سعدي يوسف
قبل سنين ، أظنُّها عشراً ، كنتُ مع أندريا ، على شاطيء بُحيرةٍ ، في جنوبيّ فرنسا
أندريا سبّاحةٌ ماهرة.
أمّا أنا فتكفيني من الأمتار خمسون!
على أيّ حال:
كانت أندريا تقطعُ البحيرةَ حتى ضفتها البعيدة.
بينما كنتُ أسلِّي نفسي بمتابعة الناس حول شاطيء البحيرة.
كانت امرأةٌ شابّةٌ تهزُّ طفلتَها على أرجوحةٍ ممّا يُنْصَبُ للناس:
Bateau
Sur l'eau.
Bateau
Sur l'eau.
والترجمة:
زورقٌ
على الماء.
زورقٌ
على الماء.
*
الطفلة المترجِّحة سوف تحفظ الكلماتِ . سوف تنطقُها فصيحةً ، تماماً كما ينطقُها الجنرال ديغول ، أو ميتِران ، أو يغَنِّيها جاكْ بْرَيلْ.
هكذا ينتقلُ الإرثُ اللغويّ ، الذي هو ، في مداه الأقصى ، هويّةُ أُمّةٍ.
*
عندنا، أعني في العراق المتخلِّف ، سوف يقول الطفلُ:
بَلَمْ
بالشّطّ!
*
أريدُ القولَ إن الدارجة ينبغي أن تظلّ في حدودها ، أداةَ تواصُلٍ بين أناسٍ ذوي مستوىً من التعلُّمِ معَيّنٍ ،
سبّبتْه ظروفٌ معيّنةٌ ، غيرُ حميدةٍ في النهاية.
أمّا إذا تسَيّدَتْ ، خطاباً عامّاً، وأغنيةً ، وفنونَ قولٍ ، فاقرأْ على الأمّة السلامَ.
*
ما معنى أن يكون في العراق عشراتُ الآلاف من الأمّيّين الذين يلوكون العاميّةَ ويعلكونها ، ويقدمونَها للرعاع باعتبارها وسيلةَ التواصُل والفنّ الـمُـثلى؟
ما معنى أن يكون لهؤلاء التافهين ، اتحادٌ ، أهمُّ بكثير من منتدَياتٍ للثقافة الرصينةِ ( إنْ وُجِدَتْ ) ؟
ما معنى أن يكون النصُّ الدارجُ ، كلماتِ الأغنية ؟
إذاً: ما ذا نقول لأمّ كلثوم، وفيروز، وعبد الوهاب:
يا شراعاً وراءَ دجلةَ يجري...
مرةً كنت أقرأُ في أمسيةٍ بالدانيمارك ، كما أظنّ.
كان كوكب حمزة حاضراً . يبدو أن قصيدةً ممّا قرأتُ أعجبتْهُ ، وأراد أن يتعامل معها تلحيناً.
قال لي: آهِ لو كانت مكتوبةً بالعاميّة ... إذاً لَلحّنتُها.
*
العامّيّةُ مقترنة بالتخلّف.
والأمم التي تفقد لغتَها ، تسْكنُ في الحضيض.
تماماً مثل ما نحن عليه الآن.
*
لي صديقٌ صينيّ ، أكاتبُه بين حينٍ وآخر ، ونتحدّث عن الشِعر الصينيّ ، عن الشاعر لي بو ، من القرن الثامن ، أي من عهد امريء القيس عندنا.
قال لي : ابنتي في الروضة ... حفظتْ اليوم قصيدةً من لي بو!
*
العربيةُ الفصيحة ليست أصعبَ من الصينيّة ، بأيّ حال.
لندن 27.12.2017
|