سعدي يوسف
بين رحيل الجواهريّ ( عن مائة عامٍ ) ، ورحيلِ ولدي الوحيد حيدر ( عن اثنين وثلاثين عاماً ) يومان ،حسْبُ ، استبقَهما أبو فرات .
نحن في أواخر تمّوز 1997.
كنتُ مع آل الجواهري ، أتقبّلُ التعازي بوفاته ، في المركز الثقافي العربي بمزّة دمشق.قال لي كفاح الجواهري بعد أن بلّغَني نبأ ولدي الفادح ، " لِمَ لا تستريح من الوقوف معنا؟ " . كانت قولةَ حقٍّ .إذ كنتُ مضعضَعاً ، مترنحاً من هول الضربة ، حتى لا أكادُ أستطيعُ الإستمرارَ واقفاً .لكني حسمتُ الأمر في لحظةٍ . قلتُ لكفاح ، " سأظلّ معكم " .هكذا صرتُ أتقبّلُ التعازي مزدوجةً ، عيناي مخضلّتان بدمعٍ لا ينَهنَهُ ، وكتفاي مهدلتان .
إنه أولُ الطريق .
إذْ عليَّ أن أقطعَ المسافةَ كلَّها ، بين دمشق و الفلبين ، كي أستردّ ولدي الذي قضى هناك في أوج شبابه ، لكنْ بعد أن تتمّ أيامُ عزاء الجواهري الثلاثة .
في الحادي والثلاثين من تمّوز ، أقلعتْ بي الطائرةُ من عَمّان ، لأبلغَ مانيلا في الأول من آب ، ولأكون في ليل اليوم نفسه ، إزاء ولدي المسجى ، في قريةٍ فلبينيّةٍ تبعد عن مانيلا أكثر من ست ساعات بالسيّارة .
القرية ، التي نسيتُ اسمَها ، بيوتٌ متناثرةٌ وسطَ مَناقع ( مزارع ) الرزّ . الأمطارُ الموسميّة تبدأ ، والجوّ ينضحُ رطوبةً ، ويتّقدُ سخونةً .حين دخلتُ البيتَ كان عشراتٌ من النساء والرجال والأطفال يملأون ساحة المنزل ، والغرفة الواسعة التي يتمدّد ، داخل تابوتٍ مكشوفٍ فيها ، حيدر، مغمضَ العينين ، متبرِّمَ الشفتَين ، في أناقته التي أعرفُها ، بين الشموع وأكاليل الزهر ، والنسوةِ النادبات . الحجرةُ رطوبةٌ خانقةٌ ودخانُ سجائر وشموع . التابوتُ مرتفعٌ . ولكي ترى حيدر، عليك أن تقترب . أن تقطع تلكما الخطوتين اللتَين لا أصعبَ منهما . الخطوتَين اللتَين تفصلان بين بين حيدر ، الحيّ في أعماقك ، وحيدر المسجى هنا ، في نومته الطويلة ، مغمضَ العينين ، متبرِّماً ممّا جرى له ، دون معنى ، ومن مَناقع الرزّ، والعتمة المطْبقة على قرية فلبينيّةٍ بلا كهرباء . وجوهُ الناس ، في هذا الريف العميق ، أقربُ إلى السواد . البعوض يطِنُّ ، والذبابُ يطير ، بينما كلابُ الفلاّحين تتحركُ حرّةً ، بين الناس ، في الحجرة المكتظّة.
النظرةُ الخاطفةُ التي ألقَيتُها على حيدر ، كانت كافيةً لانهياري. دخلتُ حجرةً متّصلةً ، كان لي فيها سريرٌ . جلستُ على الحافة ، بلا إحساسٍ سوى التداعي ، وانتظرتُ منتصف الليل ، موعد انصراف الناس ، كي ألتقي بحيدر ، وأتحدّث معه ، وحدَنا ...
*
تذكّرتُ " قلب الظلام " لجوزيف كونراد ، تذكرتُ فيلم " القيامة الآن " لكوبولا ، وفيلم " صائد الغزلان " .
حين تركتُ حافة السرير ، واقربتُ من حيدر النائم في الحجرة الواسعة ، خطرَ لي أنني لن أستطيعَ التحديقَ في وجهه.
زوجتُه هناك . والحفيدةُ ذاتُ العامَين تنامُ أكيداً في مكانٍ غيرِهذا ، والناسُ انصرفوا إلى شؤونهم. خطوتُ الخطوتَين الصعبتَين . قلتُ وأنا أنظرُ إلى حيدر ، في رقدته ، طويلاً ، معافى ، برِمَ الشفتَين : " آه يا حيدر ، كيف وصلتَ حتى هنا ؟ " . تُرى ، هل سيفيق حيدر منغشيتِه ، ولو لحظةً ، كما في " صائد الغزلان " ؟ هل يزولُ هذا العبَثُ ؟ الشموعُ الطويلةُ الثقيلةُ تلقي ضوءاً ثقيلاً ، وأكاليلُ الزهر شرعتْ تذبلُ في سخونة المكان . المكانُ بعيدٌ ، يا حيدر ، في هذا الريف الفلبيتيّ العميق ، وأنت مَن عاشَ في الحواضر والعواصم . المكانُ مظلمٌ قذرٌ ، يا حيدر ، وأنت مَن عاشَ في الوهج ، وتعلّقَ بالنظافة حدّ الوسواس .المكان يعجّ بالبعوض ، وأنت مَن ينتبهُ حتى إلى الأزيز البعيد لبعوضةٍ في الخيال ( تسلّلَ بعضُه إليك في رقدتك الغافلة ، وها هي ذي زوجتك تحاولُ إبعادَه عنك ... ) .
عرفتَ السفرَ ، مبكراً ، جِدَّ مبكرٍ ، يا حيدر . كنتُ في الجزائر ، حين جئتَ أنت من البصرة ، على ذراعَي أُمِّكَ ،
طفلاً مكتنزاً ، صَبوحَ الوجه ، ذا أشهُرٍ ستّةٍ . سافرتَ ، عبر عالمنا الواسع ، بالسيارات ، والقطارات ، والطائرات ، والسفن _ أتذكُرُ رحلتَنا الطويلةَ في سفينة الشحن الروسيّة، من عدنٍ إلى اللاذقيّة بعد أن تساقطت القذائفُ على منزلنا في " خور مكْسَر " ؟ لقد سافرتَ طويلاً وبعيداً ، لكنّ سفرتَك هذه كانت عجباً . أيحقُّ لي ، يا حيدر النائم ،أن أسألكَ ، الآن ، لِمَ جئتَ إلى هنا ؟ أنت لم تكنْ مغامراً . لكنْ مَن يدري ؟ لعلّ المغامَرةَ دمٌ في الدم . لعلّها جمرةٌ تشبُّ في الشبيبةِ . جمرةٌ خفيّةٌ لا نعرفُها إلاّ إذا اتّقدَتْ بغتةً ...
مضيتَ ، يا حيدر ، مُحِقّاً ، مع النداء العميق ، لكني أقول لك ، الآنَ فقط ، إنك مضيتَ أبعدَ حتى ممّا قدّرتَ أنت.
لم تُقَدِّرْ ، مثلاً ، أنك ستكون ، يوماً أو ليلةً ، في هذه القرية المعتمةِ ، في قلب الظلام ، كما لم تقدِّرْ أن التيفوئيد المتوطِّن ، سوف يخترم حياتَك الطاهرةَ في ساعة ، ساعةٍ واحدةٍ ، معطِّلاً بسُمِه الساري كلَّ ما ينبض في جسدكَ ويخفُقُ ...
جئتُ أستردُّكَ يا حيدر .
*
الأكاليلُ حولك ، والشموع ، وثمّتَ صليبٌ يعلو ، كما اعتادَ القومُ هنا . كأنّ لكل نائمٍ مثلك صليباً .
جئتُ أستردُّك يا حيدر.
في الصباح تطلُعُ الشمسُ ، ساخنةً في المطر الموسميّ الساخن . سيَصّاعَدُ البخارُ من حقول الرزّ النقيعة ، وتبدأ الثيرانُ عملَها البطيء . عرباتُ الريكشو ذاتُ المحرك الملوِّث ستملأ الجوَّ الخانقَ دخاناً أسودَ ، ولسوف تدخلُ الكلابُ ، كلابُ الفلاحين ، حجرتَكَ الواسعةَ ، مع الذباب والبعوض المهوِّم .لكني سأظلُّ إلى جانبك ، أتحدّثُ معك ، وتحدِّثُني، حتى نقطع ، معاً ، رِحلةَ العودة الطويلة .
في هذا الليل متّسَعٌ .
