ترجمة:الشاعر سعدي يوسف
من كتاب بول ثيرو Paul Theroux
سِفارٌ في النجمِ الأسود Dark Star Safari
كانت هَرَر ، موقعَ حكايةٍ صغيرةٍ غريبةٍ ، كأنها ضمن كتاب بورخيس Ficciones ، حكاية بإمكاننا أن نسمِّيها " المنفى " .
ما دامت الوحدة وضعاً بشريّاً ، فإن المثال الصارخ للغريب الكامل هو الرجل الأبيض في إفريقيا السوداء ، وحيداً في موضعه ، شخصاً غير مرغوبٍ فيه .
الأشدّ بياضاً من هؤلاء هو الشاعر الشهير ، يعيش مجهولاً ، في بلدةٍ مسوّرةٍ ، بين سُودٍ أمّيّين ، وجَهلةٍ عليه أن يكسبَ احترامَهم باعتباره رجُلاً .
كان متكسِّباً متوحداً في مجتمعٍ منظَّمٍ من النخّاسين .رأسه يضجُّ بالشطحات السرياليّة ، والتعابير الشرّيرةِ ، بالرغم من أنه لاينطق بلغتِه إلاّ متكتِّماً .
الأفارقةُ لا يرونه إلاّ إفرنجيّاً عليلاً آخرَ ، في بدلة مهلهلةٍ ، يتجوّل في السوقِ المنتن ، ويراقبُ المجذومين يزحفون طالبين الصدقةَ عند المسجد ، ويسير في الأزقة ذات بَعر الماعز ، وودَكِ الجِمال المعلّق في المجزرة .
حتى المرأةُ القرويّةُ ذاتُ وجه الثعلبِ ، وغطاءِ الرأس الشفيف ، التي اتّخذَها عشيقةً ، لم تعرف تاريخه . وهو أيضاً لم يعرف تاريخَها ، كانا ضِدّينِ : أسود وأبيض . لكنهما احتَكّا ببعضهما . ربما كان سفره معها ( إلى عدن بين وقت وآخر ) دليلاً على أنه كان يحبُّها . لقد صوّرَها فوتوغرافيّاً مغامرٌ إيطاليٌّ ، وهي وصفتْ حياتَها مع الإفرنجيّ : ولَعه بالتصوير الفوتوغرافي ، كتبُه ، خرائطه ، هِميانُ نقودِه ، الرسائل التي كتبَها ، وكيف كان يكره أي حديثٍ عن ماضـــيه . ليست لديها أدنى فكرةٍ عن أصلِه . قال إنه أحبَّ الصحراءَ . كانت تجهلُ أنه تنبّأَ بكل العيشِ الغريبِ منذ سنين ، في قصائدَ وحشيّةٍ ، رؤيَويّة .
الشاعرُ في التاسعة عشرة الذي كتبَ " ينبغي أن نكون مُحْدَثِين تماماً " هو الآن يكاد يكون في الثلاثين ، وقد شابَ قبل الأوان ، يدوِّنُ بضرباتٍ من قلمٍ حادٍّ ، في سجِلِّ شركةٍ ، أوزانَ أنيابِ الفيَلة ، وأكياسَ البُنِّ ، التي ستحملُها قافلةُ جِمالٍ إلى الساحل . حماساتُه غير المتوقَّعة وضعتْه في حالةٍ فريدةٍ ، شأنها شأن لونِه – نُطقه اللغة العربية ، معرفته القرآن ، شغفه بالفوتوغراف ؛ لقد قطعَ إقليمَ " دناقل " الخطِر ، واستكشفَ بيداء أوغادين ، وكتبَ عن مسالكِها العنكبوتيّة وواحاتِها القليلة .
وقد كتبَ بعد رِحلةٍ شاقّةٍ " لقد ألِفْتُ كلَ شيء . أنا لا أخافُ شيئاً " .
أثمانُ البنادقِ أمرٌ آخرُ درسَه . لم يكن عربُ هَرَر أشدّ فضولاً ممّا هم عليه الآن . الفرنجةُ يأتون ويغادرون . لكن هذا المرءَ ظلّ بين جيئة وذهابٍ ، سنواتٍ عَشراً ، يسكن بيوتاً متواضعةً . كان يكره الطعامَ . لاأحد عرفَ ما في قلبِه ،ولا سمِع تمتماتِه الساخرةَ ، أو فهمَ قدرتَه على الكتمانِ . لقد أنكرَ ثروتَه، مدّعِياً أنه تعرّضَ للغشِّ ، بينما كان يكدّسُ أكياساً من نقود ماريا تيريزا ، وبنكنوت المَلِك .
في ما بَعدُ ، قصَدَه مبعوثو منيليك ، يتوسّلون بنادقَ وذخيرةً كان جاء بها في قوافل من الساحل . لقد عرفَ ماكونين والدَ هيلاسيلاسي . لقد ساومَه الملكُ شخصيّاً ، وأعانه في أن يغدو ثريّاً .
أسوأ يومٍ في حياته جاءَ هكذا :
في زورةٍ لعدَنٍ واجهَهُ مستخدِمُهُ الفرنسيُّ الكريهُ . كان الرجل متنفِّجاً بأخبارٍ مدهشةٍ .
فقد أخبرَه صِحافيٌّ فرنسيٌّ جوّابٌ أنه عرفَ اسمَ مستخدَمِه .
اتّضَحَ أن التاجرَ المغمورَ كان فتى فرنسا العبقريّ ، الشهيرَ بالشاعرِ المنحطّ .
كان الكشفُ مثل دعابةٍ شنيعةٍ ، فهذا الرجلُ الوسَطُ ، الخاملُ ، كان مذاقَ باريس الأدبِ . أبسِنثْ . سُكْرٌ . عربدةٌ . شِعرٌ حُرٌّ !
المستخدِمُ عنّفَه على هذا الإنحراف .
تاجرُ البُنِّ المريرُ في الموضعِ الإفريقيّ المتقدِّمِ ...شاعرٌ !
أخيراً امتلكَ الريِّسُ شيئاً ضدّه .
المنفيُّ أنكرَ ذلك . " أنا آخَرُ " ... قد كان كتبَ هذا يوماًما .
لكنّ المنفى وضْعٌ لا ينفعُ فيه التلاعبُ بالكلماتِ .
هكذا أقَرَّ ، أخيراً ، بما كان عليه ، إنه اللامعقولُ ، و " قد تخلّصتُ منه الآن ".
أنت تمضي إلى أقاصي الأرضِ لتبدأ حياةً جديدةً ، وتظنُّ أنكَ أفلحْتَ ، وإذا بالماضي ينقَضُّ عليك ، كما لو أن عدوّاً قديماً أمسَكَ بهاربٍ .
لقد كان سعيداً في مجهوليّتِه ، تماماً مثل رجلٍ أبيضَ في الغابةِ .
إنه الآنَ عارٍ .
هكذا ، رامبو في هَرر .
2016.12.03
|