الحياة في خريطةٍ طباعة

نونو جوديس
شِعر

ترجمة سعدي يوسف

*
Nuno Judice
The Cartography of Being
Translated by Saadi Yousef

إصدار بيت الشِعر في المغرب

Image

 
أن تكونَ شاعراً برتغاليّاً !

التقيتُ نونو جوديس ، أواخرِ الثمانينيّاتِ ، في فرنسا ، وقرأنا معاً ، في مدينة بوردو الفرنسيّة .
كان محمود درويش معنا .
آنَها ، كان نونو جوديس ملحَقاً ثقافيّاً بسفارة بلده ( البرتغال ) في باريس .
اطّلعتُ على نصوصه ، باللغتَينِ الإنجليزية والفرنسية .
وقبل عشرين عاماً ترجمتُ عدداً من قصائده إلى لغتي العربية ، ونشرتُها في مجلة متخصِّصة .
التقَينا ، ثانيةً ، هذا العامَ ، في المملكةِ المغربية ، لمناسبة نيله " جائزة الأركانة " المرموقة من " بيت الشِعر في المغربِ " وأسهمْتُ في الاحتفاءِ والاحتفالِ ، باعتباري ذا علاقة بالجائزة .
كان اللقاءُ عزيزاً عليّ ، ليس فقط لأنني أرى نونو جوديس ثانيةً مع زوجته مانوَيلا ، وهو الصديقُ الكريمُ ، بل لأنّ
هذا اللقاءَ عجّلَ في  تنفيذ مشروعٍ أثيرٍ لديّ ، كنتُ أُعِدُّ له منذ حينٍ .
*
أن تكون شاعراً في البرتغال ، أمرٌ ليس باليُسْرِ الذي قد نتصوّرُه .
البرتغالُ أمّةٌ  في أوربا ، ما زالت شاعرةً .
وللشِعر في البرتغال تَمَكُّنٌ ومكانةٌ .
والمشهدُ الشِعريّ ، هناك ، لديه من يُحتفى بهم ، بعد فرناندو بيسوا .
نونو جوديس ، هو من بين هؤلاء ، أكيداً .
*
القصائدُ الخمسون التي اخترتُها ، وعُنِيتُ بتعريبها ، تُمثِّلُ ، إلى حدٍّ كبيرٍ ، مداخلَ نونو جوديس إلى فن الشِعر
Ars Poetica  ، وهي مداخلُ معقّدةٌ حقّاً ، حدَّ أنّ لكل نصٍّ ، أركيولوجيا مختلفةً عن سواه .
لكنّ هذه المداخلَ ، على عُمقِها ، وتنوُّعِها ، لم تجعلْ نصَّه مستغلَقاً .
هنا ، تماماً ، تكمُنُ الحِرْفيّةُ العاليةُ للشاعرِ .
وهنا ، أيضاً ، تتّضِحُ راديكاليّتُهُ ، حيثُ الشِعرُ مُحَرِّضٌ ، مُغَيِّرٌ .
*
أمُلُ في أن يُسهِمَ نونو جوديس ، في إضاءةِ السبيلِ أمام الجيل الفتيّ ، في الأرضِ العربيةِ ، هذا الجيلِ الذي اختلطتْ
عليه الأمورُ ، والتبستْ أمامه المسالكُ .
الشِعرُ ليس ترفاً .
إنه ضرورةٌ  كالموسيقى ، والنهرِ ، والرأس .

سعدي يوسف
تورنتو  03.04.2015

الطيرُ الأسود
O MERLO
منقارُ الطيرِ الأسودِ ، داخل القفصِ
ليس أشدّ صُفرةً
منه ، خارج القفصِ
الطيرُ المسكينُ ينكمشُ في زاويةٍ
ويبدو خجِلاً ،
مع أن الخطأ هو ممّن وضعَه هناك
عارفاً أن الطير الأسودَ لم يهْوِ من السماء
ثمَتَ طيورٌ مثل ذاك
طيورٌ بشرٌ
في قفصِ ، بالرغمِ من منقارِهم الأصفر
إنهم لا يُغَرِّدون
 لا يطيرون . لا يتكلّمون
هم طيورٌ أمسَوا عمياناً
بسببٍ من صمتِ الكهَنةِ ،
وبُكْماً من استبصارِ الأنبياء ِ

بمُصادَفةٍ مَحْضٍ ، فتحتُ القفصَ
لكنّ الطيرَ ظلَّ في موضعِهِ ، هناك
لا يدخلُ
ولا يَخرجُ.


صـورة
IMAGEM
الرجلُ الذي يتكلّمُ مع نفسِه ، في محطة ميونيخ المركزيّةِ ،
بأيّ لغةٍ كان يتكلّم ؟
بأيّ لغةٍ يتكلّمُ أولئكَ الضائعون ، هكذا ، على الأرصفةِ
ليلاً
في محطّات القطاراتِ  ،
آنَ لا تبيعُ الجواسقُ ، جرائدَ أو قهوةً ؟
رجُلُ ميونيخ لم يسألْني شيئاً ، بل بدا لي أنه ليس بحاجةٍ إلى شيء ،
أعني أنه كمن بلَغَ المرحلةَ الأخيرةَ ،
المرحلةَ التي لا يحتاجُ فيها المرءُ حتى إلى نفسِه
مع أنه كلّمَني بلسانٍ لا يُماثِلُ لغةً
مُعَبِّرةً عن عاطفةٍ أو إحساسٍ
لغةً هي محضُ أصواتٍ يخالِفُ منطقَها ، الليلُ
أكان يُسائلُني إنْ كنتُ  فهمتُ ، لغتَه ، بأيّ حالٍ ؟
أم أنه كان يحاولُ أن يَذْكرَ لي اسمَه ،  وأصْلَه
- في ساعةٍ ، كهذي الساعةِ ،  حينَ لا قطارَ سوف يصِلُ أو يغادرُ؟
لو كان أخبرَني  هذا
لأخبرتُه أنني ، مثله ، لا أنتظرُ أحداً ،
و أنني لم أكن أوَدِّعُ أحداً
في تلك الزاوية من محطّةٍ ألمانيّةٍ ،
مع أنّ بمقدوري أن أُذَكِّرَه بأنّ لقاءاتٍ ما ، تعتمدُ على المصادفةِ
بدون حاجةٍ إلى ترتيباتٍ مسْبَقةٍ
هذا حين تكتسبُ الأبراجُ معنىً ،
والحياةُ ، إيّاها ، وراءَ الأبراجِ ، تَهَبُ معنىً للعُزلةِ
التي تدفعُ أحداً نحو محطّةٍ فارغةٍ ،
في ساعةٍ ، لا تُشترى فيها الصحفُ ،
ولا تُحتسى القهوةُ ... 
مُعِيدةً ملمسَ الروحِ إلى الجسد ِالغائبِ
هذا يكفي ليقيمَ حواراً ، مع أن الواحدَ هو ظِلُّ الآخر
ففي ساعاتٍ ما ، من الليلِ ، لا أحدَ متأكِّدٌ من حقيقتِه
 حتى لو أنّ أحداً ، مثلي ، شهِدَ كلَّ وحشةِ العالَم
متبدّيةً ، في غماغمِ جُمَلٍ بلا معنى
في محطةِ قطارٍ ميّتةٍ. 


صراع طبقيّ
LUTA DE CLASSES
ليس كلُّ مَن بنى الكاثدرائيّاتِ
شهِدَ الأمرَ نفسَه
بعضهم ، شيّدَ في ضوء النهارِ ، أبراجاً ، ومستدقّاتٍ
حتى بلغَ العُلى
وآخرون ، في السراديبِ
رسموا  الجحيمَ مستضيئينَ بالشموع ،
مُخَلِّفينَ في الأرضِ، مساحةً للموتى المجهولين
أولئك الذين بلغوا  الأعالي
تلقَّوا النظرةَ الرَبّانيّةَ ، وشهِدوا انتصارَ فجرِ الربيعِ،
أمّا أولئك الذين ظلّوا في القاعِ، مستخلِصينَ إشارات ِالشياطينِ
من الجدرانِ الرطبةِ
فقد تبادلوا الشتيمةَ والداءَ
لكن الكاثدرائيّة فريدةٌ ، بالرغم من ذلك ،
وأولئك الذين يزورونها ، يمتدحونَ الكمالَ ، الذي يقولون إنه  نتيجُ الرؤيا الصافيةِ
أولئك  لا يفكرون بالتفاصيلِ
، مَن يهتمُّ بالعاملين في الظِلالِ
الذين يفقدون بصَرَهم في الرسوم الدقيقةِ المستخلَصةِ من العتمةِ ،
إنْ كان ما نراه اليومَ هو خطُّ الكفافِ حيثُ الحَجر ينحتُ السماءَ ؟
هكذا نقول : من اللامساواةِ يولَدُ التناسُقُ
وهي الفوضى  الإنسانية ، تلك ، التي تَجلبُ، من الفراغِ
كلَّ ما نهوى . 