لكنْ ، أتراه يتّسِعُ لمشهدنا ، نحن ، الإثنين ؟
أتراه يتّسعُ لِما نقولُ ، ولِما لانقول ، وهو الأبعدُ زمناً وغايةً ؟
أنا ، بشَعري الشائب الذي أحبُّهُ طويلاً ، وأنت بشَعركَ الفاحم الذي تحبُّهُ قصيراً ، كيف التقَينا ، هنا فقط ، في مَنقعِ الرزّ هذا ، لنقولَ ما لم نقُلْ ؟
لقد ضِقتَ بنا ذرعاً ، بي ، بأُمِّكَ ، بشقيقتيكَ . ضِقتَ بحياتنا الرتيبة ، والمقهى التونسيّ ، والمغازة العامّة . ومضيتَ نحو الشرق البعيد، نحو مطلع الشمس ، تنشيءُ مطلعَ حياةٍ لك ، أنتَ ...
لكني كنتُ خائفاً ، خائفاً عليك ، ومتوجساً من مقصدك ، حاولتُ ثَنيَكَ عمّا اعتزمتَ . وفي شهقةٍ أخيرةٍ مني قلتُ لك إنني قد لا أراك ثانيةً ...
كم كنتُ مخطِئاً !
فها أنذا أحدِّثُك. أحدِّقُ في وجهك . لقد رأيتُك ثانيةً ، كما لم أركَ من قبلُ . وستظلُ هذه الرؤيةُ الثانيةُ ، هي الرؤية الباقية. لتكنْ صورةً في النهار ، هاجساً معذِّباً في الليل . لكنها ستظل معي ، إلى أن ألتقيك يا حيدر ، ولسوف نكون متجاورَينِ ، طويلاً ...
سآخذكَ إلى دمشق .
ستجاورُ طُهرَ العرب ، السيدة زينب .
وستأتي أُمُّكَ من شمال العالَم .
*
مانيلا ، التي تقع على البحر ، لم تقع عيناي فيها على البحر.وأنت ، أيّامَ كنتَ في مدينتك الداخلية ، كاباناتوان ، هل رأيتَ البحر ؟
أعرفُكَ تحبُّ البحر ...
لكنك اخترتَ مدينةً داخليةً ، كنتَ فيها مدرِّساً جامعيّاً . التقيتُ مع عدد من زميلاتك وزملائك ، رفاق جامعة لفوف بأوكرانيا . سألتُهم عنك . أخبروني بأن حياتك كانت هانئةً . أودُّ ، عميقاً ، أن أصدِّقهم . أخبروني أن سكّان كاباناتوان يسمّونك " البروفسور " احتراماً ، وأنك ساعدتَ شبّاناً كثيرين ليكونوا نافعين ، وأنك كنتَ مختلفاً عمّن يأتي الفلبين من غير أهلِها : أحببتَ الناسَ ، وشرعتَ تتكلّم بلغتهم .
*
جئتُ أستردُّكَ ، وها أنذا أفعلُ .
المطرُ الليليّ غزيرٌ، وأنا معك ، في الشاحنة الصغيرة التي تنقلك إلى المطار ، بانتظار طائرة الصباح التي ستحملك إلى دمشق .
لن أكون معك على الطائرة نفسِها ، في رحلة العودة ؛ فللعالَم قوانينه ، ومنها قانون التأشيرة .سآخذ الطائرة إلى عمّان ، ثم ألحقُك إلى هناك بالسيّارة ، لكنّ رفاقاً لي سيستقبلونك في مطار دمشق . لا تقلقْ يا ولدي ... أعرفُ أنك ترتبكُ ، مثلي ، في المطارات . أرجوك ألاّ تقلق هذه المرّة ، وألاّ ترتبك .
*
الرِّحلةُ لم تنتهِ يا حيدر .
أنت الآن ، تجاورُ طُهرَ العرب ، السيدة زينب ، الحوراء زينب .
لكن الرحلة لم تنتهِ .
سأُكملُها عنك.
وكنتُ أودُّ أن نقطع ، معاً ، شوطاً أطولَ من الطريق .
يا لَشقاء المسافر الوحيد !
*
قالت زوجتُك ، وأنا أكابدُ في مانيلا تعقيداتِ استردادك : قد لا يريد حيدر أن يفارق المكان .
ربّما رأت هي ذلك .
لكني ، يا ولدي ، جئتُ أستردُّك ...
فاغفرْ لي.
اغفِرْ لي إذ جعلتُ مُقامَك ، ومقامي في يومٍ لاريبَ فيه ، قربَ الجواهريّ !
إغفِرْ لي
لكنْ كان عليَّ أن أجعلَ مُقامَكَ قربَ البيت .
دمشق 30.08.1997
|