سعدي يوسف
كأنْ لم يكُنْ بين الحُجونِ إلى الصفا أنيسٌ ، ولم يسمُرْ بمكّةَ سامرُ
بَلى ، نحن كنّا اهلَها ، فأبادَنا صُروفُ الليالي ، والجدودُ العواثرُ
*
السجونُ العراقية التي كنتُ نزيلَها هي :
سجن بغداد المركزيّ
سجن البصرة المركزيّ
سجن بعقوبة
سجن نقرة السلمان
وأنا لا أذكرُ ، الآن ، مراكزَ التوقيف ، وشرطة التسفيرات ... إلخ ، خشيةَ الملل .
على أي حالٍ : أردتُ القولَ إن سجن نقرة السلمان كان خيراً من السجون الأخرى.
إنه بمنأى عن الناس .
الذئاب ، وحدَها ، هي التي تجوسُ .
جاءتني المرحومة ، والدتي ، حفصة ، زائرةً ، متحمِّلةً طول الطريق ، من البصرة إلى النقرة ، تحملُ معها قالب ثلجٍ ، ملفوفاً بالجونيّة ، وفي غرفة المواجَهة ، فتحت الجونيّة لترى قالب الثلج ماءً !
لكني أعود لأقول إن " النقرة " كان خيراً من سواه :
السجن يعتمد مبدأ القاعات ، وهي مستطيلة ، مفتوحة على الساحة ، بلا أبواب . والحقّ أن القاعات كانت مَهاجعَ . نفترشُ بطّانيّاتٍ ، ونتغطّى بأخرى !
لكن الفضيلة العظمى للسجن كانت ساحته المفتوحة ، التي تبلغ ، في تقديري ، مساحةَ كيلومتر مربّع.
في الساحة كان التمشِّي طليقاً ، واللقاءُ حُرّاً .
والناس تعرف أن الهروب مستحيل .
حتى لو هربَ أحدٌ ( كما حصلَ مرةً ) فسوف تمصمصُ الذئابُ عظامه !
*
من المفيد أن أذكر أن هذا السجن بناه الجنرال غْلوبْ باشا ( أبو حنَيك ) ليردّ غارات الوهّابيّين!
*
بُعَيدَ 1963 شهدَ " نقرة السلمان " موسماً عجَباً !
جيء بالعسكريّين من السجن رقم واحد بمعسكر الرشيد ، بعد أن نجَوا ، بمعجزة ، هي من مأثرة سائق القطار ، قطار الموت ...
*
على أي حال !
في أحد الأيام ، وأنا أتمشّى متمهلاً في الساحة ، تقدّمَ مني شابٌّ من العسكريّين الذين قَدِموا في " قطار الموت " ...
كان يريد التعرُّفَ عليّ .
كان شابّاً شديدَ السُّمرة ، يكاد يكون في سيماه ، زنجيّاً .
سألتُه : لِمَ جاؤوا بك هنا ؟
قال : كنت سائقَ دبّابةِ .
استفسرتُ : لكن هذا ليس كافياً ليؤتى بك إلى هنا ...
قال : كنت شيوعيّاً !
استفسرتُ ثانيةً : هل قاومتَ الإنقلابيّين ؟
أجاب : لا ...
بل كنتُ سائق إحدى الدبّابات التي اقتحمت وزارة الدفاع !
قلتُ مستنكراً : كيف فعلتَ ذلك وأنت شيوعيٌّ ؟
أجاب بهدوء :
كان الضابط في بُرج الدبابة ، مصوِّباً مسدّسَه إلى رأسي !
لندن في 22.12.2018
|