سعدي يوسف
Sequence. 1 Voice over
في هذا المساء الرطب - مساء لندن الرصاص، افكر بالاعوام الخمسين التي اعقبت اول نص شعري نشرته، كنت لاازال في ايام الطلب، استندت من عم لي عشرة دنانير لاطبع قصيدة طويلة في كراس، اعدت المبلغ الى عمي لا ورقة او ورقتين كما تسلمت، بل كيس من معادن مختلفة الاصوات، ومن تلك القصيدة كسبت الكثير: حزاما جلديا وكرسيا في السينما .
اليوم يؤنسني الشعور ذاته: انني اتحزم، احزم امري، واذهب الى الفن .
كيف قدر لي ، انا ابن القرية الفقيرة كأهلها، ان اذهب الى الفن وامضي في الذهاب ، حتى هذا المساء، حتى هذه اللحظة ؟ كيف قدر لي، ان اقطع القفار والبحار، واستبدل بمنزل الجد شققا نصف مفروشة ، وغرفات فنادق رخيصة. وبالمكتبة الاولى رفوفا ضعيفة تطوى وتنشر كالحقائب ؟ كيف قدر لي ان اقطع القنطرة بين مسجد قرية حمدان والطريق العام ، ذلك الحبل السري الذي هو الميلاد والموت ؟ وانت في غرفة صغيرة ، مائلة السقف ، في الطابق السابع من مبنى بلا مصعد ، في باريس انت لاتعرف اللغة الفرنسية ، والشجر الذي تلمحه من مربع الزجاج الصغير ( النافذه ؟ ) هذا الشجر لاتعر Sequence .3 Voice over
هل يخرج المرء من جلده ؟ لكن ازماننا العجيبة تاتي بكل عجيب . وهكذا تمادى الزمن في غيه ، ففرض علي ان اغادر البصرة ، مدينة مولدي وملعب صباي ، والانطباعة الاولى في العينين . فرض علي ان احملها واطوف بها ، ومعها ، حتى اقاصي الدنيا . لقد انطقتني الايام بلغات ثلاث ، وتنقلت في ارض العرب حتى عرفت لهجات اهلها الكثير، لكن اللهجة الاولى ، لهجة اهل البصرة لاتزال هي المتحكمة، لينا في النطق، وخفة في مخارج الحروف، وفصاحة. كم من احداث مرت علي، بعضها جسيم ، وكم من اناس عرفت . وكم من مطارات هبطت. وكم من بحار قطعت، ومدن رأيت . الا أنني لا ازال احتفظ بذلك الخجل شبه المرتبك الذي يمتاز به أهل البصرة .
Sequence. 4 Voice over
في الغالب اغادر المدن مرغما وفي الغالب ايضا ، ادخلها مرغما ، وحتى المدن التي احببتها اكثر من سواها باريس مثلا ، لم اذهب اليها كي اقم ، الامضطرا . كنت في تونس وكانت حرب الخليج الثانية ، تبعث نذرها في الآفاق ، وتعمق سايكولوجيتها اللاعقلانية في النفوس ، الحرب ، على الدوام ، تأتي مع قوانينها الخاصة بها . وتفرض بهستريا الهياج على الافراد والجماعات . في تونس تلك الايام ، احست انني مهدد ، اعني ان المكان لم يعد مناسبا لي كنت مدعوا من بيت الشعر في مدينة نانت, وكانت لدي تأشيره دخول الاراضي الفرنسيه حملت حقيبتي الصغيره,وحملتها بما يمكن ان ترفعه يد وذهبت الى فرنسا.
Sequence.5 Voice over
في باريس كانت حياتي صعبه,كنت مفلسا تقريبا,متشردا فعل,حتى لطالما اغلقت في وجهي ابواب,واغلقت امام وجهي وجوه. لم اكن اعرف اين سابيت الليل, الفنادق حتى رخيصها غال
Sequence. 6 Voice over
ماذا يفعل الشاعرفي المنفى ؟ على الشاعر في المنفى ان يتوطن,عليه ان يقيم علائق مع محيطه اقصد المشهد الطبيعي – البشر – اللغة ، وعليه ان يقيم توازنا نفسيا جديدا بينه وبين المحيط والا فقد امكان الاستمرار وسقط في الجنون. فله اسما، انه ليس النخل ،ولا الدوم ، ولا السيسبان . هنا ، في منتدبك بالطابق السابع ، لن يزورك احد رجلا كان او امرأه. حتى الشمس لاتمر بك الاعابرة، تحييك مسرعة من مربع الزجاج الصغير ، وتمضي لتضيء علما انت لست منه, الايام تمر ، ومع مرورها يقل هبوطك من الطابق السابع الى الشارع اوالمقهى اوالمطعم الرخيص الذي قد تصادف فيه احد من اصدقائك او معارفك القدامى, قد تقضي اسبوعا كاملا في المنتبذ العالي ، محشورا بين ارضية باردة وسقف مائل تشعر تدريجيا بانه يطبق عليك، حتي تضيق انفاسك فيما يشبه الاختناق .
