ من المهتمين مبكراً بالمشهد العراقي ، وله في هذا كتابان :
نهرانِ توأمان ، كنزان توأمان Twin Rivers , Twin Treasures العودة إلى الأهوار Return to the Marshes * لكني الآن بعيدٌ تماماً عن اهتمامات يونغ العراقية واهتماماتي . بل بعيدٌ البعدَ كله جغرافياً وثقافياً عن الشرق الأوسط وأهله ، فأنا أرحلُ خفيفاً وعميقاً مع كيفن يونغ ، عبر مضائق جنوبيّ شرقيّ آسيا والأرخبيلات ، في تتبُّــعٍ مخْـلصٍ لروائيّ وبحّـارٍ أحببتهُ أنا أيضاً هو جوزيف كونراد 1857 – 1924 ( تُرجِـمَ إلى العربية عملان له فقط هما " لورد جِـمْ " و " قلب الظلام " ) … وكما تتبّــعَ يونغ ، روبرت لويس ستيفنسون وجاك لندن وغوغان وسواهما في الكاريبي ، عبر كتابه " مراكب بطيئة إلى الوطن " ، نراه هنا يتتبّع شخصاً واحداً حسبُ هو جوزيف كونراد عبر كتابه ( أي يونغ ) : بحثاً عن كونراد ، الصادر في العام 1991 . * لكنْ ، ما شأنُ الحضارمة هنا ؟ قبل عشرين عاماً حين زرتُ مُـكَلأ حضرموت ، لم أجد في مياه المكلأ ( ربّــما مُـصادَفةً ) ، سفينةً ، أيَّ سفينة ، خشباً كانت أو حديداً … لكن جوزيف كونراد ، الشاب ، تولّــى للمرة الأولى في حياته رتبة ضابطٍ أوّل في سفينةٍ هي " الفيدار " The Vidar وكان يملكها السيد محسن بن صالح الجفري وهو تاجرٌ ومالك سفنٍ اتخذَ سنغافورة مقراً . اشتغل كونراد على الفيدار في أربع رحلاتٍ إلى بيراو بين 1887-1888. يُذكَـرُ آل السقّـاف أيضاً في منطقة المضائق بين سنغافورة وبورنيو : التوسُّـعِ في الإسلام والتجارة . * يقول جوزيف كونراد في " رسائل إلى مارغاريت بارادوفسكا " : انتِ تعتقدينَ أن الشرارة الإلهية هي في داخلكِ. أنتِ في هذا ستكونينَ مثل الآخرين . هل ستختلفينَ عنهم في إيمانٍ يؤججُ تلك الشرارةَ ناراً مـتّـقـدةً ؟ لِـمَ أنتِ خائفـةٌ ؟ ومِــمَّ ؟ من الوحدة أو الموت؟ أيّ خوفٍ غريبٍ ! إنهما الأمرانِ الوحيدانِ اللذانِ يجعلانِ الحياةَ تُــطــاقُ . * والآن … أين حضارمةُ الأرخبيل؟ تعيّــنَ على كيفن يونغ الذهاب إلى بورنيو ( كاليمانتان الأندونيسية حالياً ) ليلتقــي أحفاد الجفري . * للبحرِ . أنت تعودُ مرتبكا والعُمرُ تنشرهُ وتطويهِ لو كنتَ تعرفُ كلَّ ما فيهِ لمشيتَ فوقَ مياههِ ، ملِكا …………………….. ……………………. ……………………. خشبُ السفينةِ لم يعُدْ بيديكَ كالصلصالِ . لونُ البحرِ أكثرُ وحشةً ممّـا ظننتَ. وهذهِ الآفاقُ تعرفها وتنكرُها : الرياحُ تهبُّ ، والأسماكُ تسبقها ؟ وورداتُ ابنِ ماجدٍ الكشيفةُ هل نسيتَ نداءَها ؟ كانت تشيرُ تشيرُ .. والأسماكُ قبل الريحِ …. لونُ الماءِ قبل الريحِ ، والأخشابُ تنذرُ بالعواصفِ . طائرٌ يأتي … أتعرفـهُ ؟ وأهلُ البحرِ ؟ كنتَ تحسُّ في أحداقهم يوماً سبيلكَ ، تهجسُ اللفتاتِ حين تشِفُّ أو تقسو ، وتقرأُ في ملابسهم خطوطَ القلبِ … أنتَ الآنَ مـنـفردٌ بغرفتكَ الصغيرةِ ، ربما أومأتَ للأمواجِ منكسراً … ستبلغُ حضرموتَ تعودُ ، لكنْ لستَ مثلَ النهرِ حين يعودُ نحوَ المنبعِ الســرِّيّ . أنت الآنَ تبلغُ حضرموتَ مُـقَـرَّحَ الجفنَينِ ، تبلغها كليلَ العينِ والرئتينِ ، تبلغُـها ثقيلَ الخَطوِ … لا امرأةٌ محنّـاةُ اليدَينِ ، صغيرةُ القدَمينِ تثملُ بانتظاركَ ، لا حفيدٌ سوف يحملُ عنكَ صندوقَ المسافرِ … ما الذي عادت به سنواتُكَ الستّونَ ؟ أنتَ تقولُ : مملكةً بنيتُ ، ونخلةً أنبَتُّ ، وامرأةً عشقتُ . تقولُ : أحفاداً تركتُ هناكَ … وهْـماً كانت السنواتُ : وحدَك قابعٌ في غرفةٍ خشبيةٍ ، والبرقُ يصبغُ بالبنفسجِ لحظةً جفنَيكَ ، يصبغُ بالبنفسجِ ما تَـبَـقّـى من جدائلِكَ الجميلةْ . ( من قصيدتي " الأحفاد " ) * قلتُ كان علينا أن نقطعَ الأرخبيلَ إلى بورنيو … آلُ الجفري كانوا في بولانغان . وكان عليّ حتى أبلغ بولانغان أن أطير إلى بالِكْ بابان ، وهي بلدةٌ بترولية تحت ساماريندا ، ومن هناك أستقلُّ باخرةً اسمُها كيرَنسي إلى جزيرة تاراكان . قال لي شابٌّ باسمٌ : إلى أين أنت ماضٍ ؟ قلتُ : إلى مكانٍ يدعَى تانجونغ سيلور ( وهي بلدةٌ من بلدات البولانغان ) . قال إنه من هناك ، ذاهبٌ إلى هناك في إجازةٍ . أشرتُ إلى أنني أريدُ أن ألتقيَ أناساً من آل الجفري . ضحكَ ضحكةً عاليةً قائلاً : أعرفُ كثيرين من آل الجفري في تانجونغ سيلور ، أعرفهم جميعاً . السفينة التي ستأخذنا إلى بولانغان لم تكن كبيرة ، وليس فيها متّسعٌ ، فالمقاعد لا تكفي لأكثر من سبعة مسافرين . وكان هناك شابٌّ متمددٌ ، بطولـه ، غير عابيء بالآخرين . الشابّ الباسمُ ربّتَ على ركبة المتمدد قائلاً : هذا السيد ( وأشارَ إليّ ) يبحث عن آل الجفري ، إنه كاتبٌ ، مؤرِّخٌ . انتبه الشابّ المتمدد فور سماعه هذا ، وقدّمَ نفسه باعتباره من آل الجفري ! تصافحنا . كان أول من لقيتُه من آل الجفري ، شابّاَ طويل القامةِ ، شاحبَ الوجه ، وسيعَ العينينِ . أنفُه أطولُ وأكثرُ استقامةً من أنوف الملايا المألوفة ؛ إنه أنفٌ عربي باختصار . الشابُّ مهندَم اللباسِ بصورةٍ غير عاديّةٍ في نهرٍ ذي أبخرةٍ على خط الإستواء . قميص ورديّ ذو كمَّـينِ طويلينِ ، سروالٌ غامق الزرقة ، حذاءٌ صبيغٌ ناتيء المقدمة … كان يدخن بشراهةٍ . سألـتُــه : أتعرف سيحان الجفريّ ؟ ابتسمَ : إنه عمِّــي ! * بعد هذا الشابّ ، المفْـرِط في أناقته وتدخينه من آل الجفري ، زارني فردٌ آخر من العائلة في منزلي عند إيدي . إنه محسن ( مُكْسِـنْ باللهجة الأندونيسية ) ، شابٌّ مكتنزٌ ، ذو انجليزيةٍ متواضعة ، وصوتٍ ودودٍ ناعمٍ ، والمفاجأةُ أنه وصلني في سيارته الجِيب التويوتا الجديدة . فهمتُ في ما بعدُ ، أن محسن هو أنجح رجل أعمالٍ في آل الجفري . جاء محسن ليأخذني إلى عرب كامبونغ حيث يجتمع آلُ الجفري ليشربوا معي الشاي ويتحدثوا عن السيد عبد الله الكبير . سلسلة مبانٍ خشبٍ قديمة على امتداد ضفة النهر . معظمها ذو طابقَينِ ، مع أعمدةٍ تسند الشرفاتِ العليا . من المستحيل تقدير عُمر المنازل ، بعضُها كان أنيقاً ، وبعضها يستخدَم الآن مستودعاً . وحيث ينتهي الطريق تنتصب علامةٌ تقول بأن الـمُـضِيّ أكثر يعني السقوط في الماء . استدارةٌ حادّةٌ إلى اليسار أخذتنا إلى بناجل Bungalows متواضعة مماثلةٍ . رجلٌ طويل القامة ، مكتنزٌ ، مبتسمٌ ، يقف عند الفراندة ، على رأسه طاقيةٌ بيضاء ، ويلتفّ بـ" وِزْرةٍ " مخططة بالأبيض والأحمر. قال محسن وهو يقدِّمه : حاجي ال هود . صافحني الرجل بقوّةٍ . على الحوائط ، داخل منزل الحاج ، تتبدّى صور للكعبة ومكّــة ، ولرجالٍ ذوي عمائم يركبون جِـمالاً بين النخيل ، و يغمرهم ضوءُ فضةٍ من القمـــر . سـرعان ما انضمّ إلينا آخرون من آل الجفري ، خالعينَ نعالَهم عند الباب ، ومُـعَـدِّلينَ وِزراتِهم قبل أن يتخذوا مجلسهم حولي على الأريكة