" حاشية من كتاب ( الثورة البلشفيّة ) "
إي.ه .كارّ
E.H.Carr
ترجمة سعدي يوسف
كان موقف ماركس والماركسيّين من طبقة الفلاّحين موضع خِلافٍ وسوءِ فَهمٍ .
لُبُّ الماركسية كان تحليل الإنتقال من الرأسمالية إلى الإشتراكية. الرأسمالية هي صنيعُ البورجوازيةِ ، الطبقةِ الحاكمةِ في المجتمع الرأسماليّ ؛ الثورة الإشتراكية التي هي في المقام الأول من عمل البروليتاريا ، ستأتي بمجتمع المستقبل الذي ستندمج فيه الطبقاتُ كلُّها ، لتختفي في النهاية .
من الناحية الأخرى ، نرى أن الفلاحين ، كطبقة ، كانوا شكلاً اجتماعياً للنظام الإقطاعي ، لا ينتمي إلى عالم الرأسمالية البورجوازية ، ولا إلى عالم الإشتراكية البروليتارية. ماركس في المجلد الأول من " رأس المال " ، وفي تحليله للنظام الرأسمالي ، مستخدِماً أنموذجاً مطْلَقاً ، لا صورةَ أيّ مجتمعٍ قائمٍ ، لم يجد مكاناً فيه للفلاّح أو للحِرْفيّ الصغير ؛ هذانِ لم يكونا شكلَين نمطيّينِ ، للرأسمالية ، بل هما بقايا عابرة لنظام اجتماعي مندثر.
جزءٌ جوهريٌّ من هذا الرأي كان أن طبقة الفلاحين ، التي تحملُ ندوبَ أصلها الإقطاعي ، كانت عنصراً متخلِّفاً في المجتمع المعاصر - متخلِّفاً ليس فقط إزاء البورجوازية الرأسمالية ، بل حتى إزاء البروليتاريا . وبالتالي
فإن البورجوازية الرأسمالية متقدمةٌ أكثر ، بينما الفلاحون ، كطبقة ، كـــــــــانوا يتفسّخون . في " البيان الشيوعي " ، حين كان ماركس في تفكيره الرئيس مهتمّاً بشروط أوربا الغربية ، رأى أن الفلاّحين ، كطبقة ، ليس لهم مستقبلٌ ، مثل الفئات الأخرى من البرجوازية الصغيرة ( جمعَهم في " الصانع الصغير ، صاحب الدكّان ، الحِرفي ، والفلاّح" ) ، وسوف يختفون في التيّار المتقدم للبورجوازية واسعة النطاق . وفي الوقت نفسه رأى أن كل تلك الجماعات كانت محافظةً ، بل رجعية ، تحاول أن " تعيد عجلة التاريخ إلى الوراء " .
وإنْ حدثَ ، مصادَفةً ، أن صارت ثوريةً ، فبسببٍ من تحوُّلها اللاحق إلى بروليتاريا . هكذا هم يدافعون ليس عن مصالحهم الراهنة في الحاضر، فقط ، لكنْ عن مصالحهم في المستقبل أيضاً . إنهم يتخلّونَ عن موقعهم ليضعوا أنفسهم في موقع البروليتاريا.
كان فلوكون حذّرَ إنجلز من أن أحد عشر مليوناً من المزارعين الفرنسيّين الصغار كانوا " ملاّكينَ متشدِّدينّ"
وأعداءَ ألِدّاء لكل شيء تفوح منه رائحةُ الشيوعية " . ويبدو أن القول بالطابع المحافظ والرجعي لطبقة الفلاحين قولٌ تأكّدتْ صحتُه ، في كل أرجاء أوربا الغربية ، وفي فرنسا بالذات ، مع تجربة 1848 ، حين ظلَّ الفلاحون إمّا مراقِبين سلبيّين للثورة ، أو أعواناً للسلطات في سحق ثورة البروليتاريا " .
