سعدي يوسف
صار العالَمُ مسكوناً بالضجيج.
لستُ أعني هنا ، ضجيجَ العربات والسابلة ، في محتشَدات البشر ، أمثال " مــــــيدان التحرير " في القاهرة ، وشارع أكسفورد في لندن ، واليونيون سكوَير في نيويورك ، و" البلاكا " في أثينا ...
أعني بالضجيجِ ، ما يضِجُّ في أذهاننا ، أكثرَ من آذاننا :
مئات بل آلاف القنوات الفضائية ، والمواقع ، والإذاعات .
العناوين الرئيسة في الصحافة اليومية ، المهتمّة بالإثارة أكثر من الإشارة .
رنين الهواتف الذي لا يكاد ينقطع .
بريد الحاسوب الذي يأتي بالغثّ أكثر من السمين .
الأحداث السياسيّة العنيفة حدَّ القتل المجّاني .
رؤية عالَمنا الأليف يتناثرُ ، متفجِّراً ، بين أيدينا ...
في مثل الدائرة الجهنميّة هذه : ماذا يفعل الفنّان ؟
ماذا يفعل الناسُ الذين يريدون أن يقدِّموا ثماراً شهيّةً ، لإخْوتِهم في البشريّةِ ، أولئك الذين يستحقّون
هذه الثمارَ ، ويحتاجونها ، كي يتنفّسوا طليقينَ ، ويَحْيَوا طُلَقاءَ ؟
سؤالي : كيف ينجو الفنّان والمبدِعُ من هولِ هذا الضجيج ، فيقدِّم للناس ما ينفع ويُسِرُّ ؟
*
أستعينُ بنفسي ، وبمسعاي ، وسبيلي إلى التعاملِ مع ما يُجْدِي :
من الممكن جدّاً أن يحدِّدَ المرءُ دوائرَ اهتمامِه وانتباهِه ، إذ بدون هذا التحديد يقع المرء ، بسهولةٍ ، في الحمْأةِ الشرّيرة ، التي تكتم الأنفاسَ حدَّ الخنقِ والاختناق .
وثمّتَ وسائلُ بسيطة :
تلفزة أقلّ . مذياع أقلّ . صحيفة واحدة لا صحيفتان . ساعةٌ واحدةٌ للحاسوب ( إنْ كنت خارج التدوين). حديثٌ أقلُّ في السياسة مع الأصحاب ، والنفسِ .
التقاطُ الجوهريِّ ، لا المثيرِ ، في ما يطْرأُ من شأنٍ عامٍّ .
*
لكنّ هناك أمراً عجيباً في الشفاءِ من الصخبِ غيرِ الـمُجْدي لحياتنا اليومية . الأمرُ هو بكل بساطةٍ :
الطبيعة .
الطبيعةُ أُمُّنا الرؤومُ ، نستكين إليها ، ونأنسُ بها . الطبيعةُ جُنَّتُنا وجَنّتُنا .وهي التي تعلِّمُنا ما نحسُّ فنفعل.
قبل أعوامٍ وأعوامٍ ، وفي حديقة " اتحاد الأدباء " ببغداد ، كنت على مائدة الشاعر الراحل حسين مردان.
معروفٌ أن حسين مردان كان الشاعرَ الرجيمَ ، بعد صدور ديوانه " قصائد عارية" ، وهو الوحيدُ الذي حُكِمَ عليه بالسجن ( أيّامَ الملَكيّة) بسببٍ من أشعارِه ، لا بسببٍ سياسيٍّ .
- محمد مهدي الجواهري حوكِمَ أيضاً ، لكن لجنةً من فقهاء اللغة أفتتْ بأن البيتَ الكافرَ " لكم الله واحداً وهو لاشكَّ أربعُ ": ليس بكافرٍ -
أعودُ إلى جلستي مع حسين مردان .
سألَني وهو يمسِّدُ ورقةً من نبتة وردٍ :
متى لمستَ ورقةً من شجرةٍ ، آخرَ مرّةٍ ؟
*
شطّ النيل . شطّ العرب . غابة النخل . غابة الصنوبر. الواحات . القنَوات . حقول القمح . حقول الذُّرة.
حقول اللافندر ( الخزامى ) وعبّاد الشمس . مشهد الغروب على البرّ الغربيّ . الفجرُ في عدَن . الموجُ المتكسِّرُ على كاسرات الموج في الإسكندريّة ...نهر الراين . شواطيء السَين . البحيرات المتجلِّدة في النمسا ...مرأى الأشجار وهي مقلوبة في الماء .
إلخ .
*
إلاّ أنّ الطبيعة وحدَها ، لا تكفي لتهذيب الحاسّةِ والروح :
علينا بالموسيقى الرفيعة ، والكتاب .
*
شخصيّاً ؛ صرتُ أهتمُّ بالطبيعةِ ، وأُحَدِّثُها ، أكثرَ من اهتمامي بالناس وأحاديثهم في هذا الزمن المدوَّخِ
والمدوِّخ ...
أنا حريصٌ على سلامتي العقليّة !
لندن 28.07.2016
|