1.1.1934 – 12.06.2021
سعدي و انا التقينا في خريف العمر ... كلانا عاش حياة ثرة غنية في سبعينات القرن الماضي ، كلانا كان يعمل في المجال الأبداعي خلال تلك الفترة، التي كانت في رأيي الشخصي تمثل عصراً ذهبياً في تاريخ العراق المعاصر.
كان قبولي كطالبة في قسم المسرح في اكاديمية الفنون الجميلة عام 1970 صدفة غيرت مجرى حياتي..... كان المكان يعج بالحياة تعرفت فيه على طلاب و طالبات من طبقات أجتماعية مختلفة و ذوي أتجاهات فلسفية و سياسية متباينة فمن المثالية إلى المادية فالوجودية... شيوعيون، بعثيون، عبثيون ، ماركسيون .. كانت الأحاديث و النقاشات تحمي و تشتد حين يدور الموضوع حول السياسة .... في هذا الوسط بدأت بالتعرف على عالمٍ جديد كان غائبا عني ..مرحلة غنية أثْرت و أثرت على حياتي فيما بعد.، كنت أذهب مع زملائي و أصدقائي لمشاهدة ، المعارض التشكيلية و حضور الندوات و القراءات الشعرية التي تعرفت من خلالها على أسماء شعراء لا علاقة لهم بشعراء العصر الجاهلي أو العباسي الذين كنا ندرسهم في المدرسة .. شعراء لم اسمع بهم من قبل ، ينتمون إلى ما يعرف ب "الشعر الحر" كعبدالوهاب البياتي و بلند الحيدري، فاضل العزواي، بدر شاكر السياب ، مظفر النواب ، سعدي يوسف، حسين مردان ألخ ألخ
عام 1973 ، حضرت أول قراءة شعرية لسعدي يوسف في جمعية الفنانين التشكيليين و حضرت القراءةً الثانية في أتحاد الأدباء، و الثالثة في الجمعية البغدادية. ما شدني كممثلة، لمتابعة هذا الشاعر، هو ذلك الهدوء العجيب الذي يتسم به، و هو يلقي قصيدته : لا صياح، لا أنفعالات جسدية مبالغ فيها أو ليست في محلها. كانت كلماته تصلني هادئة شفافة مثيرة للتساؤل ........... .
مكتبة البيت في بغداد لم تخلُ من كتب الفلسفة و الشعر و الروايات العربية و العالمية لمؤلفين عرب و عالميين كذلك كانت تضم بعض الدواوين الشعرية لكبار شعراءنا كبدر شاكر السياب، سعدي يوسف و مظفر النواب و آخرين. دارات بنا الأيام و في عام 1979 أضطر الكثيرون ممن عملوا في الوسط الثقافي إلى الهرب و مغادرة العراق .... كنت أنا و سعدي من جملة من غادروا في تلك الفترة... و هكذا اصبحت المنافي البديل الأخر للوطن..
مرت سنوات تلتها سنوات أخر ، بدأ فيها أمل العودة يتضاءل بالتدريج و بالذات بعد سقوط نظام صدام حسين وأحتلال دول التحالف الغربية للعراق و تعاون الأحزاب اليسارية و الدينية مع المحتل عام 2003
في فترة دراستي لنيل الدكتوراه في موسكو في الثمانينات ،أخترت تقديم قصائد محببة لي من دواوين شاعري المفضل سعدي يوسف بطريقة تمثيلية ... كانت القصيدة الأولى:" تحت جدارية فائق حسن " التي كتبها عام 1973 و الثانية "شوق" كتبها في الكويت عام 1957
عام 2012 وجدت إسم الشاعر سعدي يوسف يتكرر على صفحات "الفيسبوك" ... كنت من المتابعات لصفحته. كان واضحا أن سعدي لم يتغير . لم يزل المدافع عن مصالح الشغيلة ، منتقدا و بضراوة سواء في قصائده أو مقالاته السياسية، الشخصيات السياسية و الأحزاب التي تعاونت مع المستعمر لإحتلال العراق عام 2003 من ضمنها الحزب الشيوعي العراقي الذي كنا أحد أعضائه في يومِ ما ... كانت قصائده و مقالاته تثير الجدل عند متابعيه من العناصر التقدمية و حملات شرسة متوالية من معارضيه و مناوئيه و التي كانت احيانا تنتهي إلى أغلاق صفحته على الفيسبوك
وهنا أتذكر جملة لا تسعفني الذاكرة الآن في تذكر اسم قائلها، و هيّ :" في شاطيء الرمل أغدو انا البوصلة" لقد كان سعدي الذي لا يتوقف صوته، بوصلتنا في الحياة.
كان سعدي مستقرا في لندن .أنا كنت اعيش في كندا
كنا نتراسل و نتبادل الأحاديث التلفونية بين الحين و الآخر... ما جمعني بسعدي في خريف العمر اننا ما زلنا نمتلك نفس الموقف السياسي و الحزن المشترك لما أنتهى إليه العراق .. كان صوته صوتنا بعد سقوط الحزب الشيوعي العراقي الذي أمعن في محاربة سعدي حتى وفاته
أخبرته عام 2013 برغبتي زيارة العراق الذي غادرته منذ خمسة و ثلاثين عاماً و رغبتي أيضا في زياته في لندن قبل عودتي إلى كندا .. تزوجنا في زيارتي الثانية له عام 2014 في مكتب بلدية اكسبرج في لندن.
