قلعةُ الحِصْنِ التي قُربَ حِمْص |
|
|
سعدي يوسف أسيرُ إلى القلاعِ ، هنا ، وهَنّا ، ناسياً ثلجَ الوريدِ ، مُقَبِّلاً قَدمَ الوليدِ ، أجيءُ نحوَ الصخرِ من قِدَمي ، أُثَبِّتُ في مُتونِ حُزوزِهِ قَدمي . أقولُ : لَعلّني أرقى . وأصعدُ ، خطوةً في إثْرِ أخرى ، شهقةً في شهقةٍ ، والخندقُ الدوّارُ يسألُني : لماذا جئتَ ؟ أسألُهُ : لماذا جفَّ ماؤكَ ؟ لو ترُاه مضى ليسألَني : لماذا جفَّ مائي ؟ الخندقُ الدوّارُ لم يبرحْ مكاناً كان فيه منذُ ألْفٍ ، إنما الأمطارُ لم تهطِلْ ...
أحقّاً صارَ هذا الخندقُ الدوّارُ جسراً للـمُغِيْرينَ ؟ السماءُ سترتمي في لحظةٍ. ستكونُ سقفاً . أنتَ لنْ تُبْدي سوى سبّابةٍ مرفوعةٍ حتى تُلامِسَها ... وكان الخندقُ الدوّارُ أخضرَ ، قاعُهُ المفروشُ بالأعشابِ والدُّفْلى وأكياسِ اللدائنِ كان يدخلُ في متاهاتِ القُرى وسرائرِ الأبراجِ . أحياناً تُدَلِّي غيمةٌ أثداءَها ليظلَّ هذا الخندقُ الدوّارُ مَغْنىً . قد يمرُّ الماعزُ الجبليُّ . والأعشابُ تَثْبُتُ في الصخورِ كصِبْغةٍ سِرّيّةٍ . قد تفتحُ الأزهارُ في آبٍ مِظلاّتٍ بلا ظِلٍّ فيأتي النحلُ ... أهلاً ، لا خديعةَ ... أيّهذا الخندقُ الممتَدُّ بين الوهمِ والوهْمِ: انتظِرْني كي أُوازِنَ خطوتي . مترنِّحاً سأظلُّ ، مأخوذاً بأحجارٍ تُزَلْزِلُ وقفتي. أحجارُكَ الأولى التاي كانت تدافعُ عنكَ صارتْ منبِتاً لمحيطِ أكواخٍ . وفلاّحوكَ صاروا الجُنْدَ . جُنْدُكَ أصبحوا متعهِّدي خيلٍ وماشيةٍ. ولكنّ الخنادقَ لا تصيرُ سوى خنادقَ. ربما انطمستْ وضاعتْ تحتَ أتربةِ العواصفِ والقرونِ ، وربما نسيَ الذين بقُرْبِها حتى خطوطَ القُرْبِ ... لكنْ سوف يأتي اليومُ ، يأتي يومُها، فتهبُّ ناصعةً لتدفعَ عن نضارةِ وجهِها الأسمالَ والأزبالَ والأكياسَ ... آنَ لها ، لكلِ خنادقِ الأحياءِ ، أن تحيا ... * أتعرفُ كيف يبدو البُرْجُ في الفجرِ ؟ السماءُ تكونُ صافيةً ، وغامضةً قليلاً. ثَمَّ ضوءٌ واثقٌ من لامكانٍ ، والسماءُ تظلُّ صافيةً وغامضةً ، وهذا الفجرُ يبدو ضائعاً ، يا فجرُ ... أين الفجرُ ؟ في مثلِ الفُجاءةِ كان رأسُ البُرْجِ مُتَّـقِداً ، وكان الضوءُ يأخذُ شكلَهُ ... والضوءُ رأسُ البُرْجِ : قَرْنَصَةٌ وفُوضى مِزْغَلٌ للشمسِ متراسٌ يُصَوِّبُ نحوَ كونٍ غائبٍ ... قد يهبطُ الفُرسانُ من سُفُنِ الملائكةِ ، الحدودُ قريبةٌ حتى الـمُلامَسةِ ، الحدودُ بعيدةٌ حتى الجنونِ ... أهِلَّةٌ في الماءِ صُلْبانٌ على الأكَماتِ ، أو بالعكسِ . هذا الضوءُ ، هذا الضوءُ ، هذا الضوءُ ... رأسُ البُرْجِ مشتعلٌ وعند القاعِ ، خلفَ الخندقِ الدوّارِ ، في " الموتيل " ، تحتَ مُلاءةٍ في غرفةٍ خرقاءَ بالموتيل ، كان فتىً يقولُ لدُمْيةٍ : إني أُحبُّكِ . يهبطُ الفُرسانُ . سِيْفُ البحرِ يُلْمَحُ عند رأسِ البُرْجِ . ما أبهى طرابُلُسَ الخفيّةَ . في السفوحِ تغادرُ الأشجارُ منبِتَها ، وترحلُ في فضاءٍ أخضرٍ ... حتى الدروبُ تصيرُ في الـمَـهوى خيوطاً كان رأسُ البُرجِ يُمسكُها ،يُدَلِّيها ، ويرفعُها ، كما شاءَ. المدافعُ لم تَعُدْ في البُرْجِ ... هل رحلتْ مع السفُنِ التي رحلت’ ؟ أو انصهرَتْ لتغدو بين أيدينا نقوداً فضّةً ؟ أمْ أنّ أغنيةَ المدافعِ لم تكن قد قعقعتْ بَعْدُ ؟ الثلوجُ تلُوحُ في القممِ المحيطةِ ... غيرَ أنّ البُرجَ يلبسُ عُرْيَهُ ، ويظلُّ ، مثلَ الذئبِ ، أغبرَ ... هدهِديني كي أنامَ : الثلْجُ أثقَلَ لِمّتي والثلجُ أثقَلَ خطوتي والثلجُ غلغلَ في عروقي ماءَهُ ودماءَهُ والبرجُ يدعوني لأصعدَ نحوَهُ ، البرجُ يدعوني لأصعدَ نحو صمتي حيثُ الطيورُ السودُ ,,, وووووو ... * رأدَ الضحى ، متلفِّعاً بالبردِ والجلمودِ ، أدخلُ قاعةً حجريّةَ الأقواسِ . أعمدةٌ خبتْ تيجانُها ، فوقي . وتحتَ خُطايَ أشواكٌ مُعَفَّرةٌ ، أرى أسَدَينِ يرتفعانِ عند المدخلِ العالي ، ويَمّحِيانِ مُرْتبِضَينِ. غيماً مُبْحراً يجتازُ أروقةً ويمضي في سماءٍ حُرّةٍ ... شجراً بعيداً. شِبْهَ سِرْبٍ من يمامٍ . تهدأُ الأنفاسُ . أُغْمِضُ مُقلَتَيَّ للحظةٍ : أهلاً ! يعودُ الصوتُ : أهلاً ... لن ... لن... لن... وأهتفُ : آهِ ، يا سِرْبَ اليمامِ ... يمامِ ... مامِ ... مِ ... كأنّ يدي ستُمْسِكُ خيطَ صوتي من نهايتِهِ ... أمُدّ يدي يدَيَّ ، فألتقي روحي ... سلاماً ... مَنْ ؟ مَن ؟ مَن ؟ مَن ؟ ومن بابٍ بأقصى القاعةِ الحجريّةِ ، انفتحتْ سماءٌ وانجلَتْ . في الأفْقِ أجنحةٌ تسدُّ الأفقَ . تعلو عند بابِ القاعةِ الحجريّةِ الضوضاءُ . يأتيني ملائكةٌ بأجنحةٍ وعُمّالٌ بأجنحةٍ وفلاّحونَ في أثوابِ ريشٍ . أغْمِضُ مُقلتَيَّ هُنيهةً : أهلاً بكم ! كُمْ ... كُمْ ...لَكَمْ غِبتُمْ ! تعبتُمْ في الطريقِ ؟ وهل ظمِئتُمْ ؟ إنّ في كَفّيَّ عيناً سلسبيلاً ... أم تُرى قد مسَّكُمْ ضُرٌّ ؟ سأفرشُ كلَّ أضلاعي لكم ... لكنْ أقيموا ! أمسح الوعثاءَ عن أقدامكم ، وأُقَبِّلُ الأيدي لو استلمتْ طعامي . لن ترحلوا ! سنبيتُ ليلتَنا هنا . لا تعبأوا بالبردِ ! سوفَ أجيءُ بالسّروِ العظيمِ وبالجريدِ الهشِّ . جِذْعُ النخلةِ استلقى ليُمسي الجمرَ ... مهلاً ! سوف نوقِدُ نارَنا ستكونُ قلعتُنا منارَ الخابطينَ لقد غدَونا نارَنا ... نا ... نارَنا ... نا ... نا ... حمص - قلعة الحِصْن
|
اخر تحديث الأربعاء, 09 أكتوبر/تشرين أول 2013 23:12 |