مـِثلَ نساءٍ يَهْرَمْنَ
GOSTO DAS MULHERES ENVELHECEM
أوَدُّ النساءَ اللائي يهرمْنَ ،
إنهنّ مع غضونِهِنّ المتعجِّلةِ
والشَّعرِ المنسدلِ على كتِفَي فستانٍ أسود
يُحَدِّقْنَ ، ضائعات ٍفي حزنِ الستائر ِالسميكةِ
أولئك النسوةُ يجلسْنَ في زوايا الغرُفاتِ، يسترقْنَ النظرَ إلى الخارجِ،
ليس بمقدوري ،  في موضعي من الحوشِ ، أن أرى
لكني أتخيّلُ نساءً أُخرَيات ٍهناكَ
جالساتٍ على كراسيّ خشبٍ بلا ظَهرٍ
يُقَلِّبْنَ مجلاّتٍ رخيصةً ،
النساءُ اللواتي يهرَمْنَ
لديهِنّ إحساسٌ بأني أراقبُهُنَّ
وأني أحبُّ حركاتِهِنّ المتريِّثةَ
والفِعْلَ الخفِيَّ للزمن على نهودِهِنَّ ،
لهذا ، ينتظرْنَ ضوءَ النهارِ، ليَعْبرْنَ إلى هذه الغرُفاتِ المعتمةِ ،
إنهن يتجنّبْنَ الذهابَ إلى الشارعِ،
وأحياناً ، يُغَمغِمْنَ تلك المراثي التي لا تُغَنِّيها سوى شِفاهِهِنّ .


الحَكَواتي
O INVENTOR DE HISTORIAS
في هذه المدينةِ كانت غابةٌ ،
في هذا المنزلِ باحةٌ
وفي تلك الباحةِ مات رجلٌ ، وهو يُحَدِّقُ في النارِ
تلكَ الليلةَ لم تكن السماءُ مرْئيّةً بين الأغصانِ ،
لكن أيّ نأمةٍ ليليّةٍ قاطعَت ذِهنَ الرجُلِ ،
وحين مات َأضاءَ الحطبُ المقرقِعُ وجهَه .

في تلك الأيام ،آنَ لم تكن مدينةٌ ولا منزلٌ ،
والغابةُ وحدَها تمتدُّ وراءِ الأنهارِ والتلالِ
وراءَ الوديانِ والجبالِ
والقُطْعانِ والرُّعاةِ ،
حدَّقَ  إنسانٌ في النارِ ، وماتَ
لكن في رأسِهِ استقرّت حكاياتٌ ، مع الزمن
حتى بلَغَتْ تلكَ الغرفةَ التي كانت باحةً
في مدينةٍ بلا أشجارٍ ، ولا طيورٍ.
ما يتذكّره الإنسانُ عند الشعليلةِ ، يُمسِكُ بألَقِ اللهبِ
الذي سيستحيلُ رماداً في نهايةِ الليلِ ،
والريحُ ذاتُها التي كنسَتْ أوراقَ الخريفِ ورمادَ النارِ
لن تحملَ كلماتِ الرجلِ
الذي ماتَ فجراً ،
لكنّ الحكاياتِ التي ابتدَعَها أبِقَت منه لتطوفَ العالَمَ والقرونَ
بينما البشَرُ الآخرون ، وهم يُسَوّونَ الغاباتِ بالأرضِ
ويبنون  المدنَ ،
ابتدعوا حكاياتٍ أخرى .

لم يعرف الرجلُ ، البتّةَ ، ما حصلَ لهذه الحكايةِ ،
لكنه ابتدَعَها ، ليكون بمقدورِ شخصٍ آخرَ ، أن يَرويها .

بزَغَ بغتةً . له وجهكِ
SUBITAMENTE SURG. TEM O TEU ROSTO
الفردوسُ الأرضيّ زهرةٌ خضراءُ ،
الأشجارُ منَصَّفةٌ
والتتالي ضاعَ.
لو أن الزمنَ يُحَوِّلُ الكائناتِ والأشياءَ
لأحسستُ بالفرقِ والضياعِ ،
الشمسُ هفوةٌ نحويّةٌ ،
وضوءُ الفجرِ قماشةٌ بيضاءُ على شفافيةِ النورِ ،
ثم تأتي الضجّاتُ،
قادمةً من داخلِ النوافذِ ،
من داخلِ صناديقَ مختومةٍ منذ آمادٍ ،
من فناجينِ قهوةٍ ملأى إلى النصفِ،
الوقتُ متأخرٌ ،
وهو أنتِ
أوّلاً ،
بين الصبحِ والأشجارِ ،
في  نورِ العَينِ،
في النورِ الوحيدِ للنظرةِ الرائقةِ.

مدنٌ في مَهَبِّ الريح
NAS CIDADES EM QUE O VENTO SOPRA

النسوةُ يستنِدْنَ إلى بابٍ ستمرُّ الريحُ الغربيّةُ  عبرَها
شَعرُهُنّ رطبٌ من ريح الشمال ،
لكنهنّ يعرفنَ أن الريح الغربيّةَ ستُجَفِّفُه ،
النسوةُ يُدَخِّنَّ بمَباسِمِ ذهبٍ أو لدائنَ :
الدخانُ ينطلقُ من شفاههِنّ الصبيغةِ
ريحُ الشمالِ تدفعُ الدخانَ الأحمرَ جنوباً
حيثُ أحمرُ الشفاهِ يلطِّخُ غيوماً تنتظرُ ، هي أيضاً ، الريحَ الغربيّةَ.

النسوةُ يستندْنَ إلى نوافذِ المخزنِ في الغربِ. وفي الناحيةِ الأخرى من النوافذِ
يشيرُ الخدمُ إلى صواني قهوةٍ  ومعجّناتِ رزٍّ،
والنسوةُ يصبغْنَ شفاهَهُنَّ قبل أن يدخلنَ المقهى ليجلسْنَ إلى مباهجِ الغربِ
واضعاتٍ الساقَ على الساقِ
كي يرى رجالُ الشمالِ ركَبَهُنَّ والبياضَ الأنصعَ للسيقانِ،
قبلَ أن يُخفيها ظِلُّ الغربِ عن عيونهم .
في ذلك المقهى ، انتظرتُ الريحَ الغربيةَ. جلستُ إلى الطاولةِ مع قهوةٍ ومعجّناتِ رزّ
متطلِّعاً إلى أفخاذِ النساءِ اللواتي يضعنَ الساقَ على الساقِ
منتظراتٍ ظلّ َالريحِ الغربيةِ ليحميهِنّ من تحديقِ الرجال ؛
شربْتُ الماءَ المتحدِّر َمن شَعرِهِنّ الرطبِ بالريحِ الشماليّةِ 
وأحسسْتُ ببردِ الشمالِ يتحدّرُ في حلقي. سمعتُ ضحكةَ النساءِ.
جمعتُ الكلماتِ المسّاقطة على الطاولاتِ التي غادرْنَها. غسلتُ أحمرَ الشفاهِ عن الكلماتِ
حتى لا تجدَ ريحُ الشمالِ ، الكلماتِ ملطّخةً ، مثل غيومِ الجنوبِ. رأيتُ أولئك النسوةَ
يغادرْنَ المقهى ، عصراً ، ويختفِينَ خلفَ نوافذِ المخزنِ ، حيثُ لم تَصل الريحُ الغربيّةُ ، بَعدُ. لقد
تُرِكْتُ مع دموعهِنّ. تُرِكْتُ مع شَعرهِنّ الرطبِ في يدَيّ، فنثرتُهُ وسطَ الساحةِ العامّةِ ، منتظِراً
الريحَ الشماليّةَ لتُنَشِّفَه . هذا الشَّعرُ تطايَر  إلى قممِ الأشجارِ حيث طيورُ الجنوبِ لا تزالُ
تغرِّدُ . الشَعرُ يصفعُ وجهي .أعبرُ الساحةَ خاليةً من النساءِ ، وأرى شَعرَهُنَّ يهوي مع العصرِ،
كأنّ الريحَ الغربيّةَ ، بلغتْ ، الآنَ ، هذه المدينةَ ،حيث يجلسُ الرجالُ حولَ الطاولاتِ
الشماليّةِ ، يحتسون القهوةَ ، بدونِ سيقانِ نساءٍ ينظرون إليها، بينما هم يُمْضونَ الوقتَ ،
منتظِرينَ الريحَ الغربيّةَ .   

   النظريّة والتطبيق
TEORIA E PRATICA

كان يتفكّرُ في الحُبّ ،
لكنْ هل الحبُّ للتفَكُّرِ ؟ هل تتصالحُ العاطفةُ والعقلُ ؟
نعم : لقد خلَقَ مسافةً ، بينه ، هو ، الكائنِ الحقيقيّ ، ذي الجسدِ الذي يُمْلي قوانينَه
وبين تلك الكينونةِ المجرّدة حيثُ تتشكّلُ الأفكارُ 
وحيثُ بمقدورهِ أن يرسُمَ صورةً ذهنيّةً للتصنيفاتِ غيرِالشخصيّةِ التي دخَلَها :
الحبّ نفسِهِ.
المشكلة أن ّالروحَ ، أو النفسَ ، اللتَينِ صاغَتا تلكَ المفاهيمَ الجميلةَ
لا تستطيعانِ البقاءَ بدونِ الجسدِ ،
وبمجرّدِ ذِكْرِ الحُبِّ، يتشكّلُ جسدٌ آخَرُ داخل الفكرةِ  
جسدٌ له وجهٌ ، وشفتان ، وشَعرٌ ، وبَشَرةٌ ، وصوتٌ...
جسدٌ رقيقُ التثَنّي، قادرٌ على إزاحةِ كلِ مباديء العِلْمِ.
الحقّ ، كيف لك أن ترسُمَ خطوطَ نظريّةٍ ، بينما يداكَ تدخلانِ  الجُمَلَ،
وتُفسِدانِ التناسُقَ بين المَقاطعِ والصفحاتِ ،
وتُلَوِّثانِ يَباسَ الأسماءِ بإنسانيّةِ الغمغمةِ؟
إذاً  ، لا تُفَكِّرْ بالحُبّ ،
تَوَقَّفْ عن الكتابةِ :
وضُمَّ إليكَ الجسَدَ الذي أقلَقَكَ ،
مثل الـمُثُلِ الأكثر ملموسيّةً
أو المفارَقاتِ الأبهى جَمالاً.


