بوح:سعدي يوسف: العراق شاعراً |
|
|
عنوان البريد الإلكترونى هذا محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تفعيل الجافا لتتمكن من رؤيته
:بعد عشر حلقات من »المنفى الشعري العراقي«، تناولنا فيها تسعة شعراء عراقيين: من المتنبي إلى البياتي، ها نحن في حضرة رمز كبير من رموز المنفى العراقي: شاعرنا: سعدي يوسف. بعد ستة أعوام من ولادة الأربعة الكبار: السياب، الملائكة، البياتي والحيدري، ولدَ سعدي يوسف عام 1934 وترعرعَ طفلاً في مدينة أبي الخصيب حيث يتطلّع الناس إلى مطاولة النخيل. . والطفولة بالنسبة لسعدي يوسف تظل (الكنز الذي لا يُنتهب. هي المشهد الأول، ولا شيء يعدل المشهدَ
الأول). أتمّ دراسته الثانوية في ثانوية البصرة عام 1949، وإلى حيث يتوق كل الأدباء آنذاك، درس سعدي يوسف في دار المعلمين العالية ببغداد خلال الأعوام 1950-1954. في الثامنة عشرة من عمره أصدر عام 1952 ديوانه البكر (القرصان)، ثم تبعه عام 1955 بديوانه (أغنيات ليست للآخرين)، وقد مثّلَ هذان الديوانان »تدريباً أولاً«، على حد تعبير الشاعر نفسه، لتجربةٍ ستؤكد حضورها في فضاءٍ مزدحمٍ بشعراء لا يخفي أيٌّ منهم إظهار أنّ لديه أكثرَ من جناحين في فضاءات التحليق. بعد تخرّجه من دار المعلمين العالية عمل مدرّساً في ثانوية أبي الخصيب ما بين 1954-1957. وخلال العام الدراسي 1957-1958 انتقل إلى الكويت ليعمل مدرّساً في ثانوية الفروانية. وبعد نجاح ثورة الرابع عشر من تموز 1958 عاد إلى العراق ليعمل (1959-1962) مدرّساً في ثانويات البصرة وبغداد وموظفاً في مركز وسائل الإيضاح ببغداد. وفي هذه الفترة انهمك سعدي يوسف في رسم صورة الإنسان البسيط وكتابة قصيدة الحياة اليومية، التي كانت وقتها ضرباً جديداً من الكتابة في الشعر العراقي، فأصدرَ ديوانيه (51 قصيدة) عام 1959 و(النجم والرماد) عام 1960. وفي تقويمه شخصياً لديوانه (51 قصيدة) قال سعدي يوسف: (في مجموعهِ أسّسَ لنداءٍ مختلف، نداءٍ ليس جمعياً كما قد يتبدّى). ومنذ مطلع شبابه اختار سعدي يوسف الضفة التي تحتضن قضايا الناس وهمومهم وتطلعاتهم، وهي ضفة لا تروق لأيٍّ من الحاكمين، ملكيين وجمهوريين، فتمّ اعتقاله عام 1962 في البصرة ليُحال بعدها إلى سجن نقرة السلمان ثم إلى سجن بعقوبة. وما أن أُطلقَ سراحُهُ عام 1964، بعد عام أسود من حكم الفاشيين، غادرَ العراق في رحلة منفى ستطول بقدر ما أرادَ المستبدون للزمن العراقي أن يتخبط في دوراتٍ عجائبية خارج منطق التاريخ، فانطلق سعدي من بيروت إلى الجزائر ليمكث فيها مدرّساً في سيدي بلعباس حتى عام 1972. أصدرَ عام 1965 ديوانه (قصائد مرئية)، و (بعيداً عن السماء الأولى) عام 1970، وهو عنوان يلمّح إلى تأثيرات المنفى، ثم إشارة أخرى إلى جغرافيا المنفى في عنوان (نهايات الشمال