في أوربا الشرقية ( ألمانيا تحتل موقعاً وسطاً بين الشرق والغرب ) كان الفلاّحون في مرحلة من المسيرة التاريخية أقلّ تقدُّماً . حتى 1848 ظلّ الإقطاعُ سليماً أو يكاد . والثورة البرجوازية التي سوف تكتسح آخر قلاع الإقطاع ، ما زالت في رحِم المستقبل . هذه الثورة ليس لها من أملٍ إنْ كان العبءُ فيها على كاهل البورجوازية والبروليتاريا ، اللتَين تكونان أضعفَ وأقلَّ عديداً كلما اتجهنا إلى الشرق ؛ ولن يكون ثمّت أملٌ في نجاحها إلاّ إذا كانت ثورةً زراعيةً أيضاً ، ومدعومةً من الفلاّحين . في البيان الشيوعي كانت رؤية ماركس مركّزةً ، بصورةٍ رئيسةٍ ، على أوربا الغربية ، لكنه في القسم القصير الأخير المكرّس لعلاقات الشيوعيّين " مع مختلَف جماعات المعارَضة " ، عُرِضَ مسانَدة الشيوعيّين ، لــ " إصلاحيّي الزراعة " في الولايات المتحدة الأميركية ، وللحزب البولندي الذي " أصَرَّ على أن الثورة الزراعية هي الشرط الأول للتحرر الوطنيّ " . وبعد أشهرٍ قليلة ، أعلنَ ماركس هذا المبدأَ ، بوضوحٍ أكثر :
" بإمكان البلدان الزراعية بين بحر البلطيق والبحر الأسود ، أن تُجَنِّبَ نفسَها بربريةَ النظام الإقطاعي الأبوي ، فقط عن طريق ثورة زراعية تحوِّلُ الأقنان وفلاّحي اللزْمة إلى مالكينَ أحرارٍ - ثورةٍ مماثِلةٍ تماماً لتلك التي حدثتْ في 1789 في الريف الفرنسي " .
وهكذا ، حين تكون البورجوازية والبروليتاريا ، منفصلتَين أو مجتمعتَين ، أضعفَ من إنجاز الثورة البورجوازية ، وإطاحةِ الإقطاع ، فإن للشيوعيّين ، الحقّ في مساندة الأحزاب الفلاّحية للقيام بالثورة باسم المِلْكية الفلاحية الفردية ، حتى لو ظلَّ هذا ، في ظاهرهِ ، " شكلاً زراعيّاً يبدو معارِضاً لأي نوع من الشيوعية ".
ومن المنطقي تماماً ، التمييز بين السياسات المتّبَعة ، في بلدان الثورة الزراعية الظافرة ، وتلك التي لم تتحقّقْ فيها هذه الثورة .
لكنْ لا يخلو من الضِيْق أن تقَدّمَ ، إلى فلاّحي أوربا الشرقية ، امتيازات حيازة الأرض ، التي من أجلها وُصِفَ فلاّحو أوربا الغربية بــ " البرابرة " لآنهم أرادوا الدفاع عنها .
على هذه الأرضيّة الوعرة ، بدأتْ ، أوّلاً ، فكرةُ تحالُفٍ ثوريٍّ بين البروليتاريا والفلاحين . في 1850 اختتمَ إنجلز مقالةً طويلةً عن حرب الفلاحين الألمانية في 1525 ، بتماثُلاتٍ صريحةٍ أو ضِمْنيّة ، مع وصف مصير البورجوازية الصغيرة الألمانية في 1848 :
" غالبية الأُمّة – البورجوازية الصغيرة ، الحرفيّون والفلاّحون - خُذِلوا من حليفهم الطبيعي ، البورجوازية ، باعتبار أنهم كانوا أكثر ثوريّةً . وفي أماكنَ خذلتهم البروليتاريا ، التي لم تكن متقدمةً بما يكفي ، وممزَّقةً إلى حدّ التلاشي ، فلم تعُدْ قادرةً على معارضةَ جارَيها اللذَين على اليمين أو على اليسار.
