الحصـــانُ والـجَـنِــيْـبَـةُ |
|
|
Horse and barge شعر : ســـعدي يوســـف يتعيّـنُ عليَّ إيضاحُ أنّ الجنيبةَ ( الدُّوبة بالدارجة العراقية ) هي واسطة نقلٍ نهرية مسطّحة من الحديد ، وقد اتخذت اسمها لكونها تنتقل جنبَ الضفة ، وفي العراق كان الرجال الكادحون ، وهم على الضفة ، يسحبونها موثقينَ إلى الجنيبةِ بحبالٍ ، قبل أن تأتي المحرِّكاتُ مع الحرب العالمية الثانية . في إنجلترا العتيقة قامت الخيل مقامَ البشر في جَـرِّ الجنائب على امتداد شـبكة القنوات العظمى The union canal.
أعتقدُ أن عبد الكريم قاسم كان أرادَ أن تكون ( قناة الجيش ) بدايةً لما يشبه القنواتِ العظمى . ( كان في دورةٍ بريطانيّـةٍ ، بلندن ، للضبّـاط الأقدَمين العراقيين ، والتقى محمد مهدي الجواهري ) النصّ يهتمّ بحانةٍ كبرى على القناة اللندنية ، تحمل اسـمَ " الحصان والجنيبـة " ، Horse and barge ، اعتدتُ ارتيادها ، وهي ليست ذات خصوصيةٍ معيّنة ، بل أنها أقربُ إلى الرثاثة ، إنْ أردتَ الحقَّ ، لكنها ذاتُ حديقةٍ كريمةِ الإتّـساع تُذَكِّــرني بالبارات الصيفية في بغداد ، قبل حملة صدّام حسين الإيمانية ، وهذا التاريخِ الأميركــيّ العجيبِ الذي جعلَـنا أقربَ إلى مكةَ من واشنطن . وثـمّتَ جنائبُ ضـيِّــقةٌ تُـتَّـخَــذُ مساكنَ دائمــةً . سـكَـنةُ الجنائب الضيّــقة Narrow boats يؤمّـون المكانَ لأنه ملتصقٌ بمرســىً لهم يُدعى بالإنجليزية الفصيحة غيرِ المعتبرةِ كثيراً لدى السكَـنةِ : Marina ، وهؤلاء يشكلون شريحةً اجتماعيةً حقاً. هذه الشريحة تُعتبَــرُ خارجَ السائد عموماً في الطبع والـمَـلبس واللهجـةِ .. وللمناسـبةِ ، بمقدورنا ، بعد هذا الشــرحِ كله ، أن نقرأ قراءةً واقعيّـةً قولةَ سان جون بيرس : ضيِّـقةٌ هي المراكبُ ، ضيِّـقٌ ســريرُنا . وعلى أيّ حالٍ ، ســوفَ أبتاعُ جنيبةً ضيِّـقةً ، ولسوف تكون ذاتَ ســريرٍ ضيِّـقٍ حُـكماً ! لكنْ ، في هذا المطر الدائم ، المطر غير المرئيّ ، المطر الذي يشــبهُ زجاج المـطارات … أقولُ : في مثل هذا المطر ، يكون الكلام عن الماء والقنوات والمراكب الضيِّــقة ، سخيفاً تماماً ؛ لِــمَ لا أتكلّــمُ عن مزارع تربية الخنازير مثلاً ؟ كنتُ أتابعُــها من نافذة القطار المنطلق من لندن إلى أدنبرة في الشمال . وفي العودة لم أرَ المزارعَ . سألتُ رفيقَ الرِّحلةِ : أين ذهبت الخنازيرُ ؟ قال : لا أدري ، لكن من الممكن جداً أنهم أكلوها ! حســناً … تقصدُ أن البشــر أكلوا كل تلك الخنازير ؟ خذ الكوسج ( سمك القرش ) … كم إنساناً تأكلُ الكواسجُ كلَّ عامٍ ؟ ثلاثةً ؟ أربعةً ؟ قُلْ خمسةً . وهناك سينما وفَـكٌّ مفترسٌ … إلخ . حسناً … اذهبْ إلى الـمَـسْـمكة ، لا تذهبْ بعيداً جداً ؛ اذهبْ إلى سوق الأسماك في " مَـسْـقَـط " فقط . ألا ترى الكواسجَ الصغيرةَ ؟ Baby sharks ? … لكن أسماك القرش ليس لديها ســينما ، أي أن الكواسج لم تنجب مخرجين مـثل مخرج الفكّ المفترس … لكي نرى فكَّ الإنسان والتهامَ الفريســة . فيكتور هيجو في " كادحو البحر " وصفَ أخطبوطاً هائلاً ، وصراعَ الإنسانِ للتخلّــصِ منه . اذهبْ إلى بيروس ، مرفأ أثينا … اذهبْ إلى المطاعم في تلك البلاد ، وعلى انتشار اليونان الكبرى في إيجة والمتوسط … هل بمقدورك أن تحصي عـديدَ الأخطبوطات التي يلتهمها اليونانيون كلَّ يومٍ ؟ لِــنَــعُـدْ إلى المراكب الضيِّــقة! أمسِ في " الحصان والجنيبة " … لا ، لا ، لا ، الآنَ في الساعة الثالثة عشرة والدقيقة العشرين تماماً ، يومَ الخامس عشر من كانون أوّل 2004 ، نظرتُ من نافذة المطبخ ( المضبّــبة قليلاً ) ، إلى الحديقة المشتركةِ ، و البَــرِّيةِ الوحشيةِ بعدَها ، والبحيرةِ المتلألئةِ في البُعدِ القريبِ … على الأرضية الخضراء ، كان ما خلّـفه الخريفُ المنقضي من ورقٍ بُــنِّــيٍّ ، يتحركُ كالزرازيرِ . الـبطُّ المهاجِــرُ عبَـرَ منذ الصباح غيرِ الباكرِ . تذكّــرتُ قصيدةً لبدرٍ ( السياب ) لا يتذكّــرها أحدٌ : صيحاتُ البطِّ الوحشــيّ . كانت أيضاً طيورٌ ســودٌ متوسطة الحجم . هي ليست الطيورَ السودَ الصغيرةَ . ليست الغربانَ . قالت لي صديقتي إنها تُدعى Starling ... لم تقُلْ ذلكَ اليومَ . قالت ذلك منذ أيّــامٍ . كنا في مطعمٍ _ حانةٍ ، على ضفة النهر العظيم تماماً ( أقصدُ نهرَ التيمس ) . كنتُ أرى الجسورَ ، الواحدَ يتلو الآخرَ ... قيلَ إن بغداد ستسقطُ بعد الجســرِ السابعِ ! لماذا ؟ ليس في بغداد سحرٌ ولا ساحرٌ … بغداد مدينةٌ ( ؟ ) متربِّــعةٌ على مَزبلتها مثل دجاجةٍ غـبيّـةٍ . الأتراكُ فقط حاولوا أن يصنعوا منها عاصمةً ، مثل ما حاولوا مع دمشــقَ … الأميركيون ليسوا بُــناةَ حواضرَ . الأميركيون هادمو حواضرَ . وعلى امتداد قارّتهِــم لن تجدَ حتى مدينةً واحدةً ذاتَ معنى متّــصلٍ . لِــنَـعُدْ إلى الـمِـراكب الضيِّــقة ! أمسِ ، مساءً ، في " الحصان والجَــنيبة " ، وتماماً عند البار ، رأيتُ شخصاً لـم أكن أتوقّــعُ أن أراه ، شخصاً طالَـما مررتُ به ، وهو في جنيبته ، على القناة ؛ أحيِّــيه فلا يجيب . أبتســمُ لِـمَـرآهُ فلا يردُّ . هل أتذكّــرُ الفرزدق؟ فما رَدَّ السلامَ شــيوخُ قومٍ مررتُ بهم على سككِ البــريدِ ولا سِـيْـما الذي كانت عليهِ قطيفةُ أُرجوانٍ في القُــعــودِ في هذا الشاهد من شرح ابن عقيلٍ ، يحكي الفرزدقُ عن كلابٍ مرَّ بهم . حيّـاهم فلم يردّوا … إنهم شيوخُ القوم ! على أيّ حالٍ ؛ هذا الذي لم يكن ليردَّ ، رأيته جليسي . أنا أيضاً أحبُّ الجلوسَ إلى البار ِ ، لا على كرسيّ عند طاولةٍ … قلتُ له : أنا أراكَ دائماً . أجابَ : أنا أراكَ دائماً أيضاً . قلتُ له : وأراكَ ساهماً دوماً ! أجابَ : وأراكَ ساهماً دوماً … قلتُ : عجيبٌ ! قالَ : عجيبٌ ! سيكون المســاءُ ثقيلاً ، مثقَلاً . أُفـكِّــرُ في شــراء جَــنيبةٍ . سيكون لي ســريرٌ ضيِّــقٌ فيها ، كذلك الذي ذكَــرَه سان جون بيرس . وسـأُوصي الـمرأةَ التي أُحبُّ بأن تقتصد في تناول الطعام … لندن 15/12/2004
|