مطرٌ ، أسلاكٌ ، قصائدُ مثل غسيلٍ على حبْلٍ
CHUVA , CORDAS ,VERSOS COMO ROUPA A SECAR
إنها تُمطِرُ الآنَ ، صباحٌ شتويٌّ غيرُ متوقَّعٍ ربيعاً ،
خيوطُ المطرِ ، مثل أوتارِ العودِ ، تُدندنُ مرثيّةً ،
أنا أجمعُ القصائدَ من حبْلِ الغسيلِ
كي لا تبْتَلَّ.
ثمّ أنشرُها على الصفحةِ ، وأُتابِعُ قطراتِ خيطِ الماءِ
وهي تسيلُ كالدموعِ إلى قاعِ الوجودِ.
أيامُ الربيعِ الماطرةُ :
جيّدةٌ  في رُواءِ الشِّعر ،
ومُفْعَمةٌ بموسيقى قديمةٍ لا يريدُها أحدٌ،
تُعِيدُ وتُرَدِّدُ قصائدَ عتيقةً رتيبةً
من زمنٍ آخر .


الطيور
AS AVES
إنهن يطِرْنَ إلى الشواطيء ، يلعبنَ
وكأنّ الماءَ ماؤهنّ ،
وهنّ يرتحنَ في الغاباتِ
كأنّ لهن الوقتَ كلَّه !
مع أنهن يعرفنَ أن الغيومَ
سوف تملأُ السماءَ
وأنّ الشمالَ سيرسلُ ريحاً باردةً تدفعُهنّ جنوباً
مُخَلِّفاتٍ وراءَهُنَّ صمتَ الحقولِ .
إنهنّ لا يكترثْنَ بهذا
بينما  هنّ يلتمِمْنَ
ليُغَنِّينَ اللحظةَ الزائلةَ.

مرثيّة
ELEGIA
حتى الأيامُ الطويلةُ لن تفْصلَني عن صورتِكِ.
أنا أفتحُها في مرآةِ سماءٍ رتيبةٍ
أو أتركُ الأصيلَ يُدِيْمُها على الأفقِ  المضْجرِ.
الجبلُ الرماديُّ في الشمال
والخطُّ الأزرقُ للبحرِ في الجنوبِ
يُشَكِّلانِ إطاراً يتلاشى وسَطُهُ حين أذكرُ اسمَكِ.
حقيقةُ الصوتِ تمسحُ وَهْمَ الوجهِ.
ثم ألوذُ بالصمتِ ، علّكِ تولَدينَ، منه ، ظِلاًّ ،
ومن ذلكَ الحضورِ قد أستخلِصُ ذِكراكِ.

أصيلٌ
CREPUSCULAR
تهبطُ الحَيرةُ مع المساءِ عند  طرَفِ الشاطيء.
طيرٌ يلتقطُها كما لو كانت سمكةً ،
ويطيرُ فوق الكُثبانِ
حاملاً الحيرةَ في منقارِهِ.
الخطوطُ واضحةٌ ، بلا ظِلالِ شَكٍّ
أو لطخاتٍ ملتبسةٍ من الألمِ .
لقد تُرِكْنا مع سؤالٍ ، مع آثارِ النهاياتِ،
والمعالمِ البِيضِ  للأمواجِ التي تنحسرُ.
أصعدُ المقطعَ الشِعريّ َحتى أُمسِكَ بذلك الطير مع القصيدةِ،
أسجِنُهُ في الجملةِ
ليكفَّ جناحاهُ عن الخفَقانِ
وينفتحَ منقارُه.
آنَها ، تهبطُ الحَيرةُ على الصفحةِ ،  فتتشَرَّبُها القصيدةُ
حتى تسيلَ من بين أصابعي إلى كينونتي.
تَرَدُّدٌ
HESITACAO
إذ يُوَلّي الشتاءُ
تبدو الأرضُ منقسمةً ، بعد المطرِ ،
وضّاحةً وداكنةً ؛
والشجرُ ، بين مستعيدٍ أوراقَه
وكاشِفٍ عن أغصانٍ  عاريةٍ ،
الأكمامُ تُعلِنُ الربيعَ ،
والطيورُ تقتسمُ ، ما بينَها ، السماءَ :
كلُّ شيءٍ يُرَتِّبُ فضاءً ، هكذا ، في أماكنَ أخرى
يسُودُ الثلجُ
حتى كأنّ زرقةَ السماءِ
وبَياضَ الأرضِ ، واحدٌ.
آنذاكَ يَجْدُرُ بالمرءِ أن يخرجَ ، غيرَ مُبالٍ بالريحِ.
ومن بَعدُ ،  يُزِيحُ الأغصانَ جانباً
ليتملّى دُكْنةَ الشجرِ.
لا شكَّ أن الجِذعَ يتّجِهُ - ملتبساً ، إلى الجذورِ ،
أو يُشيرُ إلى الشمسِ التي تبتعدُ الآنَ ،
وإلى الغيومِ التي تتبعُها.
لكنّ هذا ليس الأكثرَ أهمّيّةً .
اللُّبُّ-  ما تُسَمِّيه العُقَدُ ، وما على النظرةِ أن تبلغَه ...
إنْ لم تمنعْهُ عتمةُ القمّةِ
وهي تدفعُهُ نحو المنفسَحِ
حيثُ يوميءُ النهارُ مضيئاً .


لُغْزٌ له مفتاحٌ
ENIGMA COM FORMULA
أتساءلُ ما سِرُّ الحياةِ
إنْ كان للحياةِ أيُّ سِرٍّ .
في الأقلّ ، حين يتساءلُ المرءُ ،
فإن هذا لأننا نعرفُ أن ليس كلُ شيءٍ تُمْكِنُ معرفتُهُ .

عندما  لا أجدُ جواباً
بل جُمَلاً مقتضَبةً مُصِرّةً على تقديمِ أجوبةٍ ،
فإنني أشكُّ في أنّ الحياةَ ذاتُ أسرارٍ لمن يحيَونَ.

أنا أجهَدُ بما أعرفُ
وبما لا أعرفُ
عندما أتساءلُ عن سِرٍّ تختزنُهُ الحياةُ .
وراءَ الأشجارِ ،
على هذه الضفةِ من النهرِ ،
ما يهمُّ هو اللامَرئيّ.

قد لا يحتاجُ المرءُ إلى أسئلةٍ كي يحيا .
علَيَّ أن أفعلَ ما يجبُ علَيَّ فِعْلُهُ ، بدون أن أُجِيبَ ،
وأن أعرفَ ما أفعلُهُ ، بدونِ أن أسألَ،
بُغْيةَ أن أكشِفَ هذا السِرّ.
تعزيمةٌ
ENCANTAMENTO
رأيت ُنسوةَ اعتدال ِالليلِ والنهارِ
يَطِرْنَ مثل طيورٍ عمياءَ ،
وأجسادُهُنّ غيرُ المجَنّحةِ تغرقُ ، بطيئاً ، في البُحيراتِ البركانيّةِ.
شفاهُهنّ تتقيّاُ ناراً من طفولةِ سِجِّيلٍ متكلِّسٍ .
حولَهُنّ يسْوَدُّ الماءُ ،
وأذرُعُ نبْتٍ غاطسٍ في مطرِ الربيعِ تحتضِنُهُنَّ
لتسحبَهُنّ في الدوّامةِ.
غطّيتُهُنّ  بدثارِ قصيدةٍ ،
ومَدّدْتُهُنَّ على رملِ الشاطيءِ الخشنِ ،
وأنا أرى حيّاتِ الماءِ تزوغُ في مخابيءِ القصبِ.
نظرتُ إلى فروجِهنّ المتقطِّرةِ سائلَ البدايةِ الأبيض .
كنتُ قادراً أن أقول للنسوةِ إنني أحببْتُهنّ ،
معانقاً إيّاهُنّ ، كأنهنّ في الحياةِ ،
وسمعتُ حفيفَ أطفال ٍفي الدغْلِ، يردِّدون جُمَلاً تبعثُ الضحكَ.
أنّى تكونُ تلك النسوةُ ؟
وفي أيّ قاعِ نهرٍ ترقدُ أجسادُهنَّ  ،
تلك الأجسادُ التي تبحثُ عنها أصابعي بارتباكٍ غامضٍ ؟
أنا أسبَحُ ضدّ التيّارِ ،
أبحثُ عن النبعِ ،
عن الصمتِ الباردِ للتكوينِ .