الأفريقي) عام 1972. ومنذ ذلك الحين ذاع صيت سعدي يوسف حتى بلغَ أوجّه مع (الأخضر بن يوسف ومشاغله)، عام 1972 أيضاً ولكنه صدرَ ببغداد، بالتزامن مع عودته إلى العراق في ظروف سياسية أكثر استقراراً ليعمل موظفاً بوزارة الإعلام وسكرتيراً لتحرير مجلة »التراث الشعبي«. لم يحظَ شاعر عراقي بقدر ما كان لسعدي يوسف من جماهيرية ثقافية تحقّقتْ له دون أن يبادلَها تغليبَ السياسةِ على الشعر. فقد كان على الدوام - في فترة نضجه الشعري - ملتصقاً بالقصيدة وجمالياتها حتى لو كان في خضم الجماهير. ولم يركض سعدي يوسف خلف الحزبيات طلباً لمجدٍ شعري بأدوات غير شعرية، بل على العكس من ذلك لهثتْ خلفه قوى اليسار ليكون شاعرها دون شروط، فكان حرّاً في قصيدته، لا يداهن ولا ينافق، ينتمي إلى نفسه دون أن يتخلّى عن المجموع، وهو القائل: (أسيرُ مع الجميع وخطوتي وحدي). ويقول محمود درويش عن سعدي يوسف: »هو أَحد شعرائنا الكبار الذين قادهم الشعر أَو قادوه إلى التمرّد على تعالي اللغة الشعرية، وإلى تأسيس بلاغة جديدة، ظاهرُها الزُهْدُ، وباطنُها البحث عن الجوهر... ليصبح الشعر في قصيدته هو الحياة«. لم يدخل سعدي يوسف في أية صراعات حول رياداتٍ ما، أو مقاماتٍ ما، بل ظلَّ ينحت قصيدتَهُ بهدوءٍ جليل بعيداً عن الضجيج والباحثين عنه. ولا يختلف النقاد والمثقفون العرب حول كون سعدي يوسف واحداً من أبرز ثلاثة شعراء عرب معاصرين: إضافة إلى أدونيس ومحمود درويش، لكلٍّ خصوصيته في الكتابة الشعرية، دون مفاضلة. ويشهد محمود درويش: (سعدي يوسف، الذي يحاور نَصُّه الشعري تاريخ الشعر، لا يشبه شاعراً عربياً آخر). اضطرَّ عام 1979، كما فعلَ آلاف من المثقفين العراقيين، إلى مغادرة العراق ثانيةً إلى المنفى، وقد أحزنَه أن ينضم بعض الشعراء إلى جوقة السلطة: قالت ليَ فتاةٌ: غادرَ الشعراءُ! - أينَ؟ - إلى الوليمةِ. - كلُّهم؟ - كلُّ الذينَ عرفتَهم. توجّه سعدي يوسف للإقامة ببيروت عام 1979 محرّراً في وكالة الأنباء الفلسطينية. وفي العامين 80-1981 انتقل للعمل مدرّساً في جامعة باتنة بالجزائر، ليعود عام 1982 إلى بيروت شاهداً على الاجتياح الإسرائيلي. وخلال الفترة من 1974-1982 أصدرَ سبعة دواوين (إضافة إلى الطبعة الأولى من الأعمال الشعرية)، وكان أبرزها: تحت جدارية فائق حسن، الليالي كلها، وقصائد أقل صمتاً. في عام 1982 انتقلَ إلى عدن (جمهورية اليمن الديمقراطية) ليعمل مستشاراً ثقافياً حتى عام 1986. ويتوسّع منفاه إلى قبرص وتونس ويوغسلافيا ممتهناً العمل الصحفي، ثم يقيم في باريس 91-1992، ويرئس تحرير مجلة (المدى) من 1993-1999 متنقلاً بين الإقامة في عمّان ودمشق. ومنذ عام 1999 حصلَ على اللجوء السياسي في لندن حيث يقيم الآن. ومنذ عام 1979 أصبح سعدي يوسف في المنفى رمزاً عراقياً كبيراً على