لم يضع الوقت أثناء زياراته المتكررة لتورنتو، بل كتب عن الحواضر و القرى المحيطة بتورنتو ... و ترجمة ثلاثة دواوين لشعراء من فيتنام ، الصين و البرتغال
يذكر الشاعر العراقي فاضل العزاوي حقيقة لا يختلف حولها أثنان:
"إذا كان ثمة شاعر عربي حوّل كل حياته الى شعر فهو بامتياز سعدي يوسف الذي لا يمكن تصور وجوده أساسا في منطقة أخرى خارج دائرة الشعر".
كان سعدي من أكبر شعراء العرب و لحقبة أمتدت السبعين عاما . عند تعرفي عليه، كنت قد تجاوزت الستين و كان هو على عتبة الثمانينات . تعودت على وجوده في حياتي و احببت التأقلم على عاداته
لم يتخلَ سعدي عن عاداته: كان مستمرا على توضيب فراشه ، واحدة من العادات التي تعلمها في السجنون ،تهيئة ما يلبس، تشغيل المذياع لسماع الأخبار قبل القيام بتمارينه الرياضية الصباحية. سقي النباتات الموجودة في غرفة النوم ، الصالة، المطبخ، الحمام و أخيرا الدرج ... بعدها يذهب للمطبخ لإعداد القهوة تهيئة مستلزمات وجبة الإفطار بعدها يتوجه لأخذ حمام الصباح
الزاوية في أعلى الدرج الطويل المؤدي إلى مدخل البيت الرئيسي ، كانت مكان سعدي المفضل للإختلاء بنفسه. في الصيف تنشر الشمس ضوءها على هذه الزاوية و في الشتاء تسمع قطرات المطر القوية تضرب النافذة يأخذ فنجان قهوة الصباح و يفتح الكرسي المركون عند الشباك و يبدء بسحب سيجارته من العلبة المركونة على حافة الشباك . كنت في ذهابي و إيابي داخل البيت أرى دخان السيجارة يتصاعد ثم يختفي و سعدي هادئا لا يتحرك في عزلته
حين أراه ساهماً، محتضنا كفه بيده الثانيه، يمسد اصابعها بروية و هدوء أدرك على الفور ان القصيدة قد اكتملت بعدها يتوجه إلى جهاز الكمبيوتر منقضا على لوحته بلا توقف.
كان يطلب بعد أن ينتهي من النقر قراءة ما كتبه سواء كان ذلك قصيدة أو مقاله أو خاطرة... بعدها يسألني ان كنت جاهزة للتمشي .. نأخذ العصي و ندخل جنة هيرفيلد ببحيراتها و قناتها، غاباتها و التل الذي يحب سعدي صعوده.... نتحدث في موضوعات مختلفة اثناء السير بعدها نسكت و نعود لعوالمنا
نذهب الى مركز مدينة أكسبرج ، ندخل محل الكتب القديمة لنخرج بعدها بكتاب ممتع... نحب دخول محلات الملابس و الأدوات القديمة احيانا نعثر على بنطلون جينز قديم أو فازة للورد أو لوحة فنية او تمثال صغير مثير للإهتمام.
كانت ايامنا تنقضي هادئة هنية بعد ان تعودنا على بعضنا... كانت سعادتي ان أرا ه مرتاح البال . ربما تكون قد حدثت خلافات في البداية و لكنها أصبحت و بمرور الوقت فعلاً ماضياً.
حنين سعدي لبصرته و لأبي الخصيب و قريته حمدان لم يتوقف
لقد كان رحيل سعدي يوسف خسارة كبيرة تلحق بالشعر العربي و لكن ما يخفف هذهِ الخسارة الموروث الضخم الذي تركه لنا في مجلداته الثمانية و ترجماته المبكرة لشعراء عالميين كريتسوس، كفافي ، نغوين ثيو، لي بو ، نونو جوديس، أونغايرتي. علاوة على القصة و الرواية و النثر و المئات من البحوث و الأعمال النقدية.
الأماكن التي ولد و ترعرع فيها كانت تتسم بجمال و طبيعة خلابة قبل دخول الأستعمار .. كانت أشبه بجنات الله على الأرض و انا اقولها بصدقً و أمانة فأنا نفسي من مواليد البصرة و بقيت ازورها في صباي و أبقى في بيوت أعمامي بعد انتقالنا إلى بغداد... كنا نذهب بالقوارب و نسرح في قنوات و انهار و غابات النخيل الكثيفة في ابي الخصيب و حمدان مسقط رأسه
لم يكتب أو يُخلد أحد سحر هذهِ الأماكن قدر ما فعل سعدي في قصائده
كما أن سعدي كان الصادق الأمين و الوريث الشرعي لمن سبقه من شعراء بصرة العراق الكبار "كبدر شاكر السياب و محمود البريكان و بتجربتهما التي وصفها بحركة "التحديث الأعمق أثراً في الشعر العراقي فالعربيّ ".
و قول سعدي أنه تتعلم من محمود ... كما تعلم من بدر . تعلم أن الشعر هو في الموضوع ذي الجوهر. و هكذا اصبح المعروف عن سعدي بأنه ملك التفاصيل
الذين يعرفون سعدي يوسف جيداً يعلمون بأنه ساخر كبير و صاحب نكتة
أطلق على نفسه الألقاب التي أثارت غضب معاصريه
سمى نفسه بالشيوعي الأخير
لبس القرط و قال في ذلك: لا شاعر إلاّ سعدي يوسف الـمُـخَــلَّـد،
واطلق على نفسه لقب حفيد أمرؤ القيس لبلاغته.
لترقد بسلام يا صديقي و رفيقي و زوجي
إقبال
2024
|