"محاولات في موضوعة المثقف التابع"
(5)
المثقف التابعُ مطروداً
قد يغالي المثقفُ التابعُ في محاولته التماهي مع المستعمِر ، إلى حدِّ الوقوع ضحيةَ ذلك التماهي، فلا يرِفُّ له جفنٌ، ولا تبْدُرُ منه بادرةٌ لمراجعة موقفٍ، أو التفكير بمصيرٍ أفضل له، ولأبنائه إنْ كان لديه أبناءٌ.
المستعمِرُ نفسُه، قد يتخلّى عن المثقف التابع، فيطرده من العمل ، أو يجعل ظروف عمله مستحيلةً، لكن المثقف التابع يظل متشبثاً بسيده، بالرغم من الركلات المتتالية التي نالها. بعد انتهاء مهمة الوكالة الاستعمارية ومغادرتها البلد ، يبذل المثقفُ التابعُ المستحيلَ
للمغادرة مع تلك الوكالة ، لكن الوكالة خاضعةٌ لقوانين بلد المتروبول ، وهي لا تستطيع اصطحاب المثقف التابع ، هكذا...
الظروف المحيطةُ بالمثقف التابع ، في بلده ، لم تَعُدْ مواتيةً . فالناسُ يرفضون ، رفضاً متزايداً ، الاستعمارَ ، ويرفضون أعوانه ، ومن بينهم المثقفُ التابعُ . والناسُ قد يستعملون السلاحَ تعبيراً عن رفضهم. آنذاكَ قد يتعرض المثقفُ التابعُ لخطر القتل أو التهديد المستمر بالقتل...
يُضطَرُّ هذا، اضطراراً، إلى مغادرة البلد، بلده ، لكنه لفرط ولائه للمستعمِر، يفضِّل الإقامةَ في بلدٍ قريبٍ ( الأردن مثلاً ) كي يستمرّ في تقديم خدماته للمستعمِر . وقد يدبِّرُ إقامته في بلدٍ ( مثل لبنان ) تحت واجهة مركزٍ للأبحاث أو للتجارة. عددٌ من المثقفين التابعين يشعرون أنهم مطرودون، بالفعل، من العراق العربي، فيدبِّرون لهم ، في أربيل أو السليمانية، مقراتٍ يمارسون منها نشاطهم الموالي للاحتلال. وربما كسبَ بعضُهم مالاً وفيراً جعله يقيم مراكز "بحث " ، أو يؤسس شركاتٍ تجاريةً مشبوهة المعاملات في أوربا وأميركا وأستراليا وسواها من القارات.
في هذا كله، لا يشعر المثقفُ التابعُ بأيّ تأنيب ضميرٍ.
في هذا كله، لا يشعر المثقفُ التابعُ بالقلق.
إنه يزدادُ سقوطاً في حفرةِ وهمهِ.
وهو يرى، ما هو فيه، ثمناً للحرية لا بدّ من دفعه!
وإذ يحضرُ هذا المثقفُ التابعُ مؤتمراً أو ندوةً ، يبالغُ في الدفاعِ عن
باختصار: المثقف التابعُ يرى أنه انتقل، بالفعل، إلى الضفة الأخرى.
*
لكن ، وكما أسلفْنا في معالجةٍ سابقةٍ، تجري الرياح بما لا يشتهي.
المستعمِر، يقطع، فجأةً، حبلَ النجا.
يحرمه الموردَ المخصّص.
آنذاك تَـمْــثُــلُ أمامنا الصورةُ بكل وضوحها:
المثقفُ التابعُ مطروداً!
لندن 09.01.2008
|