الدكتور ضياء خضير
تُلقي الملاحظات التي كتبتها الدكتورة إقبال محمد علي رفيقة الشاعر سعدي يوسف في هذه المرحلة المتأخرة من حياته عن قصيدته المسماة (يا شط... عسنك)، الضوء على اللحظة التي يصنع بها الشاعر نصه الجديد، وتكشف لنا شيئًا من خصوصية الشاعر في كتابته الشعرية. وهذا النص المكتوب عام ٢٠١٣ يتعالق، كما هو واضح في
العنوان، مع هذه الأغنية ويعمل بطريقته الخاصة على توظيفها لخدمة الهدف العام للقصيدة.
وأنا أضع أمام القارئ هنا هذا النص الذي اقتطعه من مذكرات أو يوميات الدكتورة إقبال الموجودة على صفحتها في الفيس بك والتي تتضمن هذا البيان التفصيلي لعملية كتابة القصيدة لدى معايشتها للشاعر في منزله الإنكليزي ومراقبتها لتفاصيل الحالة أو الكيفية التي يكون عليها لحظة ولادة القصيدة.
تقول الدكتورة إقبال:
"ذهب [سعدي] كالمعتاد الى ركنه المحبب اصبح هذا الركن محببا لي ايضا فلطالما قضينا اماسي جميلة معا او مع بعض الزائرين في الدردشة و المناقشات و شرب النبيذ الاحمر الذي يتفنن في اختياره. قرابة الساعة الواحدة من وجوده في ملجءه جاءني راكضا مضطربا متسائلا : هل تذكرين اغنية عسنّك ؟؟؟
كنت اعمل على الكمبيوتر فأستدرت اليه ضاحكة و انا ادندن بعض كلماتها ... ( انها من الاغاني العراقية القديمة , غناها مطرب المقام العراقي المحبوب يوسف عمر فأبدع في غنائها هو و الجوق الموسيقي المرافق له ) .... استمررت في الدندنة محاولة تذكر بقية المقاطع .... ( يا منك و هله و يبه ياكلها منك ).... لا ليس هذا ما اريد . قاطعني متوسلا .. ليس هذا ما اريد , ان ما اريده له علاقة بالماء و بسبب الحاحه المملوء بالتوسل ليصل لما يريده من الاغنية , طارت الكلمات من ذهني ... مقطع في الاغنية له صلة بالماء .!!! اقترحت عليه ان نتصل بأنو ( أناهيد ) صديقة مشتركة لنا . اجابت اناهيد و سألتها عن الاغنية فبدأت تدندن كلماتها هي الاخرى عبر التلفون لتصل الى احد المقاطع ( ميك لحدر الساق يا شط عسنك ) ..... حينذاك صرخ سعدي مصفقا , هائجا , فرحا : ألم أقل لكم ان هناك شيئاً له علاقة بالماء في هذه الاغنية .. ألم اقل لكم ذلك وعلت ضحكاتنا انا و ( انو ) كما يحلو لسعدي ان يسمي أناهيد . ... كنت أصف لها عبر التلفون حال سعدي الذي اختفي عن ناظري .... بعد ان انتهيت من حديثي التلفوني .. ذهبت ابحث عنه وجدته واقفا محملقا في الفراغ في ركنه و هو ينود بجسمه بصمت.
لم ارد ان اعكر صفو صمته .. كان عليّ ان ارسل رسالة الى اختي فقررت فتح برنامج اليو توب بدلا من كتابة الرسالة و البحث عن اغنية عسنّك فوجدتها بصوت المغنية المحبوبة أنوار عبد الوهاب ذات الصوت الحزين الحنون و طلبت من سعدي ان يشاركني سماعها ... بعدها وجدنا الاغنية بصوت يوسف عمر و قررنا الاستماع لها أيضا و من كثرة الطرب الذي اصابنا كنا نردد و نغني الاغنية معه .... أعتذر مني بعدها و ذهب الى صومعته الاخرى ( غرفة الجلوس ).
مضت دقائق بعدها بدأت أسمع نقرات أصابعه تضرب الحروف بضجة و بسرعة و بدون توقف .... لم تمض ساعة بل ربما نصف ساعة عندما جاءني حاملاً ورقة مطبوعة بيده لأقرأها : كانت القصيدة التي اطربتنا جميعا .... كتب الهوامش ثم مسحها ثم كتبها أو اعاد صياغتها بذهنه ،لم يستعمل القلم أو الورق ليكتب ... هو في هذا الركن كان ينقح ما يكتبه من أفكار...
قبّلتُ رأسه ... لم اكن اعرف ان هذا الرأس يحمل قرطاسية كاملة من الورق و الاقلام , المماحي و القطاطات لتشحذ ذهنه المتقد بالافكار و التي أخذت دقائق لتظهر جاهزة على الورق.
...........................
يا شطّ ... عسى أنّك!