إيمانٌ
FE
ربّما كان ممكناً أنني على حقٍّ ،
يا إلاهي ،
وأنك موجودٌ ،
بالرغمِ من كل شيءٍ.
ممكنٌ أنكَ في قاعِ الضفافِ الرملِ،
حيثُ تضيعُ الأنهارُ ،
أو في القصباءِ التي تُرَدِّدُ اسمَكَ ،
وإنْ لم يسمعْه أحدٌ.
ممكنٌ أنك في هذا كلِّهِ ،
أو لستَ في هذا ، إطلاقاً .
 لكنْ ، ماذا لو كنتُ  مُحِقّاً ؟ وهبطتْ يداكَ في صحنِ ظهيرتي
واشتبكتُ معهما
قبلَ أن تخطفا صحني مني ؟
إنْ كنتَ موجوداً ، فعلَيَّ أن أراجعَ الدرسَ ،
علَيّ أن أسحبَ الكتبَ من الحقيبةِ
وأراجعَ لوحةَ التِّسْعاتِ من جديدٍ ،
وأنّ استبعادَ التسعاتِ يعني الصِّفْرَ ،
وعلَيّ أن أردِّدَ ، معك ،  أن الحسابَ كلّه ،خطأٌ .
الحقُّ ، أن الوقتَ متأخرٌ ، لأعتقدَ أنك موجودٌ ،
فإنْ حدثَ هذا
وجلستَ جنبي ،
وأبعدتُ يدَيكَ عن صحني
يدَيكَ الوسختَينِ من شمسِ الظهيرةِ ،
ومسحتُهُما بمنديلِ البارحةِ ،
فلن أريدَ تـرْكَ المائدةَ ، ثانيةً.
أنت ، بجانبي
ستُخبرُني كيفَ  وصلتَ هنا ،
كيف استطعتَ أن تُقنعَني
بأنكَ موجودٌ ،
وبأنّ عليّ أن آكُلَ من صحنِ الظهيرةِ هذا
مع يدَيكَ،
كلَّ ما خلّفَتْهُ الشمسُ.

سطرٌ مائيّ
LINHAS DE AGUA
سطر رقم 4
بينما أطيرُ على الصفحةِ
مثلَ طائرٍ ينتظرُ فرصةَ اقتناصِ فريستِهِ ،
أبحثُ عن الصورةِ التي تسمحُ لي بتلمُّسِ القصيدةِ .
بعد ذلك ، أُسَمِّرُ القصيدةَ على الصفحةِ ،
كما يفعل جامعو الفراشاتِ بالفراشاتِ
ناشرِينَ أجنحتَها
وتاركينَ الجَمالَ يولَدُ  من الشكلِ الذي بلغَ الكمالَ
كأنّ زهرةً تَوأماً ستحيا إلى الأبد .
السطر رقم 6
في أحد الأيامِ ، يستفيقُ المرءُ على سماءٍ كاملةِ الصفاءِ .
الشمسُ في الشارعِ تدفِئنا ، من جديدٍ ،
وكلُّ شجرةٍ تحملُ أكماماً ، واعدةً بالزهورِ
واعدةً بالفَيءِ في أصائلِ الآتي الساخنةِ .
أنظرُ إلى تلك الأغصانِ ،
ولا أفكِّرُ بما يَكْمُنُ تحت الأرضِ
ولا أتخيّلُ ما قد كانَ حدَثَ في الشتاءِ :
هياجَ الأجسادِ الداخليّ وهو يَغذو الجذورَ ،
وتَحَجُّرَ الأحلامِ التي تَقْطُرُ صُوَرُها في قرارة الآبارِ
وتختبيءُ في مائها الساكن.


حياةٌ جامدة مع الروحِ القُدُسِ
NATUREZA MORTA COM ESPIRITO SANTO
كَرَزُ يوسِفا دي أوبيدوس ينزِفُ لونَه
بين البرتقالِ والرمّانِ.
لا طيورَ تقتطفُ الكرَزَ في سماءِ اللوحةِ ،
ولو مددتُ يدي لأقطفَ واحدةً ، فسوف يقول لي حارسُ المتحفِ
" ممنوعٌ لَمسُ اللوحةِ " .
لكنّ ثمارَ الكرَزِ هناك  ،
تتوسّلُني أن أقطفَها وآكلَها قبلَ أن تَفسدَ
وتُفسِدَ البرتقالَ والرمّانَ بالعفَنِ.
أتقَرّى  كرَزَ يوسِفا ، وأغبِطُ الزمنَ الذي رسمتْ هذا  الكرَز فيه :
كان زمناً يمْكِنُ للمرءِ فيه أن يقطفَ البرتقالَ والرمّانَ ،
زمناً يعرفُ الناسُ فيه أن موسمَهما ، مختلفٌ عن موسمِ الكرَزِ.
زمناً  أيُّ موسمٍ فيه ،  له فواكهُهُ ، فاكهةً بعد أُخرى .
ولهذا سيَفسَدُ كرَزُ يوسِفا دي أوبيدو
حينَ يُقطَفُ البرتقالُ والرمّانُ.
إذاً ، جمْعُ الفواكهِ ،كلِّها ، في رسمٍ واحدٍ ، آنذاكَ ، هو عملٌ رُهْبانيٌّ
بديلٌ من أعمالٍ أخرى لا تُناسبُها :
الصلاة ، والتضحية
والقدّاس ، والكُفّارة .
ربّما توقّعَتْ يوسِفا ، وهي تضعُ الكرَزَ ، بين البرتقالِ والرمّانِ ،
أنّ حمامةَ الروحِ القُدُسِ
سوف تهبِطُ من الجنّةِ
لتأكلَ الكرَزَ قبلَ  أنْ يتعفّنَ .
لكنّ يوسِفا ، هي ، التي سوف تتعفّنُ، حينَ يأزفُ يومُها :
رقماً مجهولاً في لوحٍ حجرٍ ، بالدَّيرِ
حيثُ نَمُرُّ ، نحنُ ، غيرَ عارفِينَ إنْ كان الكرَزُ في اللوحةِ
سوف يبقى غداً ،
أو أن الحمامةَ ستهبِطُ
أخيراً ،
لتأكل َ الكرزاتِ ، واحدةً بعدَ أُخرى
في ذكرى يوسفا دي أوبيدوس.

نُواحٌ
PRANTO
أنا لا أتوقّعُ أسراراً
خبيئةً في قاعِ خزانةِ الملابسِ ،
مختلطةً مع الثيابِ القديمةِ ،
والحقائبِ الممزّقةِ ، والدفاترِ ناقصةِ الصفحاتِ.
لكني أفَكِّرُ بها :
حيَواتٌ تنتهي حينَ تُفرَغُ خزاناتُ الملابسِ ،
ويُرمى بالقليلِ الباقي في القُمامةِ.
الحقُّ ليس من ندامةٍ في الخطوةِ التي تفصلُنا عن الماضي ؛
النُّواحُ الذي سيأتي به الليلُ ، لا يمكنُ حتى سَماعُهُ
حين تدخلُ الشمسُ في الأبوابِ
وتُضيءُ الغبارَ والحشراتِ الميّتةَ .
أنتِ أخبرتِني : إنه الصمتُ .
في الليلِ ، لا أسوأَ ، من الصمتِ
الصمتِ الذي يُهِيجُ الذكرى
والأرَقَ
والضحكاتِ التي ظنَّ المرءُ أنها أُخرِسَتْ.
لهذا
أنا أتلذّذُ ، فقط
 بالليالي التي تهبُّ فيها الريحُ
ويضربُ المطرُ النوافذَ :
الضجيج الذي يمسحُ نحيبَ خزاناتِ الملابسِ الفارغةَ .

سِجِلُّ سوابق
REGISTO CADASTRAL
1.
814 تبلغ من العمر 25 عاماً.
ولدتْ فينهَيس . بائعة جوّالةٌ . أُمّيّةٌ ،
أنفٌ دقيقٌ ، أذُنانِ لطيفتان ،
هي تنظرُ إلينا بوجهِها الجميلِ غيرِ الـمُرَوَّضِ .
وُلِدَتْ في الخامس عشر من آب 1877 ،
محيطُ حدَقتِها أخضرُ . الجريمة :
السرقة . كيف حدثَ ذلك ؟
هل سرقتْ حافظةَ زبونٍ ؟
أمْ أنها تورّطتْ  في رِبْحِ جارِها - شِجار وعِراك
بين بَسْطاتِ السمَكِ والفواكهِ ،
ممّا يفَسِّرُ شَعرَها المنفوشَ- بُنّيٌّ غامقٌ
غزيرٌ ، حدّ أني استطيعُ أن أضع يدي في الصورة الفوتوغرافيّة
وأرفعَه عن ظَهرِها ، حيثُ انسدَلَ ،
طويلاً
منسرِحاً .
كم تُراها عاشتْ ، بعد سنواتِها الخمسِ والعشرين ؟
بقِيَ إلى الأبدِ رقمُها : 814 ، أُمّيّةٌ
قُبِضَ عليها للسرقة ،
بالرغمِ من القلادةِ التي زيّنَتْ أجملَ جِيْدٍ في السوقِ .
2.
865 تكاد تكون طفلةً .
الشفتان حزينتان ،
كأنها لم تتوقّعْ أن يُقبَضَ عليها .
الشفتان لهما ظِلٌّ على بْلوزتِها .
أُحِبُّ عينَيها ذواتَي اللونِ الخفيفِ ،
وشَعرَها الداكنَ المسحوبَ إلى الخلفِ ،
الخطَّ الواثقَ لِحِنْكِها ، بالضِدِّ من الخطِّ القلِقِ لحياتِها .
ما الذي سيحِلُّ بها ؟
هذه التي لم يتبَقَّ منها
سوى هذه الصورة الفوتوغرافيّة ،
والنظرةِ التي ترمقُني بها ، جاذبةً إيّاي إلى هاويتِها .
لا يهمُّ .
ما أراه هو قلبُها الذي يضغطُهُ بياضُ بْلوزتِها ،
ونصف وجهِها الممحوّ إزاءَ النورِ ،
كأنّ مصيرَها هناك .
3.
1947 لها وجهٌ متمرِّدٌ.
يمكنُ أن يقودَ الناسَ إلى الحرّيّةِ ،
لو لم تكُنْ متجهِّمةً ،
كأنّها لم تفهمْ ما كان يَحْدُثُ لها .
ما حدثَ هو هذا :
لِتُسَجَّلْ ، حتى لا تكون مفاجآتٌ في المرّةِ الثانيةِ.
حتى لو نجتْ ، بعد أن ضُبِطَتْ تسرقُ
أو تبيعُ جسدَها
مُضِيعةً حياتَها طلَباً للعَيشِ ،
فإنها هنا
وستظلُّ هنا .
مُخْرَسَةً إلى الأبدِ ،
وجهُها يعلوهُ تمرُّدٌ
تفهمُهُ هي فقط ،
وإنْ كان حبيساً ، ومُواجَهاً .


