1- بحّارةٌ غرباءُ نحنُ ، بمرفـأٍ يعلوهُ بُركانٌ ... هبطْنا منذُ عهدٍ لم نَـعُــدْ نتذكّرُ الأيامَ فيهِ ، ولا تفاصيلَ النزولِ برملِ هذا الشاطئ المملوءِ صخراً ناتئاً تعلوهُ أشواكُ القنافذِ ، والطحالبُ ... ربّما كان النزولُ الفجرَ ... والتأريخُ ؟ قبلَ كتابةِ التاريخِ ؟ قبلَ الكهفِ ، والحيوانِ مرســوماً ؟ أنحنُ خرافةٌ ، أمْ أننا ، فِعلاً ، أُناسٌ مثل كلِّ الناسِ ؟ .......................... .......................... .......................... نعرفُ أننا ، فعلاً ، هنا بحّارةٌ غرباءُ جاؤوا مرفأً في ظلِّ بُركانٍ ... ونعرفُ أن هذا المرفأَ المشؤومَ يشبهُ ما تَناقَـلَـهُ الربابنةُ القدامى عن مرافئ تختفي في البحرِ أزماناً ، لتَطْـلُـعَ مرةً أخرى ، قذيفةَ فُوّهاتٍ من وحوشِ البحرِ ، أو حِـمَـمِ البراكينِ ... المرافئ ؟ هل نسمِّـيها مرافئ ؟ فَـلْـيَـكُـنْ ! ولْـنَمْـضِ فيها ، مثلَ ما نمضي ، سكارى بالذهولِ مُـدَوَّخينَ بِما طَـعِـمْـنـا من قـواقعَ أو شـرِبـنـا من نقيعِ الزعترِ البرّيّ والموزِ ... المساءُ مساؤنا : فَـلْـنوقِــدِ الحانات ! 2- في برلين أذهبُ إلى 77 شارع تي تي زِي شتراسّــه 77 titisee STR. الحافلةُ في الموقف ( الأخير ) تطْلِقُ موسيقى عاليةً ، ويرتفعُ صوتُ سيّدةٍ بالألمانيّةِ ثمّ بالإنجليزيةِ : الرجاء مغادرة الحافلة! قبل أن أستقلّ الحافلةَ رقم 122 ، كنتُ وصلتُ محطةَ مترو فِيتيناو ، الخطّ 8 Wittenau فيتيناو هي المحطة الأخيرة على الخطّ 8. هنا أيضاً ، كنتُ سمعتُ موسيقى عاليةً ، وصوتاً عذباً يأمرني بمغادرةِ القطار. النهاياتُ دائماً. دائماً في الأقاصي . * في لندن ، أعودُ من ساحة " الطرف الأغرّ " وسطَ العاصمةِ الإمبراطوريةِ إلى منزلي ( ؟ ) بالضواحي. أنا أسكنُ هيرفيلد التي بأعلى التلّ . Harefield سآخذ خطّ" البيكاديللي " الأزرق ، إلى محطّته الأخيرةِ ، إلى أكسبْرِجْ Uxbridge من محطةِ المترو الأخيرةِ على خطّ " البيكاديللي " الأزرق ، أستقلُّ الحافلةَ رقم U9 التي تُـبْـلِـغُـني هيرفيلد ... حيثُ مستشفى القلب الشهيرُ ، والسير مجدي يعقوب . يقالُ إن ثمّتَ تمثالاً للطبيب المصريّ. لم أرَ التمثالَ. لا أدري أين وضعوه. قالوا : التمثالُ على السقفِ ! * الحافلةُ ، تتوقّف ، في موقفِها الأخير . أهبطُ. أذهبُ إلى المنزل ( منزلي ؟ ) النهاياتُ دائماً. دائماً في الأقاصي! 3- في الفجرِ قبلَ الفجرِ ... لاحتْ نجمةٌ. واليوم بَدْرٌ قالَ: إنّ قبلَ الصباحِ نجمَ الصباح ... في الفجرِ قبلَ الفجرِ ... نتركُ عَتْمةَ الحاناتِ.آخرُ شمعةٍ في حانة " المستقبلِ " انطفأتْ ... وعالَـمُـنـا يعودُ إلى عماهُ إلى العماءِ الأوّلِ ... ابتهِجوا ، جميعاً ، أيها الأنذالُ هذا الكوكبُ المرتدُّ عادَ إلى طبيعتِهِ ورأسُ المالِ عادَ ، متوَّجاً ، بنتيفِ كارل ماركس ... لِـحـيتِهِ ... وما تركَ الشيوعيُّ الأخيرُ من الغماغمِ قِفْ ، ولو دهراً ... وقِفْ تسمعْ : صحيحٌ أننا في مرفأِ البركانِ ... لكنّا ... برابرةٌ وأوباشٌ قراصنةٌ ، وأجملُ ... سوفَ نأخذُ عالمََ التجّارِ من أُذُنَـيـهِ ثانيةً . نُـمَـرِّغُـــهُ بأوحالِ الدراهمِ والخراءِ المصرفيّ ... وسوفَ نغرزُ حولَ تربتِهِ رماحاً أو نُباحاً من كلابِ قُرىً ... سنكونُ : نحنُ ! 