هذه الفِقْرة ترى ، بوضوح ، أن الفلاّحين الذين خذلتْهم البورجوازية ، سوف يتقدّمون نحو تحالُف مع البروليتاريا: كما تتضمّن الفقرةُ نواةَ الفكرة القائلة بانقسامِ لاحقٍ بين الفلاحين المتمسِّكين بالتحالف مع البورجوازية ، وأولئك الذين سينضمّون إلى البروليتاريا . لم يتخلَّ ماركس وإنجلز ، البتّةَ ، عن اعتقادهما بأن التنظيم الواسع للإنتاج ، في الزراعة ، كما في الصناعة ، شرطٌ جوهريٌّ للإشتراكية ، وبالتالي فبإمكان الفلاحين أن يكونوا حـــــلفاء البروليتاريا في الثورة الإشتراكية ، إذا فطموا أنفسهم من إيمانهم بالملْكية الفلاحية . في ألمانيا ، لم تحلّ هذه المرحلة بعدُ . هناك رسالة من ماركس إلى إنجلز في 1856 وردَ فيها مقطعٌ كثُرَ الإستشهاد به ، يقول ماركس فيه إن كل شيء في ألمانيا يبدو قادراً على " مساندة الثورة البروليتارية بنسخة ثانية من حرب الفلاحين " . هذا المقطع يبيِّن أن ماركس يعتبر ألمانيا بين البلدان ذات الأغلبية الفلاحية في شرقيّ أوربا ، حيث لم تكتملْ ، بعدُ ، الثورةُ البورجوازية على الإقطاع ، وحيثُ بإمكان الأقلية البروليتارية أن تقدم مساعدةً تكتيكيةً مؤقّتةً لبرنامج مِلْكيّة فلاّحية .
أمضى ماركس وإنجلز بقية حياتهما بعد 1850 في البلد الذي فقدتْ فيه المسألة الفَلاّحيةُ حدّتَها مع مسار التصنيع الواسع وتحويل الفلاحين إلى بروليتاريا رِيفٍ . حتى الإمكانات العملية للثورة في أوربا لم تستطعْ أن تدفعهما لإعادة النظر في الموضوع التكتيكيّ .العِقدان اللذان فصلا بين لهيب 1848 وكومونة باريس ، لم يسجِّلا أي تغيير في موقفهما من الفلاّحين ، كما أن بطولة الكومونة لم تفلِحْ في انتفاضةٍ فلاّحيّة كان من الممكن معها ، فقط ، إنقاذ الكومونة من الهزيمة . لكن ما حثّ ماركس في عقد حياته الأخير ، على إعادة النظر في المسألة الفلاحية جاء من مصدرٍ ناءٍ ، وغيرِ متوقَّعٍ – روسيا .
في نهايات ستينيّات القرن التاسع عشر أمسى ماركس وإنجلز مهتمَّينِ بالشؤون الروسية ، وتعلّما اللغة الروسية كي يكون بمقدورهما قراءة الأدبيّات الاقتصادية الروسيّة . كانت اللحظة نقطة تحوُّل هامّة في التاريخ الروسيّ . في خمسينيات القرن التاسع عشر برزَ تيّارٌ فكريٌّ جديدٌ – إذ أن النارودنيك كانوا مجموعــــــــــة مثقفين ، لا حزباً سياسيّاً . كان فِكر النارودنيك يجمع بين الاعتقاد بالسْلافيّة في مصير روسيا ، ودورها في تنوير أوربا بمباديء الإشتراكية الغربية ، ذات المنحى الطوباوي . المعتقَد الأكثر ملموسيّةً لدى النارودنيك هو الإعتقاد بأن الجماعة الفلاحية الروسية بنظامها ذي المِلْكية الجمعية هي اشتراكية الجوهر ، وهي قادرةٌ على أن تشكِّل قاعدة النظام الإشتراكي القادم ، الذي سيقود بقية أوربا على طريق الإشتراكية . تحرير الأقنان في1861 لم يغيِّر هذا الرأي .
إجراء تحرير الأقنان كان مصدره الرغبة في تحديث الإقتصاد الروسيّ بعد كوارث حرب القرِم ، وكما جرى في إنجلترا ، الحاجة إلى خَلق جيشٍ احتياطيّ من العمّال ، بُغْيةَ تصنيع البلاد . لقد أنهى العلاقة الإقطاعية بين مالك الأرض ، السيّد ، وبين الفلاّح القِنّ ، ومضى أبعدَ ففتحَ الريفَ أمام تغلغُل الرأسمالية .لكنه ، لإبقائه على الجماعة الفلاّحيّة( التي هي الشكل الغالب في تنظيم الزراعة ) ، لم يحْظَ إلاّ بتأثيرٍ قليلٍ في مباديء النارودنِك. بلغتْ أنشطةُ النارودنِك ، معزَّزةً بجماعات إرهابيّة ، ذروتَها في سبعينيّات القرن التاسع عشر.
الترجمة الروسية الأولى للمجلّد الأوّل من رأس المال التي صدرت في العام 1872 كانت من عمل نارودنيّ
اسمُه دانيَلْسون .