لعبةُ الأسئلة
O JOGO DAS INTERROGACOES
أسألُكِ ما الحُبُّ؟
وأنتِ تقولين لي الحُبُّ هو أن تسألَ عنه ،
وهو الشكُّ الذي يَدخلُ في مِثلِ هذا السؤالِ
الذي أجبتَ عنه ،
وهو الوُثوقُ الذي أعَدْتَ به شكّي .

أنا أُصَدِّقُكِ .
الحبُّ لن يسمحَ بشيءٍ آخرَ ،
كما أني لا أعرفُ عقيدةً أخرى  قادرةً على مزْجِ  الشّكِّ واليقين،
ولا يدَينِ أمهرَ من يدَيكِ في خلْقِ هذه الكيمياء
بين الجسدِ والروحِ .

علَيَّ ، إذاً ، أن أعرفَ أنْ ليس ثمّتَ من سبيلٍ آخر .
الإيمانُ بحُبِّكِ لايولَدُ إلاّ من حُبّي.
أمّا تَبادُلُ الأسئلةِ  والأجوبةِ ، كما نتبادلُ الإحساسَ والنظرَ
فهو لأنّ الحُبَّ لُعبةُ أسئلةٍ .

بعدَ هذا كلِّهِ تسألينني ، هل تعرفُ ما الحبُّ ؟
فأُجيبُ
 أنني لا أعرفُ قواعدَ هذه اللعبةِ ،
أنتِ مَن يُمسِكُ بالرُّقعةِ والبيادِقِ حيثُ نبحثُ عن أنفُسِنا ،
مع أننا نجدُ أنفُسَنا في العناقِ حيثُ يبدأ  كلُّ شيءٍ وينتهي .

أنا أحِبُّ هذه الألعابَ التي يعرفُ فيها المرءُ مَن سيربحُ.
أنتِ أمْ أنا ؟
وأيّ بيادقِ الرقعةِ ُّسيتحرّكُ أوّلاً ؟
هذا لايهمُّ في نهايةِ الأمرِ .
شَكّي نابعٌ من يقينِكِ ،
تماماً مثل ما أنّ جوابَكِ هو
هذا الشكُّ الذي أعَدتُهُ إليكِ.
القِطُّ والأميرةُ
O GATO E A PRINCESA
قِطُّ ريلْكه  قفزَ في حِضْنِهِ
أصائلَ الشتاءِ ، في دْوَينو ، بينما كان يكتبُ " المراثي " .
القطُّ كان يموءُ ، مثل مَلاكٍ ، وريلْكه ترجمَ تلك الموسيقى
مَقاطِعَ ، ألقاها ، في ما بَعْدُ ،  والنافذةُ مُشْرَعةٌ على البحرِ .
الأميرةُ ثورْن أُنْد تاكسي ، نادت القطَّ
لكنّ القطَّ لم يعتبرْها
وفضّلَ الوثوبَ داخلَ خِزانةِ ملابسَ
حيثُ لن يُمسِكَ به أحدٌ .
كان ريلْكه يعاني الزكامَ ،
لكنّ " المراثي "  لا تذكرُ شيئاً عمّا حدثَ
في أصائلِ  " دْوَينو "  تلكَ ، لا عن الأحداثِ البيتيّةِ
ولا عن المشكلاتِ الصحّيّةِ .
" المراثي " لم تتأثّرْ كثيراً بالقطّ :
بجِذعِهِ الأسودِ
ومُوائِهِ
بينما كان رِيلْكه يكتبُ .
الحقُّ أنّ بإمكانِ القطِّ أن يُلْهِمَ قصائدَ عميقةً
مثلَ قصائدِ " دْوَينو " تلكَ .
صحيحٌ أنّ القلعةَ لم تَعُدْ قائمةً
وأن الريحَ لم تَعُدْ تدخلُ من النافذةِ المفتوحةِ
حيثُ أُصيبَ ريلْكه بالزكامِ .
كما أنني لستُ متأكداً ، حتى اليوم
من أنّ بالإمكانِ إلقاءَ القصائدِ عبرَ نافذةٍ مفتوحةٍ
على محيطٍ عاصفٍ .
اليومَ
لا تسكنُ  المخلوقاتُ الربّانيّةُ في أيّ سماءٍ ،
ولا تصرخُ الملائكةُ في مُواءِ قِطٍّ .
العقلُ
والمنطقُ
والرغبةُ
هي ماكناتُ الحياةِ الدُّنيا ،
والأمرُ الوحيدُ الذي يستطيعُهُ القطُّ
آنذاكَ ،
هو أن يجوسَ بينها ، رافعَ الذيلِ
بدونِ  أن تُطْلِقَ الأميرةُ ثورْن أُند تاكسي ، النارَ عليه
من أعلى خزانةِ الملابسِ ،
حتى لا يصْرِفَ انتباهَ الشاعرِ .
---------------
* الأميرةُ ثورْنْ أُند تاكسي ، راعيةُ ريلْكه . كان ضيفاً عليها في قلعة دوَينو ، حيث
كتبَ ديوانه " مراثي دْوَينو "

لُعبةُ طاولةٍ
JOGO DE TABULEIRO
أفتحُ صندوقَ الشتاءِ .
أُخْرِجُ الرياحَ ،
ودَفْقَ المطرِ
وضِفافَ الثلجِ التي هربتْ منها الطيورُ كلُّها .
أُبْدِي مَناقِعَ الشتاءِ أمامي .
وأمشي حولَها  لأُمَرِّنَ ساقَيَّ ، أنفضُ البردَ عن يدَيَّ
وأمسحُ المطرَ عن شَعري .
بعد ذلكَ ،
أرمي النردَ ثانيةً –
وأمضي ، قُدُماً ، نحو الربيع .

فطورُ الصباح
REFEICAO  MATINAL

في زاويةٍ من الطاولةِ
الخبزُ والماءُ في حربٍ .
الخبزُ في شرائحَ ، والماءُ في كأسٍ ، يتواجهانِ
منذ الصباحِ .
عبرَ الزجاجِ الذي تُشَوِّهُهُ اهتزازاتُ الضوءِ في الدورقِ
تخترقُ النظرةُ  الماءَ
وتَبْلغُ الخبزَ .
أكتشفُ عفَناً  في قلبِ الخبزِ بدأَ في الداخلِ
لينتشرَ في الخارجِ .
هكذا لن تكونَ الحربُ عادلةً :
نقاءُ الماءِ
ضدّ
فسادِ الخبزِ .
إلاّ إذا غيّرْتُ  المواضعَ  :
الكأس في وسطِ الطاولةِ
والشرائحُ على الشرشف.
وبِسِكّينٍ أُنَظِّفُ الشريحةَ والكِسْرةَ من العفَنِ .
النورُ يتدفّقُ من النافذةِ ،
غاسلاً العينَينِ من رَمَصِ الليلِ والرطوبةِ .
وأنا أُعِيدُ الخبزَ والماءَ إلى زاويةِ الطاولةِ ،
مُراوِغاً الجوعَ
كي تظلَّ الطاولةُ  نظيفةً في رُكنِها ،
بين الخبزِ والماءِ .