"لَكأنني ، في أوّل الدنيا ، أحاولُ أن أرى....
حتى كأنّ الأربعاءَ بدايةُ الخَلْقِ
السماءُ تلَبّدَتْ كِسَفاً ،
وهذا الكونُ أبيضُ / أسودُ.
الأشجارُ
أمسَتْ ( وهي من حَجَرٍ تَخَثّرَ ) تشبهُ
الأشجارَ
أُصغي:
ثم يأتيني النداءُ
تجيءُ أغنيةٌ
وأُصغي
عَسَنّكْ
عَسَنّكْ
يا شطّ عسَنّك
الماءُ حَدْر الساق...
يا شطّ عَسَنّك!
لو كنتُ أقوى اجتزْتُ منكَ مَخاضةً ،
وعبرتُ نحو الضفّةِ الأخرى...
لكنّ ماءَكَ ليس حدْرَ الساقِ
يا شطُّ...
العبورُ مَخوْفةٌ
واللبْثُ عند الضفةِ الأولى أشَقُّ
وأنتَ منتظِرٌ
لكنّ ماءكَ ليس حدْرَ الساقِ
يا شطّ عسَنّكْ!
مَيّكْ لَحَدْرِ الساق ، يا شطّ عَسَنّكْ! " ( صفحة الدكتورة إقبال محمد علي على الفيس بك)
ويبدو واضحًا أن سعدي يوسف يستند في طريقته هذه في النظم إلى تقاليد الإرث الثقافي العربي والتقاليد الشفاهية في الكتابة الشعرية، حيث عملية التأليف تقترن غالبًا بعملية الأداء الشفاهي والنظم على الذاكرة، ووجود الصيغة التي تشبه المولدة داخل مخيلة الشاعر وذاكرته الشعرية، فيما تنفصل القصيدة المكتوبة عن زمن قراءتها أو أدائها الشفاهي، وتفقد شيئًا من بداهتها وأدائها ذي الطبيعة الغنائية.
وسعدي الذي يضع القصيدة هكذا بعد تمامها في رأسه على الورق أو الكومبيوتر، لا يختلف في جوهر هذه الممارسة الإبداعية عن الشاعر الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة. وهو الأمر الذي جعل الشاعر الجاهلي الأول مغنيًا أو منشدًا في ثقافتنا العربية غير المكتوبة، كما هو الحال في التقاليد اليونانية الخاصة بالشعر الهومري.
ونحن نقول ذلك على الرغم مما تحتفظ به القصيدة الحديثة، كما نقرأها لدى هذا الشاعر، من بناء ثقافي فيه تأمّل وتبصّر تختلف بهما في صيغتها النهائية وهدفها عن ثقافة التأليف الشفاهي القديم المعتمد على العفوية والارتجال.
وتعالق هذه القصيدة مع أغنية شعبية في هذا النص وفي نصوص أخرى غيره يؤكد ذلك ويقويه. وهو يضاف إلى ما أسميناه بالصيغة ثم الوزن الذي يؤلف جانبا أساسيا من البناء الفني للقصيدة العربية التقليدية. فهي، كما قلنا، تولد مكتملة بكل عناصرها هذه داخل المخيلة التي تروز إمكاناتها الإيقاعية المرافقة للإحساس السمعي وتحسب توازنها الموسيقي حسابا دقيقًا قبل وضعها أمام بصر الشاعر على ألورق أو شاشة الكومبيوتر متخذة من الإطار الصوتي والدلالي المرافق للأغنية رافدًا ومعينًا.
والتكرار الذي تتردد فيه بعض كلمات الأغنية يمثل مظهرًا ثابتًا من مظاهر الأداء الشفاهي في القصيدة.
والتركيب الذي يجمع ويدمج هكذا بين عفوية القصيدة القديمة والإنشاء الشعري الحديث بكل تعقيده وبنائه البلاغي الظاهر والمضمر، هو الذي يهب النص حيويته وسحره، وما ينطوي عليه من إمكانات تأويل وقراءات مختلفة. فهو يعطي نفسه للقراءة الأولى ذات الوجوه الدلالية المعروفة لدى القارئ العادي، ولكنه يظل يحتفظ مع ذلك بشيء من معانيه وإيحاءاته البعيدة لقارئ أكثر ثقافة وخبرة بقراءة الشعر ونقده.
والشاعر الذي يجد متعته في الكشف عن أعماقه الداخلية وإجراء الحوار مع ذاته وتأمل صورته في مرآة كلماته لا يجد بدًا من الانفتاح على الآخر لاطلاعه عليها وإشراكه فيها وجعل الطبيعة والواقع الخارجي المتمثل هنا بكلمات الأغنية وسيطًا ومعبَرا في هذا الحوار.