الصراع ضد باكونين سحبَ ماركس وإنجلز ، أكثرَ ، إلى حقل الخلافات الروسيّة . في 1875 ، وردّاً على هجومٍ من النارودنيّ الروسيّ ، تْكاشَيف ، نشر إنجلز مقالةً حول " العلاقات الإجتماعية في روسيا " أشار فيها ، بقوّةٍ ، إلى أن تحرير الأقنان " وجّهَ ضربةً قويّةً إلى المِلْكية الجمعية " ، وإلى أن " المِلْكية الجمعية في روسيا استنفدت ، منذ زمنٍ ، وقتَ ازدهارها ، و هي ، حسب ما يبدو ، تكاد تزول " . لكنه أضافَ اعتباراتٍ أخرى فتحتْ نقاطَ خِلاف :
مع هذا ، فلا ريبَ في أن بالإمكان تحويل هذا الشكل الجمعي إلى شكلٍ أعلى ، إنْ أمكَنت المحافظةُ عليه حتى تنضج الظروفُ لمثل هذا التحويل ، وإنْ كان بمقدوره التطور ، بطريقةٍ يبدأ فيها الفلاّحُ بالعمل ليس فرديّاً ، وإنما مع الجماعة : آنذاك سوف ينتقل الفلاّحُ الروسيّ إلى هذه المرحلة العليا ، متجنباً المرحلةَ الوسيطةَ للملْكية البورجوازية الصغيرة . لكن هذا لا يمكن أن يَحدث إلاّ مع الثورة البروليتارية الظافرة المندلعة في أوربا الغربية ، قبل الإنهيار التامّ للملْكية الجمعية - الثورة سوف تضمن للفلاّح الروسيّ الظروفَ الأساسَ لمثل هذا التحوّل ، وبالذات الوسائل المادية اللازمة للقيام بثورةٍ في النظام الكامل للزراعة المرتبط بها.
للخصائص أهمّيتُها. لم يُقترَحْ أن بمقدور روسيا وحدَها ، تجاوز مرحلة الرأسمالية البورجوازية وبلوغ الإشتراكية ،
مباشرةً ، ناقلةً المؤسسات الجمعية لماضيها الإقطاعي ، إلى المؤسسات الجمعية لمستقبلها الإشتراكيّ .
المقترَح هو أن بروليتاريا البلدان المتقدمة بعد أن أدّتْ مهمّتَها الظافرة ، ستكون قادرةً على تأخذ روسيا المتخلفة ، معها ، إلى الإشتراكية ، بدون أن تمضي روسيا في الطريق الرأسمالي . ليس في الأمر ما هو غير منطقيّ ، إذا اعتبرْنا أوربا وحدةً . ماركس نفسه لم يُعلن شيئاً آنذاك . لكن تأييده قولةَ إنجلز جاء بعد سنتين
في رسالة إلى صحيفةٍ روسيّةٍ ردّاً على مقال منشورٍ يتّهمه بمعاداة روسيا . أنكرَ الردُّ أنه تبنّى وصفَةَ " طريقٍ عامٍّ على الإمم كلِّها أن تسلكه " . ثمّ لخّصَ الأمر كالآتي :
إن استمرت روسيا على الطريق الذي سلكتْه ، منذ 1861 ، فإنها سوف تحْرَم من الفرصة النادرة التي وفّرَها التاريخُ لأمّةٍ ، فرصةِ تفادي مطبّات النظام الرأسماليّ .
سرعان ما ازداد الموضوع تعقيداً ، حين برزتْ في روسيا مجموعةٌ جديدةٌ قويّة من الماركسيّين الشباب الذين انشقّوا على النارودنِك ، وجابهوهم مجابَهةً شاملةً . لقد رأت المجموعة أن الجماعة الريفية ليست سوى استمرار للإقطاع ، داعيةً إلى تطوير الرأسمالية في روســيا كمقدمة للثورة البروليتارية . قادة المجموعة ، بليخانوف ، أكسلرود ، فيرا زاسوليتش ، غادروا روسيا في نهايات سبعينيات القرن التاسع عشر ، وفي 1883 أسّسوا مجموعة " تحرير العمل " في سويسرا . رأى أعضاءُ المجموعة أن مشروع الثورة الوارد في
" البيان الشيوعي " صالحٌ للتطبيق في جميع البلدان ، وأن بالإمكان الوصول إلى الإشتراكية في روسيا عبر المرحلة الوسيطة للرأسمالية البورجوازية . لكن حصل ارتباكٌ حين تخلّى عن هذا المفهوم أحدُ مؤسِّسيه .
