سعدي يوسف
في أواسط آذار ( مارس ) من كل عامٍ ، أجيء إلى تورنتو ، الحاضرة الكنَدية الكبرى ، قادماً من متروبوليس أوربا الكبرى ، لندن .
وفي كل مرة ، أُمَنِّي نفسي ، وأنا في الطائرة ، بأنني سأشهدُ الربيع مبكِّراً عند ضفاف بحيرة أونتاريو .
لكني ، كلَّ مرّةٍ أيضاً ، أشهدُ نهاراً ، برداً ومطراً ، وليلاً تحت الصِّفر !
أظنُّني بطيءَ الفهم والاستجابة ، أمْ أن الطبيعة أقوى من الإنسان ؟
على أي حالٍ ، أنا سعيدٌ لأنني في كندا ، غيرُ بعيدٍ عن وسط المدينة ، أسمعُ في الصباح المبكِّرِ أصواتَ العربات والحافلات ، بدلاً من أغاريد الطير التي أسمعُها ، فجراً ، في الضاحية اللندنية ، مؤْذنةً بيومٍ جديد .
كما أنني سعيدٌ ، آنَ أكون في الشارع ، سائراً مع الناس .
مَرَدُّ هذه السعادةِ أن الناسَ هنا ، من أقوامٍ شتّى ، وقاراتٍ مختلفة ، لكنّ هذه الأقوامَ والقاراتِ ائتلَفَتْ ، وهي في سبيلِها لأن تكوِّنَ شعباً كنَديّاً ، فريداً في ائتلافِه واختلافِه .
دولُ أوربا ، تكوّنتْ على أساسِ الدولة القوميّة ، ومستلزَماتِها من نقاءِ عِرْقٍ ، ووحدةِ لغةٍ ، وعُمْقِ تاريخٍ .
لكنّ الأمرَ في كندا ، مختلفٌ تماماً .
شِبْهُ القارة هذه كوّنَها مهاجرون أوائلُ ، وما زال مهاجرون أواخرُ يكوِّنونَها .
تعدّدت السِماتُ واللغاتُ .
واختلفَ الملْبسُ والمطعمُ .
وتعدّدت العبادات ، ودُورُ العِبادةِ .
*
في لندن ، العاصمة الإمبراطورية ، أُقِيمُ في ضاحيةٍ منها ، بيضاء مائة بالمائة .
أنا في تلك الضاحية ، غرابٌ أبقعُ وحيدٌ .
إنْ تكلّمتُ ، فعَلَيّ أن ألوي لساني بلغة القومِ ، وإن اخترتُ مَلْبَساً كان لبوسي مثل أهل الضاحية .
في الأعياد ، وأعني الإنجليزيَّ منها ، عليّ أن أحترمَ عوائدَ الناسِ ، فأُعَلِّقُ على باب منزلي ما يشير إلى ذلك ، من نبتٍ أو تقليدِ نبْتٍ ... إلخ .
إنْ كنتَ في روما فافعلْ ما يفعله الرومانيّون .
أمّا هنا ، في تورنتو ، فالأمرُ مختلفٌ تماماً .
تورنتو هي بابل ، لا روما .
هنا ، تلقى الصينيّ والتبتي ، الأريتيريّ والصوماليّ ، العربيّ والبولنديّ ، الإيطاليّ والبرتغاليّ ، والهنودَ سِيخاً وهندوساً وتاميلَ ...
إلخ .
أنت لن تشعر بالغربةِ .
كلُّنا غريبٌ أصيلٌ في آن .
*
لكنْ عليّ القولُ إن للمهاجرين الأوائل ، البِيض ، احتكاماتٍ أخرى :
هؤلاء جاؤوا من إنجلترا وفرنسا .
استولَوا على شِبه القارة من سكّانِها الأصليّين ، واستعمروها .
وهم يشعرون بأنّ لهم حقّاً في كندا أكثرَ من سواهم .
بل قد يشعرُ ذوو الأصل الفرنسيّ بأن لهم حقّاً أكثر من ذوي الأصل الإنجليزيّ .
لكن للزمن أحكامَه .
والبِيضُ يقتسمون الحُكمَ والنفوذَ في البلاد .
التآلفُ انتصرَ .
ولم يُفلِحْ حتى الجنرال ديغول في أن يزحزحَه ، حين هتفَ ، وهو يزور كيبك ذات الغالبية الفرنسية :
عاشتْ كيبك الحرة !
Vive le Quebec libre !
قبل أيّام كانت آن – ماري لو بَنْ ، زعيمة " الجبهة القوميّة " اليمينية في فرنسا ، تزور كيبَك ، وانتقدتْ سياسة كندا في فتح باب الهجرة .
لكنْ أحداً ، هنا ، لم يكلِّفْ نفسه ، حتى عناءَ الردِّ .
آن- ماري لو بَنْ آتيةٌ من عالمٍ عتيق !
تورنتو 30.03.2016
|