Sequence. 7 Voice over
باريس التي ارتادها بين حين وآخر، وقد اقيم فيها اياما اوسنوات، وهي من بين المدن العميقة التي حاولت ان اقيم علاقة معها. لااستطيع القول اني نجحت في هذه المحاولة لكن لااتردد في القول بان المحاولة مستمرة، منذ النظرة الاولى وحتى اليوم. ليس بامكاني الحديث عن باريس مجرده. بامكاني الحديث عن مواضع تعلقت بها او علقت بي لاسباب مختلفة, بامكاني الحديث عن اناس، عن ساحات و مقاه، عن اشجار ، وايام احاد في الضواحي. انها مادة الحياه، وماؤها، وبالتالي فأنها مايظهر على السطح القصيدة، ومايغور في اعماقها ويفور.
Sequence. 8 Voice over
ليس في الشعر ما يريح. اعني: ليس في الشعر ما يريح الشاعر. لكنه يحمل الى الناس تلمسا واسئلة, ويحاول ان تكون عيونهم اكثر اتساعا واناملهم ادق ملمسا واذانهم ارهف سمعا. وهوبهذا المعنى، ياتيهم ببهجة الاحساس والمعرفة, وربما بالراحة المتاتية من هذه البهجه. أحيانا, يقولون لي: ألم تتعب- ما الذي انت واجده في عزلتك التي تكاد تكون منقطة الى الشعر وحده ليس لدي من جواب انها لطريقة حياة, زاوية نظر الى الكون واشيائه, ورياضة روح.
Sequence. 10 Voice over
اكتب في السادس من آب وقد دخلنا الشهر الثالث من حرب فريدة نحن محاصرون في بيروت . . . اسكن في الطابق الثامن من مبنى ذو اثنى عشره طابقا يواجه البحر – احد الاصدقاء اللبنانيين ترك هذه الشقة الخطرة ومضى مع عائلته الى مكان آمن. اقول خطرة لانني عندما ارتشف قهوتي الاولى في الصباح وانظر من الشرفه الى البحر، لا ارى غير البوارج الاسرائيلية امام وجهي. لست شجاعا ولكنني اختنق في الملجأ، جربته مرتين فلم استطع تحمل هواءه الثقيل .
Sequence.11 Voice over
الحصار مستمرعلى مدى الاربع والعشرين ساعة اتذكر ابيات من قصيدة لا راغون "السماء بأسرها تقضقض اسنانها اي مطر، اذن، تحمله هذه السحابة " قصف او كشف ، قصف وكشف ، قصف وقصف مبنى من عدة طوابق ينهار – مثل مبنى ورقي ، يهبط على بعضه ضاغطا البشر وخزان الملابس وغرفة العرس والمكتبة والصور العائلية مثل مكواه على غضون قماش .
Sequence. 12 Voice over
ماذا يفعل غير المقاتل هنا- ايجلس المرء في المنزل,ايتجول والتجول غير مأمون, ايتلهى بالكتابه بينما العصب مشدود ومتوتر, قد يفعل هذا كله لكنه يظل في اللاجدوى,ياخذ على نفسة هذا العجز الفاضح. حاولت جهدي قهر حالة الحصار, ربما نجحت في محاولتي طيلة شهرين,ولكن الحصار يزاد احكاما.
Sequence .13 صحيح انك مفعم بالتفاول القاسي, صحيح انك ما زلت على الارض التي احببت... ولكن... الم تحس بان قدميك لست بذلك الثبات المرتجى الم تحس بانك تحدق في شوارع بيروت كما تحدق في تفاصيل صوره, في تفاصيل ذكرى من لا يعذرك حينما تنهمر من عينك الدموع.
|