في شباط 1881 كتبتْ فيرا زاسوليتش إلى ماركس ، طالبةً توضيح رأيه في الجماعة الفلاحية الروسيّة.
كان البحث شديداً على ماركس وهو في شيخوخته . وأنتج البحث جواباً طويلاً ذا ثلاث صِيَغ ، جواباً ظلّ بين أوراقه . في نهاية الأمر ، رفض ماركس الصيَغَ الثلاث كلَّها ، واكتفى برسالة موجزة يبيِّن فيها أن التحليل الوارد في رأس المال القائم على الظروف الغربية ، التي زالت فيها المِلْكية الجمعية منذ زمن طويل،
لا يمكن تطبيقه على روسيا ، حيث تلك المِلْكية ما زالت قائمةً في هيأة الجماعة الفلاحيةPeasant commune . وعبّرَ عن اعتقاده بأن هذه الجماعة هي نقطة مسانَدة للإنبعاث الإشتراكي في روسيا.
لكنه كان حذِراً في الوقت نفسه ، إذ قال " لكن ، كي ينجح الأمر ، من الضروري إزالة التأثيرات الضارّة المعَرَّض لها من كل الجهات ، كي تُضمَن له الظروف الطبيعية للتطوّر الحرّ " . لم يُشِرْ ماركس ، في1877 ولا في 1881 ، إلى ما رآه إنجلز في الثورة البروليتارية الظافرة في أوربا الغربية . لكن هذا الحذف تمّ تلافيه ، حين كتب ماركس وإنجلز ، بصورة مشتركة ، مقدمةً لترجمة روسيّة جديدة لــ " البيان الشيوعيّ ".
في هذه المقدمة التي هي آخر إسهامٍ لهما في الشأن الروسيّ جاءَ :
"السؤال الآن هو : هل بإمكان الجماعة الروسية ، وهي شكلٌ من الأشكال البدائية لحيازة الأرض ، أن تَعْبرَ ، مباشرةً ، إلى الشكل الشيوعيّ الأعلى لحيازة الأرض ؟ أم سيحْدُثُ العكسُ ، فتتعرض الجاعة إلى عملية التفسُّخ ذاتها التي قرّرتْ التطورَ التاريخي للغرب ؟
الجواب الوحيد الممكن في الوقت الراهن ، هو الآتي : إنْ كانت الثورة الروسية إشارة انطلاق للثورة العمّالية في الغرب ، بحيث تُكمِلُ إحداهما ، الأخرى ، فإن حيازة الأرض الروسية الراهنة ستكون نقطة البداية للتطور الشيوعيّ " .
تقودنا دراسةُ هذه النصوص إلى استنتاج أن ماركس وإنجلز ، في سنواتهما اللاحقة ( ماركس أكـــــــــثر من إنجلز ) ، كانا مدفوعَين برغبةٍ إنسانيّةٍ في إرضاء أنصار الجماعة الروسية من النارودنيّين المتحمسين ، ممّا لايتّفق ، تماماً ، مع الظروف الروسية ، ولا مع البيان الشيوعي و رأس المال . ماركس مات في 1883 ، لكن الرأسمالية ظلت تتطور في روسيا ، وتتطور معها قوّة المجموعة الماركسية .
انتهى النارودنيّون في درب الإرهاب فأخذوا يفقدون تأثيرهم . بليخانوف في سلسلة مرموقة من المقالات والمنشورات طبّقَ محلِّيّاً مقولة أن الجماعة الفلاحية لا يمكن لها أن تتطوّر إلا عبر أشكال التطور البورجوازي ، لا الشيوعيّ . وفي المؤتمر التأسيسي للأمميّة الثانية في باريس 1889 ، أعلنَ ، متحدِّياً أن " الثورة الروسية سوف تنتصر ، ثورةً بروليتاريّةً ، وإلاّ فلن تنتصر أبداً " .