أزْمةُ النفط
A  CRISE  DO  PETROLEO
بإمكاننا أن نَعدّ على أصابعِنا ناقلاتِ النفطِ على خطِّ الأفقِ :
مُغادِرةً الجانبَ الآخرَ من الأرضِ لتُواجِهَ ر أسَ الرجاءِ الصالح
الذي يتحدّاها بجروفِهِ المرجانيّةِ.
ما زال الوقتُ للنفطِ الرخيصِ ،  والرقصاتِ في المرقصِ ، حتى  ما بعد منتصفِ الليلِ
في منازلَ مُعارةٍ ،  في قاعاتِ رقصٍ فسيحةٍ ، ذواتِ أضواءَ خافتةٍ
تُخفي ما ينبغي أن يخفى .
ناقلاتُ النفطِ توقّفَتْ ، أحياناً ، بمواجَهةِ الشاطيءِ ،
مُرعِبةً بثقلِ وجودِها كلَّ من نزلَ إلى الماءِ ،
وفي الأيامِ التي تلَتْ صارَ لونُ الرملِ أسودَ
فصرْنا ننتبهُ إلى أسفلِ صنادلِنا .
الفتياتُ في المرقصِ ، الجالساتُ كي يُختَرْنَ ، يُقْلِقْنَ أيضاً الفِتيانَ الأشدَّ خجَلاً :
والأمّهاتُ الجالساتُ على الكراسي الخلفيّةِ يمنعْنَ تجاوزاتٍ كثيرةً
مع أن مهمَتَهنّ أن يخترْنَ لزِيجاتِ المستقبلِ ، فتياناً جادّينَ ذوي مستقبلٍ
- مع أن المستقبلَ لم يَعُدْ قائماً لأيّ أحدٍ ، إزاءَ الخدمةِ العسكريّةِ الإجباريّةِ ، والحربِ المضمونةِ .
هكذا ، قد يكونُ بين الناظرين إلى ناقلاتِ النفطِ ، أولئك الحالمون بالصعودِ ، والرحيلِ إلى الجانبِ
الآخر من العالَم .
لكنْ ، مَن بمقدورِهِ السباحةُ حتى ذلكَ البُعْدِ ، والصعودُ إلى القَيدومِ الفولاذِ ؟
الخيرُ  تنظيفُ النعالِ بقصبةٍ ،  والجَرْيُ إلى المرقصِ ، فقد بدأَ الرقصُ للتوِّ .
إذاً ، ليلاً ، في تلك البيوتِ المعارةِ ، منصتينَ إلى موسيقى بطيئةٍ على أسطواناتٍ قديمةٍ ، بمقدورنا أن نرقصَ ، بدون أُمّهاتٍ يحرسْنَ البناتِ ، ولا بناتٍ خائفاتٍ من الأمّهاتِ .
إنه زمنٌ ، تُبحرُ فيه ناقلاتُ النفطِ ، قريبةً  من الشاطيءِ ،
وبإمكاننا ، نحن، أن نعدّ على أصابعِنا ، هذه الناقلاتِ ، باستثناءِ تلك المتوقّفة لتنظيفِ جوفِها .
في إحدى الليالي انقطعت الكهرباء ، خلالَ الرقص . أنا لم أتوقّفْ عن الرقصِ لذلك السبب –
والآخرون كانوا سيفعلونَ الأمرَ ذاتَه .
لقد انقطعَ النفطُ ، بعد أشهُرٍ قليلةٍ ، في ما بَعْدُ . وتوقّفتْ ناقلاتُ النفطِ عن السفرِ عبرَ رأسِ الرجاءِ الصالحِ .
لكنّ حتى هذا لم يوقِفْ الرقصَ في النادي ، ولا تمضيةَ الليلِ في بيوتٍ مُعارةٍ .
الأضواءُ – مطفأةٌ الآن – كي يستمرّ الرقصُ ،
في الظلامِ .

خبزٌ بيتيٌّ
PAO  CASEIRO
في مخزن الحبوبِ
لا تتحدّثُ النسوةُ اللائي يعْجِنَّ الخبزِ
عمّا سيَحدُثُ قادمَ الأيّامِ .
العجينُ يتخمّرُ تحت أقمشةٍ قُطْنٍ وأسمالٍ ،
بينما يشتعلُ الحطبُ مُتّقِداً في الفرنِ .

لا أتذكّرُ الآنَ  حديثَ النسوةِ اللائي يعجِنَّ الخبزِ .
من النافذةِ تسلّقت الدجاجاتُ بعد عِراكِ الدِيَكةِ ،
وأحالت ريحٌ صَرصَرٌ السماءَ ،  أشدَّ زرقةً .
إنها نهاياتُ الشتاءِ ،
والفصحُ على الأبوابِ
والفرنُ جاهزٌ .

النسوةُ اللائي أعددْنَ الفرنَ الطينيَّ مُتْنَ ، جميعهنّ ، تقريباً ،
واحدةٌ ، أو أخرى ، ما زالت تُطِلُّ على عالَمٍ لم يَعُدْ لها .
لا أحدَ يُشعلُ فرنَ الطينِ .
الخبزُ يُشترى صباحاً  من السوبرماركت
والدجاجُ يؤتى به ، ميتاً ، من الـمَداجنِ .

في مخزنِ الحبوبِ ، حيثُ العجينُ تَخَمَّرَ تحتَ القماش والأسمالِ ،
الريحُ ، وحدَها ،  ما زالت تدخلُ  ، من ثقوبِ البابِ
تبحثُ عن النسوةِ اللواتي ينبغي أن يَكُنَّ  هناك ، لتُرغمهُنَّ على الشكوى
من البردِ أو آلامِ العظامِ والروماتزم ، بينما هنَّ يشدُدْنَ الشالاتِ على أكتافهنّ .

في ذلك البيت الخاوي ، تعبَت الريحُ من الهبوبِ
واندفعتْ إلى السُّحبِ الماضيةِ جنوباً ،
مثل ما كان الدجاجُ يُطرَدُ لئلاّ يأخذ الخبزَ من الفرنِ
 - تحتَ القماشِ العتيقِ والأسمالِ ، لا شيءَ يتخمّرُ مع هذه الصوَرِ التي أحشرُها
في فرنِ القصيدةِ ،
لأنثرَها إلى طيورِ الذاكرةِ
فُتاتاً آتياً ، متمهِّلاً ، من الطفولةِ .

حياةٌ جامدةٌ تقريباً
QUASE  UMA NATUREZA MORTA
إحدى ذراعَي النهر تحررتْ من الضفةِ :
الأغصانُ تمدّدتْ ، حنيناً إلى اليابسةِ .
شفافيةُ الماءِ لم تخترقْ سطحَ النهرِ ، لتذوبَ  في القاعِ الغامضِ
( حيثُ التيّارُ يجعلُ الزبَدَ يثِبُ ، ولا أحدَ يغامرُ - حتى لو فصلت الجنادلُ
المجرى الأبيضَ للماءِ) .
أنتِ تسألين" ما هذا ؟ " .
المغزى الأوّلُ :
حياتك منشطرةٌ من النصفِ، كأنْ ليس من سبيلٍ واحدٍ نحو النهايةِ.
" حتى في الحُبِّ ؟ "
لكنّ المساءَ يأتي معه بالبردِ ، وبشفافيةِ منظرِ التلالِ ،
حتى أغنيةُ الطيرِ تكونُ أصفى ، كأنْ ليس بمقدورِ أيّ نأمةٍ أن تفسِدَها .
أنا أتنفّسُ معكِ معرفةَ الحقيقةِ:
بالرغمِ من أنّ معرفةً كهذه ، قد تقودُ إلى اكتشافِ حياةٍ أخرى ،
اتِّصالِ عُزْلَتَينِ ،
أو ببساطةٍ
التردُّدِ القصيرِ قبلَ تَلامُسِ الشفتَينِ،
ممّا يدفعُ الواحدَ و الآخرَ إلى الوثوبِ نحو الضفةِ الأخرى -
الأكثرِ تجريداً  ،
الضفةِ التي تفصلُ جسداً عن آخرَ ،
وتُعَيِّنُ ، فوقَ ذلكَ كلِّهِ
الحدودَ بين الرُّشْدِ والهوى .
 
 


حوارٌ سِرِّيٌّ
UM  DIALOGO  SECRETO
ستقولين لي : الليلُ أن أكونَ معكَ ،
لا وردةَ تتفتّحُ في غيرِ أوانِها ،
وأنّ أغربَ القبورِ ذلك الذي تنبعثُ منه تأوُّهاتُ الحُبِّ
ليلاً
حينَ نُرِيْحُ آذانَنا على الأرضِ .

مع أني أنامُ معكِ ، ذلكَ الأصيلَ ، على العشبِ
والطيورُ وحدَها تَخُفُقُ بأجنحتِها
على الأغصانِ التي تُخفِينا عن الشمسِ ،
لم أفَكِّرْ ، مرّةً ، بأنّ تلك الأجسادَ كانت هادئةً تحتَنا .

حتى لو لم تكن تلك الأجسادُ هناكَ ،
فإنّ الأنهارَ الدفينةَ كانت ستحملُ صدى أنفاسِنا ،
وأن أحداًما  سوف يسمعُ الكلماتِ التي تبادَلْناها ،
تحت الشجرِ ،
قبلَ أن يهبطَ الليلُ على غيابِنا .

الجنوب
SUL
هناك  ، كلُّ شيءٍ بسيطٌ  ، ومُعقَّدٌ :
النور
العُزلةُ
والنظرةُ التي تتأثّرُ عميقاً ، بمَهبِطِ الليلِ
وبُزوغِ النهارِ ،
بل حتى ضحكة ُالمرأةِ التي تُسمَعُ من بعيدٍ
وقد حمَلَها هواءٌ نتنفّسُ شفافيتَه .
لكنني أميلُ على الشُّرفةِ
فألحَظُ أنّ  ثمّتَ شيئاً  يُخفي نفسَه ،
عبرَ بساتينِ الخضرواتِ والجُدرانِ ...
شيئاً يدعوني ، فلا أستطيعُ أن أجيبَ .
وهكذا  ، أعودُ لأدخلَ ، وأُعِدَّ قهوةً ...
وبينما كان الماءُ يغلي ، كان السِرُّ يختفي
تافهاً
ومتجاوِزاً
في  أوائلِ الأصيلِ .