أكثر من مستوى: الشعري، والثقافي، والوطني، والسياسي (بمعنى الصفاء، بمعنى أن تكون ابناً باراً للوطن دونَ أن تلوّثَكَ السياسة بشوائبها). اصطفَّ سعدي يوسف إلى قضايا شعبهِ طوال عمره المديد دون أن ينكفئ يوماً على فردانيتهِ، ودون أن يتعب من دفع الأثمان الباهضة لضريبة الشرف الوطني في زمنٍ داعر، ودون أن تهزمه المحن كما هزمتْ سواه، ودون (وهذه آخر رايات شرفهِ) أن يلوّحَ بيدٍ (شُلّتْ أيديهم!!) لغزاةٍ جاءوا من آخر الدنيا لتدمير بلادنا، لا لشيء مما يقال وإنما لأننا عراقيون، لم يكسرنا كما كسرَ الآخرين من قبلنا. أهْوَ ذَنْبُكَ أنكَ يوماً وُلِدتَ بتلكَ البلاد؟/ ثلاثةَ أرباعِ قَرنٍ/ وما زِلتَ تدْفَعُ من دمِكَ النَّزْرِ تلكَ الضريبةَ: (أنكَ يوماً وُلِدتَ بتلك البلادî). وقد واظبَ سعدي يوسف طوال سنوات الاحتلال على مقاومة الاحتلال وعملائه بمقالات سياسية لاذعة لعنت المفضوح وفضحت المستور. وفي الوقت ذاته شرعَ في كتابة نصوص شعرية ونثرية يومية تحمل الذات على »قلق الريح« بين تفاصيل الوطن البعيد وتفاصيل المنفى: اليومَ تنطفئ قناديلُ البصرةِ في عينيّ، قنديلاً إثْـرَ آخرَ. هذا القتلُ كلُّــهî هذا الظلامُ الـمُطْـبِقُ كلهî هذا الذبحُ، الشاملُ بني البصرةِ، والتاريخَ، والجيرةَ، والثقافةَî احتلالاتٌ مكثّـفةٌ وإطباقٌ على الأعناق. هل بقيَ من البصرةِ شــيءٌ ؟ ويأتي السؤالُ: هل بقي من ســومرَ شــيءٌ ؟ هدمُ الحضارةِ ســجيّـةٌ وشــيمةٌ لدى البرابرة. هذا الهدمُ هو المتسيدُ في البصرة الآن. البصرةُ لم تَعُدْ لأهلها. لقد قاومَ سعدي يوسف قسوة المنفى بالشعر، وربما يكون الشاعر العراقي الأكثر غزارة في الإنتاج (إن لم يكن على المستوى العربي) حيث أصدر حتى الآن ستةً وثلاثين ديواناً (بينها ثلاث طبعات من الأعمال الشعرية)، وثمانية أعمال أخرى بين رواية ومسرحية ويوميات، وترجم إلى العربية عشرة دواوين وأربعة عشر كتاباً بين رواية ودراسة. وآخر دواوينه (حفيد امرىء القيس) صدر عام 2006. وبذلك يكون مجموع إصداراته ثمانيةً وستين كتاباً. وإذا أضفنا إليها أربعة دواوين له ترجمت إلى اللغات: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، فإن عدد كتبه سيساوي عدد سني عمره. ونحن نغمرُهُ بالضمائر والأفئدة والشعر من أجل المزيد من السنوات والمزيد من الكتب. ولكن لسعدي لوعةً: يا عمراً طالَ بلا معنىً أو مغزىً.. هل تسمحُ لي لحظاتٍ أن أنصتَ للمطرِ؟ اثنان وسبعون عاماً (نريده عمراً مديداً وشِعراً مديداً)، أمضى منها سعدي يوسف زهاء سبعة وثلاثين عاماً في المنفى. عمرٌ شخصيٌ وشعري يرفل بالسمو، لم يحنِ خلاله رأساً، ولم يضطره أي ظرف من الظروف العصيبة أن يقول للكلب حاج كليب. إنه العراق شاعراً: سعدي يوسف.
|
اخر تحديث الخميس, 08 نونبر/تشرين ثان 2007 16:51 |