المجاعة الروسية الكبرى في1891 سلّطتْ ، ثانيةً ، الضوءَ شديداً ، على المشكلة الزراعية . بالإمكان إرجاع الكارثة إلى تأثيرات الرأسمالية في انحلال الجماعة الفلاحية ، وكذلك إلى التخلُّف الموروث في كفاءة النظام الجمعي. لكنْ ، ومهما كان التشخيص ، كان واضحاً أن العمليات التاريخية كانت جارية ، و لا سبيل إلى إيقافها.تراجَعَ إنجلز بهدوء عن التنازلات التي قدّمَها مع ماركس ، للنارودنِك ، قبل عشر سنين أو خمس عشرة سنةً . وقد سُجِّلَ هذا التراجع في رسالة مؤرّخة في شباط 1893 إلى النارودني الشيخ دانيَلسون الذي كتب يعزو المجاعة إلى تقدم الرأسمالية. إنجلز لم يكن ليُنكِر شرور الرأسمالية ، لكن النقطة لم تَعُدْ هنا . ليس من سبيل إلى تلافي هذه الشرور . فات الوقتُ على ذلك . لقد أمست الجماعة الفلاحية جزءاً من " الماضي الميت " ، ولا سبيل لدى روسيا للخلاص من مصيرها الرأسماليّ :
التاريخ هو أشدّ الربّات قسوةً . هذه الربّة تقود عربتَها المنتصرة على أكوام الجثث ، لا في الحرب فقط ، ولكن حتى في أوقات التطوّر الإقتصادي " السلْميّ " .
هذا الحكم الكالح أعادَ روسيا إلى مكان طبيعيّ في المشروع الثوري لــــــــــالبيان الشيوعي. لقد انطفأ بصيصُ الأمل الذي كان لدى ماركس وإنجلز في حلٍ كريمٍ ؛ إنجلز ، في السنة التالية ، بمناسبة إعادة نشره مقالة 1875 ، قبِلَ التحدي من جديد ، متردداً ، وأعادَ التأكيد ، بدون تغيير شكليّ في الموقف ، على أن المبادرة في مثل هذه التحولات في الجماعة الروسية لا تأتي من تلقاء نفسها ، وإنما من البروليتاريا الصناعية في الغرب . إن االشيوعية الزراعية المتبقية من نظام بدائي للمجتمع لم تنتج إلا انحلالها.
عندما شرع لينين يكتب ، في تسعينيات القرن التاسع عشر ، اتّبعَ رأي بليخانوف ضد النارودنِك ، وجعل تطور الرأسمالية في روسيا موضوعَه الرئيس . لكن بعض الخلافيّات القديمة سوف تظهر في سنين لاحقةٍ ، في ظروفٍ مختلفة ، حول " الإشتراكية في بلد واحد " ، وجمعية الزراعة .
وبالرغم من كل الخلافات حول الطريق الذي ينبغي اختياره لبلوغ الهدف ، لم يتزحزح ماركس وإنجلز عن نقطة رئيسةٍ : الزراعة الجمعية واسعة النطاق شرطٌ لازمٌ للإشتراكية . ويبدو أن شعبية النارودنِك آتيةٌ من أن نظرياتهم قدّمت هذا الشرط . في آخر سنة من حياته ، عاد إنجلز إلى الغرب ، في مقالةٍ طويلةٍ " حول المسألة الفلاحية في فرنسا وألمانيا " ، محاولاً الإجابة عن هذا السؤال الـمُـلغِز . رأى إنجلز أن الثورة البورجوازية حرّرت الفلاّح في أوربا الغربية من وضعه الإقطاعي وتبِعاتِه ، لكنها حطّتْ من وضعه الماديّ والمعنويّ ، إذ حرمتْه من دفاع الجماعة ذات الإدارة الذاتيّة ، التي كان عضواً فيها . لقد تعرّضَ لكل قصف الإستغلال الرأسمالي ، وتحوّلَ إلى " بروليتاريّ المستقبل " . لِمَ إذاً ، يعتبرُ الفلاحُ ، بعامّةٍ ، الإشتراكيةَ الديموقراطية ، وهي حزب البروليتاريا المدينية ، عدوَّه اللدودَ ؟ السبب هو أن الإشتراكيين الديموقراطيّين أوردوا في برامجهم
سياسة تأميم الأرض التي رأى فيها الفلاّحُ تهديداً بفقدان الأرض القليلة التي يمتلكها .