مباديء المنظورِ
AS REGRAS DA PERSPECTIVA
الأشجارُ لا تسألُ الموتى عمّا كانوا يُسَمَّونَ ،
وماذا فعلتْ أيديهَم
ومَن أقنعَهم بإمالةِ رؤوسِهم بينما كان الدمُ لا يزال جارياً في عروقِهم .
الأشجارُ ، تمْسِكُ جذورُها بالموتى ، في صمتِ الموتِ،
باحثةً عن السبيلِ إلى القاعِ ،
والأجسادُ الهامدةُ ، الماضيةُ إلى تآكُلِ المادّةِ
لا تُبْدي أيَّ مقاومةٍ إزاءَ  ذلك التسافُدِ الأخيرِ .

في الشتاءِ ، نرى علائمَ ذلك الحُبِّ تحتِ الأرضيّ
في لون الأوراقِ .
ثمّتَ خطوطٌ بلا نورٍ تُرَمِّمُ الموتَ إلى حياةٍ أخرى ، طبيعيّةٍ ، غيرِ مرْئيّةٍ
باحثة في الفضاءِ عن المنجى إلى العتمةِ التي بلا أحلامٍ للقبرِ المنسيّ.
إنْ قطفْنا تلكَ الأوراقَ
وتركناها تسقطُ ،
فلسوف تسقطُ ، متفرِّقةً ، عجلى
مندمجةً مع فراغِ الكونِ .

الريحُ تُنْطِقُ هذه الكائناتِ المترددةَ
آنَ تهبُّ بين الأغصانِ ، فيرتجفُ وجودٌ محتجبٌ في آذانٍ منتبهةٍ إلى الظلِّ .
لا تسَلْ عمّن تنادي تلك الأصواتُ :
أنت ، أنا ، جميعُنا
الذين ما زالت الشمسُ توقظُ فينا بهجةَ الحواسِّ ،
ومع هذا ، لا جوابَ سيجدُ السبيلَ إلى ذلك السؤالِ عديمِ المعنى .
الأجسادُ التي تبتعدُ عن نفيِها ، تتبعُ منطقاً طبيعيّاً .

أحياناً ، في الليلِ فقط
توقِظُ ضجّةٌ لامعنى لها ، أكثرَ الهواجسِ إقلاقاً .
أحدٌما ، ذو صورةٍ ليستْ غيرَ مألوفةٍ ،
يحاولُ الاقترابَ كلّما حثثْنا خُطانا  ، مسرعينَ .
لكنّ هذه اللعبةَ ، لعبةٌ لا معنى لها بدون مُشارِكين ،
والقلبُ المتعجِّلُ يستعيدُ نبضَه الطبيعيَّ حين تنفتحُ الأبوابُ
كاشفةً نورَ البيتِ
ودفءَ  الحديثِ ،
وضَبابَ الأنفاسِ .

مع هذا كلِّهِ ، نحن نبحثُ عن السلوى في الغاباتِ ،
نجلسُ ، لائذِينَ بالجذعِ
ونقطفُ الفاكهةَ التي قدَّمَها لنا الموسمُ الأخيرُ .
اليومُ يُبدِّدُ انطباعاتِ الأمسِ ،
والتضاريسُ المرئيّةُ للعالَمِ تَغْذو أرواحَنا
بوهمِ الأبَدِ .

البَيِّنةُ البشريّةُ
A PROVA DO HUMANO
مَنْ رأى حركةَ الشيخِ الحاذقةَ ، وهو يلفُّ سجارتَه  ...
ماسحاً إصبعَه الرطبَ باللُّعابِ على سطحِ الطاولةِ ؟
هناك ، تماماً قبل يومَينِ ، جلستُ أكتبُ تساؤلاتٍ دينيّةً
ونشيداً فلسفيّاً ، وبعدَ أن تعِبْتُ من العملِ الذهنيّ ، رسمتُ بالقلمِ
رسمتَينِ أو ثلاثاً على الخشبِ المهتريءِ .
الآنَ ، حدَثَ أن بُقَعَ القهوةِ ولُعابَ الشيخِ
حوّلَتْ تلك الرسومَ الرديئةَ
إلى قِطَعٍ من من ميثولوجيا فِعْليّةٍ .
كما أن دخانَ السجائرِ المحيطَ بالرجال بدا لي ضَباباً قديماً
والكلامَ الخفيضَ الذي كان يتبادلُهُ سادةُ الركنِ ذاكَ
بدا لي تعازيمَ ولعناتٍ
أو ببساطةٍ
استحضارَ روحٍ هاربةٍ .
لهذا
علَيَّ أن أذهبَ مرةً أو مرّتَينِ ، يوميّاً
إلى ذلك المكانِ :
لأؤدي طقوسَ العبادةِ ، التي بدأتُها بدون أن أدري ،
ولأستمعَ إلى باخوس العجوزِ
الذي جعلتْني حكاياتُهُ ظمآنَ ، نعسانَ .
لكنْ ماذا يفعلُ المرءُ في هذه البلدةِ من بلْداتِ الأقاليمِ  ، شتاءً ،
غير أن يُنْصِتَ إلى الشيوخِ
أو يبتدعَ الحكاياتِ
بينما  هو يحتسي القهوةَ والبراندي الرخيصَ ؟

صورةُ الريحِ
( إلى مانوَيلا )
A IMAGEM DE  VENTO
Para a Manuela
في البدايةِ تعَلَّقَ بفكرةِ أن قوس قُزَح كان جسراً :
يظهرُ على السفُنِ بعد همودِ العواصفِ ،
وأن الخفيرَ  ، في المَرْقَبِ ، رأى امرأةً ذاتَ شَعرٍ ذهبٍ نفشَتْهُ الريحُ ،
والبحّارةُ الذين طعنوها ،  جُنَّ بعضُهُم .
لقد التقى أولئكَ خلالَ الشهورِ التي درسَ فيها
عاداتِ الموانيءِ –
كانوا يجلسون ، منفردينَ ، في الحاناتِ
ويشعلونَ شمعةً .
يقالُ إن وهجَ اللهبِ يأتي بالشَّعرِ الذهبِ لتلك المرأةِ ،
وأنّ زُرقةَ الكحولِ تستعيدُه ، في مرأىً سماويٍّ .
وهكذا ، جرَّبَ آنَها ، أن  يعيشَ مثلَ هذه التجربةِ .
وقّعَ على العملِ في سفينةٍ  باليةٍ ،
ولسنتَينِ
أو ثلاثٍ ، قطَعَ البحارَ ، جِيئةً وذهاباً
لكنه لم يجدْ هذه الربّةَ ،
وأقواسُ قُزَحٍ لم تُكْمِل القوسَ الذي تخيّلهُ جسراً .
هو ، جُنَّ ، أيضاً
وبدأ ينادي الشمسَ ، باسمِ امرأةٍ ،
حتى  بُحَّ صوتُهُ
وأُخِذَ إلى غرفةِ نومِهِ .
هناك ، ظلَّ حتى المنامِ ، يهمسُ بذلك الإسمِ
يلا جسدٍ
بلا صورةٍ
بلا نورٍ .

تكوينٌ
GENESE
كلُ قصيدةٍ تبدأُ في الصباحِ ، مع الشمسِ .
حتى لو كانت القصيدةُ غيرَ مرئيّةٍ ( أي أن السماءَ ماطرةٌ )
فالقصيدةُ هي ما يشرح كلَّ شيءٍ ،  ما يأتي بالنورِ إلى الأرضِ ، والسماءِ
ويأتي بالغيمِ في المختلَطِ – الضوءُ الشديدُ مزعجٌ .
في ما بَعْدُ ، تنهضُ القصيدةُ مع الضبابِ الذي يستقطرُهُ الليلُ ،
القصيدةُ تنزلقُ بين أعالي الشجرِ ،
تغرِّدُ مع الطيورِ ، وتجري مع جداولَ آتيةٍ ممّا يعرفُهُ اللهُ ،
إلى حيثُ لا أحدَ   يعرفُ اللهَ .
القصيدةُ  تشْرحُ كيفَ حدَثَ كلُّ شيءٍ :
إلاّها ،
هي التي تبدأُ في لُغْزٍ داكنٍ ،
مثل هذا الصباحِ .
وتنتهي ، في لغزٍ أيضاً ،
مع الشمسِ  التي تريدُ أن تبزغَ .

حـُبٌّ
UM AMOR
اقتربْتُ
وأنتِ ، رافعةً يدي ، سحَبتِني
إلى عينيكِ الشفّافتَينِ
كما يسحبُ قاعُ البحرِ  ، الغرقَى .
في ما بَعْدُ ، في الشارعِ ، كنّا لا نزالُ نشهَدُ الأصيلَ.
الحافلاتُ أُضِيئتْ ، وسالَ على المدينةِ إحساسٌ عجيبٌ.
جلستُ على درْجاتِ الرصيفِ ، صامتاً .
أتذكّرُ وقْعَ خُطاكِ
نفَسَكِ اللاهثَ
أو بدايةَ الدمعِ ،
وقامتَكِ المتألِّقةَ ، وأنتِ تقطعين الساحةَ
ثم تختفين .
تلَبّثْتُ قليلاً
لأدرِكَ ، في الأقلِّ ، أنكِ ظللتِ بجانبي
وإنْ كنتُ بدونِكِ .
لكني ما زلتُ ، حتى اليوم
أحملُ ذاكَ الإحساسَ المريضَ
بأنّكِ خلّفتِني وراءَكِ
مثلَ ذكرى عزيزةٍ .

