ستكون الفلبين قريبةً قربَ الخنجرِ والخاصرةِ. مَن أخبرَني وأنا في دمشق ، واقفٌ مع آلِ الجواهريّ العظيم أتلقّى التعازي برحيله ... أقولُ : مَن أخبرَني ، في تلك الساعةِ بالضبطِ ، أن ولدي الوحيد ، حيدر، قد قضى نحبَه ، في الفلبين ؟ لا أدري كيف عرف نايف حواتمة بالأمر ... قال لي ، وهو يشدّ على يدي: طريقُنا طويلٌ ! طريقُنا طويلٌ حقاً ، ولسوف يأخذني هذا الطريقُ الطويلُ ، بعد أيّامٍ إلى مطار مانيلاّ. آنذاك ، كنتُ بعمّانَ ، في فترةٍ شديدةِ الظلامِ من حياتي .وكنتُ أحاولُ التخفيفَ من هول تلك الفترة ، بالتنقّل مكّوكيّاً بين عمّان وعاصمة الشــام العريقة . ساعدتْني قنصليةُ الفلبين في عمّان بتعجيل منحي تأشيرة دخول ، مع أن اليوم كان عطلةً. في مطار مانيلا ، سألوني إن كنتُ أعرف لغة أهل البلد . وحين أجبتُ بالنفي ، اكتفَوا بالسؤال الأول. أرملة حيدر ، بَينِي ، التي سبقتْ لي رؤيتُها إمّا في نيقوسيا أو تونس العاصمة ، كانت في استقبالي مع فردِ أو اثنين من عائلتها.استقللنا سيارةً متألقةً من ذوات الدفع الرباعيّ ، لتأخذنا إلى قريةٍ بأعماق الفلبين ، حيث يثوي حيدر. أرى هذه البلادَ للمرة الأولى ولم تكن لديّ في السابق أيّ رغبةٍ في زيارتِها. كما أنني لم أكن راضياً عن ذهاب حيدر إلى هناك . كان هاجسٌ عميقٌ يُلِحُّ عليّ في أني لن أرى حيدر ثانيةً. كنتُ شبه ذاهلٍ . أرى و لا أرى. الأشياءُ تتبدّى لي ســراباً أو كالسراب. ليس من شــيء حقيقيّ . والشوارع ؟ ليس في غالب الفلبين شــوارعُ . ثمّت مسالكُ كما في عراق الثلاثينيات. قنواتٌ ومَناقِعُ رزٍّ وجواميسُ والخيزران الجسيم. السيارة تَدْرُجُ لكني أراها تعوم. نبْلغُ القريةَ الموعودةَ . كأني أرى قوماً يحتفلون ! بل كانوا يحتفلون ، فعلاً ، ويلعبون الورقَ ، تحت الشجر. تأخذني " بَيني " إلى حيدر. أرى ولدي ممدّداً، صبيحَ الوجه ، ينامُ عميقاً . التابوتُ ذو غطاءِ زجاجٍ. كأني رأيتُ بعوضةً دقيقةً على وجه حيدر . كيف أُبعِدُها ؟ تذكّرتُ ، بعد طول نسيانٍ ، سورةَ الفاتحة . تلوتُها ســرّاً كأني أزمزمُ في بيتِ نارٍ . قلتُ للقوم: توقّفت مراسيمُ الدفن. لن يدفَنَ ، كاثوليكيّاً ، في مقبرة البلدةِ . سآخذه معي إلى دمشق. حيدر ، يثوي الآن ، قرب هادي العلوي ، والجواهري ، في مقبرة الغرباء ، بالسيدة زينب . في الصورة : حيدر سعدي يوسف 1964-1995 يتوسّط شيراز من اليمين ، ومريم من اليسار. الصورة التُقِطتْ في العام 1990 بتونس العاصمة
لقد لامَني عندَ القبورِ على البُكا رفيقي ، لتَذرافِ الدموعِ السوافِكِ وقالَ : أتبكي كلَّ قبرٍ رأيتَـهُ لقبرٍ ثوى بينَ اللِّوى فالدكادكِ ؟ فقلتُ لهُ : إنّ الشَّجا يبعثُ الشجا فدعْني ، فهذا ، كلُّهُ قبرُ مالِـكِ
*** حمامتانِ حـطّـتــا ، في صيفِ برلين على مبنىً بلا نوافذَ. الحمامتانِ َ كانتا بين الهوائيّاتِ والأطباقِ والسطحِ الـمُـصَـفّى تبحثانِ عن بذورٍ عن بقايا خُبزةٍ عن قطرةٍ ... أسمعُ ، في الهدأةِ ، منقارَينِ : تِك ْ تِكْ أهِـــيَ الساعـةُ ؟ هل دقّتْ على المبنى الذي بلا نوافذَ ، الســاعةْ ؟
برلين 15.06.2010
|
اخر تحديث الخميس, 23 دجنبر/كانون أول 2010 21:39 |