ســـعدي يوســف في أوائل أيلول 2004 هذا ، ذهبتُ رفقةَ صديقةٍ لي ، إلى الطرف القصيّ من كورنوال Cornwall جنوبيّ غربيّ انجلترا ، مع وهمِ النزول إلى الــماء ، وقد حدثَ ذلك ، فعلاً ، لكن لخمس دقائقَ فقط . كان الماء بارداً حتى لتحسّ أنك في مَـغْـطَسِ ثلجٍ … واقعُ الحالِ أن مقصدي الأساسَ كان الإقتراب من المكان الذي وُلِــدَ فيه أوستِـنْ ويليامز Austin Williams ( لورد جِـمْ ) في رواية جوزيف كونراد الشــهيرة .
ذهبتُ إلى سانت آيفِـز Saint Ives غيرِ البعيدةِ عن بورثليفن Porthleven ، مرفأ الصيد الصغير ، مسقط رأس لورد جِـمْ ، ذي الشاطيء المنفتح شأن شاطيء سانت آيفيز ، مثل حدوة حصانٍ . وهنا أيضاً ، في فلموث Falmouth ، هبط جوزيف كونراد ، العامَ 1882 ، ليمضي تسعة شهورٍ ، تُـرَمَّـمُ فيها الســـفينة " فلسطين " كي تتمكن من البقاء وبلوغ مضيق بانغكا في الشرق البعيد ، حيث ســتنفجرُ . أوســتن ويليامز ( لورد جِـمْ ) لم يعُــد إلى بورثليفن ، بعد فضيحته البحرية ، حين هجرَ ، وهو القبطان ، السفينةَ جَــدّةَ التي كانت تقلُّ حجّــاجاً من مســلمي الأرخبيلات . كان لا يريد العودةَ إلى مسقط رأســه مجللاً بالعار . فلقد كان أبوه ، القسيسُ الصارمُ ، بانتظاره ، متجهماً أكثر من عادته … * وفي أواسط أيلول ، وتحديداً في الثامن عشــر منه ، اتّـجهتُ ، مع الصديقة إيّـاها ، إلى الجهة المعاكسة ، من جنوبيّ انجلترا ، إلى كَـنْـتْ Kent ، نحو كانتربري ذات الكاثدرائية الشهيرة ، الـمَـحَـجّ . لم نُطِـل مكثاً في كانتربري ، إذ كانت غايتنا قرية بيشوبسبورن Bishopsbourne ، حيث أمضى جوزيف كونراد ســنواته الأخيرة ، مقيماً بمنزل أوزوالد Oswald's اللصيق بكنيسة القرية . من الطريق الرئيس ، تظهر علامة بيشوبسبورن ، فتنطلق السيارة بطيئةً ، في دربٍ ضيّــقٍ ، لتكون بعد دقائقَ ، حسبُ ، عند الكنيسة . نهبط من السيارة ، ونتجه إلى الكنيسة ، إلى مقبرتها . فجأةً يبرزُ رجلٌ باسمُ الأسارير ، يبدو أنه هبطَ القريةَ معنا … - أتبحثانِ عن جوزيف كونراد ؟ - نعم . - وصلتُـما . هاهي ذي الكنيسة ، وأمامكما منزل أوزوالد … - والقبر؟ - جوزيف كونراد لم يُدفَن في هذه المقبرة . إنه كاثوليكيّ . - أين دُفِــنَ ، إذاً ؟ - في مقبرة القديس توما الكاثوليكية بكانتربري … أعلينا ، إذاً ، العودةُ إلى كانتربري ؟ قال الرجل ( وهو مؤرخُ المنطقة ) : بإمكانكما التجول في القرية . بعض منازلها من القرن الخامس عشــر . ربع ساعةٍ كان كافياً للتجوال . ليس من أثرٍ يدلُّ على كونراد . المركز الإجتماعي للقرية يحمل لوحة : قاعة كونراد Conrad Hall ولا شــيء سوى ذلك . ذهبنا إلى الحانة ، وكانت توشك على الإغلاق . قلنا لصاحب الحانة إننا جئنا نسأل عن كونراد ، وجدْنا أنه لم يدفَـن هنا ، فهو كاثوليكيّ . حين انصرفنا كان روّاد الحانة يقهقهون : كاثوليكيّ في بيشوبسبورن ! منزل أوزوالد ، حيث أقامَ كونراد كان منزلاً واسعاً ، ذا حديقةٍ واســعةٍ جداً ، ومداخنَ معتبَــرةٍ . ليس من جرسٍ على الباب . وهناك لوحةٌ ذات حروفٍ صغيرةٍ تقول : الدخول على مسؤولـية من يدخل . ولوحةٌ ثانية تكاد تَـخْـفَـى : احذَر الكلاب . دُرنا حول المنزل ، علّـنا نحظى برؤية أحد ســاكنيه … لا أحد ! * في مقبرة القديس توما الكاثوليكية بكانتربري ، كان قبر كونراد بلا صليب . شاهدة قبر ضخمة من الحجر الأبيض ، منقوش عليها بالأســود العريض : جوزيف تيدور كونراد كورزينيوفسكي وُلِـدَ في الثالث من كانون أول 1857 توفِّـيَ في الثالث من آب 1924 ثم تلي ذلك كتابةٌ تقول : رقادٌ بعد عناء ، مرفأٌ بعد بحارٍ هائجة طمأنينةٌ بعد حرب ، موتٌ مُسَــرٌّ بعد حياة . لندن 22/9/2004
|