القصيدة ليست أغنية على الرغم من أنها تستدعي الأغنية وتجعل منها عنصرًا من العناصر المخصّبة للغتها وآفاقها الغنائية؛ وهي تستدعي بدورها تاريخا من العلاقات العاطفية والاجتماعية التي يلعب الماء والشطّ داخل القصيدة والأغنية دورًا مزدوجًا في الفصل والوصل بين شاطئين وقلبين وعاطفيين إنسانيتين. غير أن القصيدة تذهب، كما نرى، بعيدًا في استخدامها لهذا الشطّ رمزًا وعلامة فاصلة بين عهدين وتاريخين وأيديولوجيتين وفكرين، وما شاء لنا أن نتصور من أحداث ومواقف وحركة في حياة الشاعر توحده مع الآخرين وتفصله عنهم (أسير مع الجميع وخطوتي وحدي).
العبور إلى الضفة الأخرى (مخوفة)، والانتظار (واللبث عند الضفة الأولى أشقّ) على العاشق في الأغنية، وعلى العاشق والسياسي خارجها، في آن معًا :
"يا شطُّ...
العبورُ مَخوْفةٌ
واللبْثُ عند الضفةِ الأولى أشَقُّ
وأنتَ منتظِرٌ
لكنّ ماءكَ ليس حدْرَ الساقِ
يا شطّ عسَنّكْ!
مَيّكْ لَحَدْرِ الساق ، يا شطّ عَسَنّكْ! "
وهكذا تبدو القصيدة والأغنية المستذكرة والمستدعاة إلى ساحة القصيدة متوازيتين في الشكل وشيء من الحمولة الغنائية، ولكنهما مختلفتان في الهدف والنتيجة.
فالأغنية التي تطرّي القصيدة بمائها وصوت مغنيها وإيقاعها وأجوائها العاطفية الحميمة، تقف عند حدود ماء شطّها الذي ليس حدر الساق فلا تجتاز مخاضة ذلك الشطّ نحو الضفة الأخرى من المعنى، فيما يتجاوز الشاعر الضفتين وما كانا ينطويان عليه من ذكرى صعوبة عبور أو انتظار شاق، ليحلّق نحو فضاءات وأمكنة أخرى يتأثث بها حاضره ويتأمل في طبيعتها واحتدام عناصر الكون فيها، وما ينطوي عليه هذا الحاضر الراهن من صور توحي ببداية الخلق وبدء التكوين والماء وتلبّد السماء قبل أن يأتي (النداء) الخاص بتلك الأغنية المائية البعيدة:
"لَكأنني ، في أوّل الدنيا ، أحاولُ أن أرى....
حتى كأنّ الأربعاءَ بدايةُ الخَلْقِ
السماءُ تلَبّدَتْ كِسَفاً ،
وهذا الكونُ أبيضُ / أسودُ.
الأشجارُ
أمسَتْ ( وهي من حَجَرٍ تَخَثّرَ ) تشبهُ
الأشجارَ
أُصغي:
ثم يأتيني النداءُ
تجيءُ أغنيةٌ
وأُصغي "
وكأن الفعل (أُصغي) التي تختتم به هذه القصيدة هو كلمة السرّ وتعثر فيه على اكتمالها المتمثّل في كلمات الأغنية الشعبية العراقية، وتجعل منها وسيلة للتواصل والانفتاح على تلك الذكريات العاطفية البعيدة وسط أصوات الطبيعة وعناصر الكون القريبة. فهي قصيدة مسموعة وليست مرئية، حصة الأذن فيها أكبر من حصة العين.
وماء ذلك الشطّ البعيد هو المهماز والمحرّك الذي كان الشاعر وهو يعمل على القصيدة يفكّر به ويصغي إليه ويبحث عن " ذلك الشيء الذي له علاقة بالماء في تلك الأغنية " ليستند إليه ويتكامل معه.
ومع أن هذا الماء غير مذكور بلفظه، فإن الوصف الذي تبتدئ به القصيدة فإنه يشير إلى هذا الماء ويوحي به:
"لَكأنني ، في أوّل الدنيا ، أحاولُ أن أرى....
حتى كأنّ الأربعاءَ بدايةُ الخَلْقِ
السماءُ تلَبّدَتْ كِسَفاً ،
وهذا الكونُ أبيضُ / أسودُ.
الأشجارُ
أمسَتْ ( وهي من حَجَرٍ تَخَثّرَ ) تشبهُ
الأشجارَ".
ورأس الشاعر الذي "يحمل قرطاسية كاملة من الورق والأقلام" لا يحتاج بعد كل هذا إلى ورقة وقلم إضافيين ليكتب نصًا سبق له كتابته في عقله وروحه وكل أنحاء جسده الذي ما زال واقفًا هناك أمام ذلك الشطّ البعيد هاتفًا مع الأغنية بصوت أسيف، ولكنه لا يخلو من أمل ورجاء:
"عسنّك..يا شط عسنّك"
|