آن يكونُ المرء صغيراً ، يكون البيت كبيراً. بيتنا لم يكن كبيراً البتّةَ. كان كوخاً ( بين الكُبَرِ والصريفةِ بالمصطلح العراقيّ ) . هذا البيت كان يقطر ماءً في المطر. ويكاد يتقصّفُ مع رياح الصيف وصهدِ الهاجرة.لست أتذكرُ متى سكنّا بيتاً مبنيّاً بالطابوق. لكني أستعيدُ أنه كان مستأجَراً .استأجره أخي يعقوب ، بعد أن صار معلِّماً.نحن في أبي الخصيب . أســرتُنا من هناك منتشرةٌ ، متناثرةٌ، بين مركز أبي الخصيب على شط العرب ، والفاو على الخليج العربيّ. بيتُ جَدي كان في أبو الخصيب. بيت جدي كبيرٌ.فيه حُجُراتٌ عدّةٌ. لم يكن في المركز. كان في " بُـقَـيْـع " التي تكاد تلتصق بقرية " جيكور". أحبّ أن أذهب إلى بيت جَدّي. لكنني في المدرسة. أذهب إلى بيت جدّي في العُـطَل. أذهبُ وحدي . لا أدري ما سببُ أنني كنت أذهبُ وحدي. بيتُ جَدي بعيدٌ. في الصيف يكون ترابُ الطريق مثل جمرٍ مسحوق. وأنا أمشي حافياً . أحمل نعلَيّ ، خشيةَ البِلى ، على رأســي ، وأمشي حافياً.تعلّمتُ ذلك من عمّي جبّار حين يأتي لزيارتنا. يَعصِبُ العطشُ لساني. أمُرُّ بجدولٍ أخضرِ الماء ،جدولٍ ذي أشَناتٍ وعشبٍ . أشربُ من مائه الأخضر بكفّيَّ ، وأبلِّلُ وجهي الملتهب. أواصلُ السيرَ إلى بيت جدّي.هناك مقبرةٌ في الطريق ، وعليّ أن أجتازَ. في المقبرة شجرةُ سِــدْرٍ لا تثمرُ نَـبْـقاً . يقولون إن البومَ يسكن تلك السدرةَ. يقولون أيضاً إن مقبرة أبو شَـعْـنَب هذه ، مسكونةٌ . الجنُّ يأوون إليها، والمجانين ، والمجذومون الهاربون. عليّ أن أجتازَ .أتمتمُ كلماتٍ من القرآنِ عن سُـليمانَ وجنودِه.وأقطعُ المقبرةَ لألتحقَ بالجادّةِ المتربةِ. الشمس محرِقةٌ. ونعلايَ يحرقانِ رأســي.أنتعلُهما بدون أن أنفضَ الترابَ عن قدَمَيّ ، وأواصلُ السيرَ إلى بيت جَدّي.أصلُ إلى التقاطُعِ . تقاطُعِ بُقَيع وجيكور. أتّجهُ إلى بُقَيع. بعد التقاطُعِ أُحسُّ ببيتِ جَدي قريباً . أصِلُ إلى البستان الذي أعرفُهُ جيداً . بستانِ النخلِ الذي طالَ ما أخذني جَدّي إليه في الصباح الباكر ليتفقّدَ شِباكه التي نصبَها للأسماكِ. أسماكِ شطّ العرب المشتهاة. أشعرُ بخُطايَ خفيفةً. أعبرُ قنطرةً من جذوعِ النخلِ . قنطرةًً تكون زلِقةً في الشتاء. لكني أقطعُها الآنَ وثباً! ها هوذا البيتُ الكبيرُ ... بيتُ جَدّي! ***
|