سعدي يوسف
شوارعُ باريس ، آنَ كنتُ أذرعُها ، ظلّتْ تتقاسمُها طائفتان :
أهلُ السيف ، وأهلُ القلم .
أي أنها تختلف عن شوارع نيويورك التي لا تحملُ سوى الأرقام أو أسماء ولايات الولايات المتحدة.
في باريس ، أمّةٌ تتباهى بقادة جيوشِها ، وبقادةِ عقولِها .
لكن شوارع نيويورك لا تجد من تباهي بهم ، أو ما تباهي به . أو أن أهل الشأن فيها ( الأغنياء حتى الفُحش) غيرُ مَعنيّين بمن هم خارج الدائرة المصرفيّة .
ذلك لأن الولايات المتحدة ، خليطٌ غير متجانسٍ من أممٍ مهاجرةٍ، وليست أمّةً ذاتَ هويّةٍ .
أقولُ هذا ، بعد تَطوافٍ ، ومعاشرةٍ ، وتأمُّلٍ .
في باريس تجد شوارعَ ودروباً وساحاتٍ تتباهى بإميل زولا وفولتير وأراغون ...
لكنْ ، ألدى نيويورك ، مثلاً ، ما تباهي به الأمم ؟
*
ما قلتُه توطئةٌ .
فلسطين ، التي استُشهِدَ من أجلِها ، عشراتُ الالاف في أي بلدٍ عربيٍّ ، تظلُّ في الضمير .
مرةً ، في القاهرة ، في أيام الثقافة الفلسطينية ، قال أبو عمّار :
في كل قريةٍ مصريةٍ شهيدٌ من أجل فلسطين .
كنت في القاهرة آنذاك .
وكان محمود درويش .
*
في 1988 ، في الجزائر العاصمةِ ، أعلنَ أبو عمّار ، الدولةَ الفلسطينيةَ .
محمود درويش كتبَ نصّ الإعلان المهيب .
كنت هناك ، واقفاً مع إدوارد سعيد ، ننصتُ إلى أبو عمّار .
*
في 2004
قُتِلَ أبو عمّار في مستشفى فرنسيّ ، مسموماً بما يقتل فيلاً .
*
في التاسع من آب 2008
قُتِلَ محمود درويش في مستشفىً بالولايات المتحدة .
*
مساء التاسع من آب ( أغسطس ) 2008 كنت في برلين . كانت الساعة حوالي السابعة . صيفٌ ألمانيٌّ.
في الرصيف التابع للمقهى زبائنُ يدخنون سجائرهم . أنا أنظرُ عبرالزجاج إلى الرصيفِ وأهلِه . جاءتْ جوان ماكنلي بكأسَي جعةٍ كبيرتين . ما زلتُ أنظرُ إلى الشارع عبر الزجاج . مددتُ يدي إلى كأس الجعة فارتدّت.
كنت أحسُّ بإحباط وإنهاك ، وبين لحظة وأخرى تعتريني رجفةٌ خفيفة .
قلت لجوان : أنا أرتجف برداً .
لم نكن في مهبٍّ للريح . لكنّ برداً قادماً من سيبيريا ما كان يدخل إلى المقهى ليُرعدني وحدي .
تلك الليلة ، لم أقوَ على العودة إلى شقّة ابنتي شيراز في ضواحي العاصمة الألمانية ، فأويتُ إلى شقّة جوان لأنام كمداً .
* عدتُ في الضحى العالي إلى ابنتي .
قالت لي إن اسماعيل خليل ( المسرحي ) اتّصلَ بي ، منتصفَ الليل .
- هل قال شيئاً ؟
- كان يريد أن يخبرك برحيل محمود درويش .
*
إذاً ...
في حوالَي الساعة السابعة من مساء التاسع من آب ( أغسطس ) كان محمود درويش ، يُقتَلُ ، في مستشفاه الأميركيّ .
هل كنت أحاول الاتصال به ، وأنا في المقهى ؟
هل مرقتُ في خطفةٍ أمام عينيه الغائمتَين ؟
لقد كنا في باريس ، في السابع من حزيران هذا .
جاء إلى أمسيتي بمسرح الأوديون .
لكنه قال لفاروق مردم ألاّ يخبرني بأنه هناك .
التقينا بعد انتهاء الأمسية .
قال لي : أنا راحلٌ غداً .
هل حملتْ كلماتُه هذه ، الأقصى ممّا يمكن أن تحمل ؟
هل كنا نقول : وداعاً ؟
*
قالت لي منى أنيس : كان محمود يودِّعك ...
*
فلسطين اليوم ، كما أراد أعداؤها :
لا سيفَ
و لا قلم ...
لندن 14.12.2015
|