4- وأنتَ تقطعُ باديةَ السماوةِ ، حيثُ قُتِلَ المتنبي ، تبدو الباديةُ، حمادةً ، قاسيةً ، لا معالِــمَ فيها. لا نبْتٌ ولا شجرٌ نَـكَّبَ أبو محسَّدٍ ، السماوةَ والعراقَ يوماً : تركْنا من وراءِ العيسِ نجداً ونَكَّـبْـنا السماوةَ والعراقا ... فجأةً ، من وهدةٍما ، تلمحُ شجراً ، ربما كان أثَلاً . ثم تنحدرُ الحمادةُ إلى قلعة الجنرال جلوب ، جلوب باشا ، الملقّب " أبو حنَيك " بسببِ تشوُّهٍ طفيفٍ في حِنكِه . إنها نقرة السلمان ... السجن الصحراويّ والقلعةُ التي تصدُّ الجِمالَ الوهّابيّةَ الـمُغيرةَ . هنا أيضاً ذوى مهزومو ثورة العشرين ، ومعارضو الهاشميين وحكوماتِ نوري السعيد. هنا كان فهدٌ. والناجون من قطار الموت في 1963. هنا كان مظفّر النوّاب. وهنا أقمتُ. عشرون برج مراقَبةٍ ، تعلو السورَ . الماءُ يأتي في صهاريج سيّاراتٍ ، تقطع صهدَ الباديةِ ، لتمنحنا ماءَ الحياةِ ، عبرَ أنبوبٍ يُدَسُّ في فتحةٍ أسفلَ السورِ. كان وعدُ الله يحيى ، بجانبي ، لحظةَ وصولِ الماءِ... في الصباحِ سوف يأخذون وعدَ الله يحيى إلى بغداد ، لـيُشــنَقَ . مديرُ السجن، التركمانيّ ، سيأتي في جولة تفتيشٍ. علينا أن نلزمَ رَدهاتِنا. قال لنا رفاقُنا : نستقبلُه واقفينَ. * أحياناً أذهبُ إلى القلعةِ القديمةِ ، المهجورةِ الآنَ. إنها النزهةُ الوحيدةُ. في المساء ، تبدو النجومُ أشدَّ سطوعاً من مصابيح السجن. * أتذكّــرُ أنني كتبتُ في أواخر الستينيات قصيدةً بعنوان " قصيدة وفاءٍ إلى نقرة السلمان " بعد أن قيل إن السجن أُغلِقَ نهائياً . الأمرُ لم يحدُث البتّةَ . كانت " نقرة السلمان " مثل استراحةِ المحارِب. نبلُغـها كما نبْلغ واحةً بعد رحلة العذاب والتعذيب . 5- قالوا لنا : البحّارةُ السوفييت ، سوفَ يخيِّمونَ ، الليلَ ، في الدامورِ . ثمّ يحَصّـنونَ مداخلَ الدامورِ ، فجراً ، والسلالِـمَ ... نحن صدّقْنا . وقد أمضَيتُ ، في أملي ، أنا ، نفسي ، أصيلاً دابقاً ، في غرفةٍ نزعتْ نوافذَها القذائفُ . كنتُ ُأنتظرُ الزوارقَ. كان حيدر صالح ، والتوأمانِ ، وزوجةٌ عمياءُ ينتظرونَ مثلي ... كان شيء كالندى ، رطْبٌ ، يُزَلِّقُ خطوتي أعلى السلالـمِ . كنتُ أقولُ : كُنْ أعلى ، لتبصِرَ أوضحَ. البحّارةُ السوفييت ! * في عدَنٍ وفي رملٍ بساحلِ أبْيَنَ ... انفعَ الحديدُ مزمجراً. رتْلٌ يداهمُنا ، ودبّاباتُه ُتختضُّ هادرةً . وفوقَ رؤوسِنا صلياتُ رشّاشٍ تؤزئِزُ ... تِتْ- تِـتِـتْ –تِتْ-تِتْ- تِتْ-تِـتِتْ- تِتْ- تِتْ ونقفزُ في زوارقَ ضحلةٍ. قد أرسلَ السوفييتُ ، يا ولدي ، سفينتَهم ، أخيراً. كنّا بقاعِ سفينةِ الشحنِ. الحبالُ دبيقةٌ، سوداءُ ، بالزيتِ. الحبالُ أريكةُ الغرباءِ. نحن ، إذاً ، هنا، البحّارةُ ! البحّارةُ الغرباءُ نحنُ ... وسوف نسألُ في الطريقِ إلى رصيفِ اللاذقيةِ عن مبادئنا، عن الخبزِ البريءِ ومَوثِبِ الأسماكِ في الليلِ المبكِّــرِ ... * إننا البحّارةُ الغرباء
|