والكراسي . كانوا حوالي اثني عشــر ، تتراوح أعمارُهم بين الثلاثين والسبعين . أوّلُهم كان سيحان ، يعتمر طاقيةً بيضاء كبيرة ، وهو ذو وجهٍ شاحبٍ ، وأذنينِ كبيرتين ، ووجهٍ كئيب . إنه مؤرخ العائلة ، والأكبرُ ســنّـاً . وهو والد محسن ، وحفيد السيد عبد الله . كان ودوداً ، مثل الجميع ، لكني لم أره يبتسم إلاّ نادراً . إلى جانبه كان صالح الجفري ، وهو أصغر سنّـاً من سيحان ، لكنه أكبرُ من هود وأطولُ قامةً . لم أستطع أن أعرف أسماء الآخرين ، لكني أتذكر من بينهم حسن الجفري وأبوبكر . رحّــبوا جميعاً بي ، لكن ليس كترحيب هود ، ومحسن بصورة خاصة . أخبرني سيحان أن حوالي مائتي عربي يعيشون في بيراو وبولونغان ، لكنّ القليل منهم يتكلم العربية . كلهم يتكلم الباهاسا الأندونيسية ، فاللغة العربية لا تدرَّس في المدارس . أمّـا عن جَـدِّهم الشهير ، السيد عبد الله ، ابن السيد محسن الكبير ، الذي سكنَ 36 ساحة رافلز بسنغافورة ، فهم يعرفون الكثير . سألني أحدهم إن كان هناك شخصٌ ألمانيٌّ في تانجونغ رديب ، زمن عبد الله ، أخبرتُهم عن أولميير والكابتن لنجارد ، وكيف استطاعَ السيد عبد الله إخراجهما من البيراو ، بفضل بُعْــدِ نظر أبيه ، حين اشــترى بواخرَ . قرأتُ لهم من دليل سنغافورة والمضائق لسنة 1883: " سيد محسن بن صالح ، تاجر ومالك سفنٍ ، 36 ساحة رافلز ، مع فروعٍ له في براو وبولونجان ، ووكالات في ساماران وسورابايا وبالي وماكاسّـار وبولو لوت وسايغون وبينانغ وغالّ وكاريكال وعدن وجدّة والسويس . * قرأت لهم ، بطيئاً ، مع أفضل ما يستطيع أيدي من ترجمةٍ ، نعي السيد محسن ، المنشور في جريدة "صحافة سنغافورة الحرة " Singapore Free Press بتاريخ 22 مايس 1894: اليومَ غابَ وجهٌ آخرُ من الوجوه القديمة لسنغافورة ، مع السيد محسن بن صالح الجفري ، التاجر العربي ، الذي امتلك لعشرين أو ثلاثين عاماً ، تجارةً واسعةً ، وعدة بواخر هنا . جاء أولاً إلى سنغافورة حوالي 1840 ، باعتباره نوخذة ، أو قبطان سفينة تجارية عربية ، وبعد أن ادّخر قليلاً من الدولارات فتحَ دكاناً صغيراً في الشارع العربي . ومع الوقت جمع ثروةً واشترى بواخرَ ، وصار غنيّـاً . لكن أعماله التجارية لم تزدهر أكثر ، بسبب تبدّل الوقت ، وكون الأساليب التي كانت تستخدَم قبل عشرين أو ثلاثين عاماً لم تعُد صالحةً مع التغيرات التي حدثت بعد فتح قناة السويس ، والبواخر السريعة ، وما رافـقَ ذلك من تأثيرٍ على البلدان المحيطة بسنغافورة . وفي 1891 أُجبِـرَ على تسليم إدارة شؤونه إلى هيئة دائنين ، وفي ذات الوقت انطفأَ بصــرُهُ الذي كان يضمحلُّ منذ حينٍ . كان مقرّه في المبنى المجاور البنكَ الشرقي الذي هُدِمَ قبيلَ زمنٍ قريبٍ . ربما لم يكن هناك تاجرٌ محليٌّ أكثر شهرةً في سنغافورة ، أيام زمانٍ ، من السيد محسن ، لكنه في السنوات الأخيرة ، وبسبب حظه العاثر ، لم يعد يذكره إلاّ قدامى المقيمين . اشتدَّ عليه المرضُ لعدة أسابيع ، وكان موته متوقَّـعاً . جرى التشييع في الثانية عصرَ اليوم ، وكان هناك جمعٌ كبير . العرب المعروفون جميعاً ، والمقيمون الأوربيون القدامى ، كانوا حاضرين . كان في حوالي الثمانين من العمر . * خيّـمَ الصمتُ . آلُ الجفري كانوا يتفكّــرون في هذا كله . وفي الصمت الـمُـطْـبِقِ قال صالح : السيد عبد الله مدفونٌ هنا … لندن 29/8/2004
|