إنجلز وضعَ حدّاً فاصلاً بين الحيازات الصغيرة وتلك الكبيرة ، الأولى هي الغالبة في فرنسا وغربيّ ألمانيا ، والثانية هي الغالبة في ماكْلِنبرغ وشرقيّ بْروسيا ، بينما بقية ألمانيا هي في الوضع الوسيط . في ما يتعلّق بالمالكين الصغار قال بوضوحٍ إن المشكلة : بمقدورنا أن نستميل جمهرة الفلاحين الصغار إلى جانبنا ، إنْ وعدناهم بما لانستطيع . هذه الوعود هي تحريرهم من الإيجار والرهون وضمان مِلْكيّتهم الدائمة . الإشتراكيون الديموقراطيون ليس بمقدورهم الإستمرار في الدفاع عن الملْكية الدائمة لأن هذا يتنافى مع مباديء الإشتراكية وكفاءة الإنتاج . لكن عليهم أن يشنّوا هجومهم على الفلاّح الصغير :
في المقام الأول ، نحن نتنبّأ بالدمار الحتمي للفلاّح الصغير ، لكنْ ليس علينا أن نُسَرِّع في ذلك بتدخُّلنا . ثانياً ، واضحٌ أيضاً ، أننا حين نكون في السلطة ، علينا ألاّ ننتزع ، بالقوّة ، مِلْكية الفلاح الصغير ( ليس هامّاً أن يكون هذا بتعويض أو بدون تعويض ) . إذ علينا أن نتعامل ، بالقوة ، مع كبار المالكين .
في ما يتّصل بالحيازات الكبيرة والمتوسطة التي تستخدم العمّال المأجورين ، فإن الإشتراكيين مهتمّون بالعمّال لا بالملاّكين . لكنْ حتى في ما يتّصل بالملاّكين فإن الأمر ليس في مسألة تدميرهم ، بل في تركهم لمصيرهم المحتوم. إنهم في واقع الأمر قد واجهوا دماراً أكيداً من منافسة الشركات الزراعية الكبرى في شكلاستيراد الحبوب عبر الأطلسي. وعلى أي حال ، فإن تقويض المِلْكيات الزراعية الكبيرة ليس هو الهدف الإشتراكيّ.
المالك الكبير هو أفضلُ ، في كفاءة الإنتاج ، من الفلاّح الصغير. وبما أن ماركس في 1850 رأى في تأميم الأرض جزءاً حتى من البرنامج البورجوازي الثوري ، فقد اقترحَ أن تظل الحيازات المصادَرة مِلْكاً للدولة ، وأن تُحَوَّل إلى مستوطَناتٍ عمّاليّة ، تُستَغَلُّ بجمعيّات بروليتاريا الريف ، وهكذا سوف تتمتّع بكل مزايا الإنتاج الواسع. الآن يرى إنجلز هذا : كما أن الصناعة الرأسمالية الواسعة كانت ناضجة للإنتقال إلى صناعة إشتراكية ، فإن المزرعة الرأسمالية الواسعة يمْكن أن تكون المزرعةَ الإشتراكيةَ الجمعيّة :
هكذا فإن تحوُّل الزراعة الرأسمالية إلى زراعة إشتراكية ، قد صار الآن جاهزاً للتطبيق الفوري ، تماماً مثل مصنع السيّد كْروب أو سْتوم .
والأكثر من ذلك ، فإن الزراعة الإشتراكية ذات النطاق الواسع ستكون أنموذجاً صغيراً ، للفلاّح الصغير ، كي يرى مزايا المشروع التعاوني الواسع .
الميراث الأخير لإنجلز في المسألة الفلاّحيّة ، كان في الإصرار المتجدد على مبدأ الزراعة واسعة النطاق كجزءٍ ضروريّ للإشتراكية ، وأنّ المزارع الرأسمالية الكبيرة كانت ناضجةً للتحوّل إلى مزارع الدولة الإشتراكية .
وهي أيضاً محاولة الأخذ بيد الفلاّح ذي المِلْكية الصغيرة ، نحو السبيل الحتميّ للمِلْكية الإشتراكية ، عبر الإقناع ، لا الإرغام .
هذه الأفكار شكّلت أساس السياسات الزراعية لكل الأحزاب الإشتراكية الديموقراطية في السنوات العشرين اللاحقة ، بالرغم من أنها لم تحْظَ بالتأييد من غالبية الفلاحين .
|