على اليابسة
EM TERRA
عبَرَ رصيفَ المرفأِ ، ويداه في الجيبِ . لقد هبطَ على اليابسةِ
اليومَ السابقَ ، وبالرغمِ من المطرِ ، زارَ المدينةَ والحاناتِ ، يعُبُّ الخمرَ
من زجاجةٍ ابتاعَها من خمّارةٍ في الشرقِ ، حيثُ أفاقَ سكرانَ .
عندما دخلَ السفينةَ ، ولمسَ ألواحَ المعدِنِ العريضةَ ،  والأشرعةَ القذرةَ
والحبالَ العتيقةَ ، وبِلْ العجوز ...
انحنى على حاجزِ السفينةِ ، وضحِكَ مع نفسِهِ :
إذاً ، هكذا ستظلُّ الأمورُ حتى منتهى حياتي ؟ هل سأفيقُ يوماً ، ولا شيءَ أفعلُهُ
سوى أن أمضغَ التبِغَ ،  وأنحني على حاجزِ السفينةِ ؟
سمِعَ هديرَ الماءِ عند الرفّاساتِ  ، أراحَ قبّعتَه على السلّمِ ، وأخذَ من جيبِهِ قُصاصةَ ورقٍ
وكتبَ عشوائيّاً :
أدِنبره . بلفاستْ . نيوكاسِلْ
عارفاً ، مسْبَقاً ،  أنه سيظلُّ هذه المرّةَ ، على اليابسةِ ،
ولن يعرفَ ، ثانيةً ، الطعمَ العنيفَ لخفاراتِ الليلِ ، وسطَ المياهِ الثلجيّةِ .
تذكّرَ هذا كلَّهُ ، ذاتَ ليلةٍ ، وهو يعودُ إلى بيتهِ ، حينَ جلسَ جنبَ الطريقِ
كي تتسرّبَ الريحُ من روحِهِ ، مع أبخرةِ الكحولِ ، وبحرِ الشمالِ ؛
 بينما الشعاعُ القويُّ للمناراتِ البحريّةِ يُضيءُ وجهَه .

حِوارٌ والوصيّة الأخيرة
DIALOGO E ULTIMA DISPOSICAO
عيناي استحالَتا في اليوم الأخيرِ من الخريفِ .
مكتسبتَينِ البريقَ الخارقَ للفجرِ المضَبَّبِ .
في إحدى الليالي دخلتُ الحانةَ القريبةَ من الشاطيءِ .
الأمواجُ رطمتْني على الساحلِ ، مُفزِعةً الطيورَ .
بكَيتُ ، بهدوءٍ ، مُرِيحاً رأسي على ذراعَيَّ . قلتُ :
"يا ربّي ...
كلّما هبطتُ هنا صرتُ آخَرَ " .
وأضفْتُ :
" الجَمالُ الداكنُ للخوفِ . "
تلك الليلةَ ، تقَطَّعتْ أوصالُ كائناتٍ .
لا أريدُ أن أقولَ إن للطقسِ دوراً في هذا .
مع أن التهيّؤَ للقصيدةِ ، ودعوى أفُقٍ مجرَّدٍ نهمٍ ، لم يتركا لدَيَّ أيَّ شَكٍّ .
بعدَ أن غيّرْتُ الأماكنَ على الطاولةِ ،
وأعَدْتُ ترتيبَ الأساسيّاتِ ،
صرتُ في الجانب الآخرِ ، وقلتُ :
" تأخّرَ الوقتُ على العودةِ ، لكني هنا ،
وليس على يميني أو شمالي
مُتّسَعٌ لآخَر " .

إستعادةٌ
FLASHBACK
في الصيفِ ، ليلاً ، تسقطُ سُحُبٌ من البعوضِ
على المنازلِ.
أراها تدورُ  حولَ المصابيحِ   الكهربائيّةِ
مُضَبِّبَةً الوهجَ الضئيلَ للكهرباءِ .
إنها تأتي من حقولِ الرزّ ، من المستنقعاتِ ،
من الحقولِ المنكمشةِ بالسخونةِ .
لكني لم أعرفْ ، أبداً ، إلى أين تمضي .
بعدَ  مُضِيّ الليلِ ،  وبُزوغِ الفجرِ ، ناصعاً ، أبيضَ
مثل بيتٍ ريفيٍّ .

ذلك الصيفَ ، حدثتْ أمورٌ عِدّةٌ :
ماتَ قِلّةٌ من كبارِ السنِّ ، بدأَ ترميمُ الكنيسةِ ،
وحَلّتْ أرضيّةٌ خشبٌ  محلَّ حَجَرِ الصفائحِ ذي شواهدِ الدفنِ القديمةِ ؛
السينما المتجوِّلةُ عرضتْ عدداً قليلاً من أفلامِ العباءةِ والسَّيفِ ،
لكنّ الفتى كان ينجو كلَّ مرّةٍ ،
كما أن آلة تصويرٍ فوتوغرافيّ التقطت كيفَ جيءَ بقِدِّيسي الكنيسةِ
إلى الشارعِ ، في أعيادِ آب ،
فاختلطَتْ وجوهُهُم مع وجوهٍ ظننتُها منسيّةً .
(القسُّ ، فقط ، ممسكاً بكأسِ القُربانِ ،  حافَظَ على ذلكَ التعبيرِ المتجهِّمِ
المنتبِهِ ، كما هو متوقَّعٌ من مبعوثِ اللهِ إلى الناسِ ) .

في يومٍ ما ، اختفتْ تلك الأصيافُ .
والحقُّ أن البيوتَ لم تَعُدْ بحاجةٍ إلى شِباكِ البعوضِ ،
والسينما المتجوّلةُ مضى عهدُها ،
والقسّيسُ ليس سوى اسمِ شارعٍ سرعانَ ما يتغيّرُ.
لكنْ ، وبالرغمِ من ذلك ،  حينَ توقَدَ المصابيحُ ، حتى نهاراً
فإنّ ضَباباً يتبدّى من الماضي ، مع البعوضِ ،
مع انقطاعِ الكهرباءِ في عرضِ السينما ،
وصرخاتِنا في الظلامِ
حتى يعود الضوءُ .


مَشهَدٌ مَدينيٌّ
CENA URBANA
صباحاً
مع الشمسِ
يتمدّدُ المجانينُ على درْجاتِ مستشفى المجانينِ .

الشمسُ تصفعُهُم بشِدّةِ الحرارةِ :
فيُديرونَ وجوهَهم ، نحو الحَجَرِ ، ينتظرونَ الليلَ .

ولأنّ الليلَ يحشرُهُم إلى الداخلِ
هم يتنفّسونَ بصعوبةٍ .

وخلالَ الليلِ
تسيرُ صرخاتُهم في الممرّاتِ .

لا أحدَ يدخلُ ، ليلاً ،
الردهاتِ الشاسعةَ
حيثُ تتقاطعُ أحلامُ المجانينِ
كما في باحةٍ .

في البلاد
NO CAMPO
كانت الشمسُ مُعضِلةً عنده ،
طريقةُ صعودِها تُقلِقُهُ ،
ولا يستطيعُ ، أبداً ، أن ينتسبَ إلى النباتاتِ
حين تستديرُ بأوراقِها نحو السماءِ .

لقد تجنّبَ العالَمَ الطبيعيَّ
( لاحِظْ أنه أحَبَّ حيواناتٍ معيّنةً : الطيور –
والأصغرَ : الزواحفَ ) ،
ورثى شروطَ الموتِ التي حكمَتْ عليه بأن يكون على الأرضِ .

لقد كان يُفَضِّلُ فضاءً خاوياً ،
صمتاً  غيرَ متناهٍ  داخلَ الغُرَفِ ،
وطاولةً بلا زهورٍ وكآبةٍ .
لكنّ ظِلَّ الأصيلِ دفعَه  داخلَ الضوءِ .
أغمضَ عينَيه.

(دمغةُ الشمسِ آذَتْه طويلاً ) .


كوبْرا
COBRA
تُعَلِّمُنا الكآبةُ
أن الخطَّ يُعَيِّنُ كلَّ شيءٍ
من الانفعالِ على الوجهِ
إلى الجبلِ في الغروبِ .

* كوبرا هنا إشارةٌ إلى حركة كوبرا الفنّيّة ( المترجِم )

رِحلةٌ
VIAGEM
ثمّتَ عيونٌ لا تُمَيِّزُ إلاّ الحُلمَ ،
وآنَ يتبخّرُ الحُلمُ
تَعْمى .

ثمّتَ جسورٌ لا يعبرُها الناسُ شتاءً ،
مع أنها ليست بحراسةِ أحدٍ :
جسورٌ بلا أقواسٍ ،
مجرّدةٌ مثل قوس قُزَح
وباردةٌ كالمطرِ في الفجرِ .

حقلٌ أخضرُ يَنضَجُ ،
السِحرُ غيرُ المُجدي للمناراتِ
حينَ يُبَدِّدُ الصباحُ الضّبابَ الأخيرَ ،
رفّةُ جَفنَينِ مثل جناحَينِ :
صوَرٌ أتذكّرُها .
تُعِيْدُ إليّ عينَيّ
اللتَينِ أرى بهما مدخلَ المدينةِ .

تَــحَـوُّلٌ
TRANSICAO
في يومٍ ما ، تختفي السُّحُبُ من السماءِ ،
والضوءُ يجعلُ النساءَ أكثرَ شُحوباً ،
والبحرُ يُسْمَعُ تحتَ الضجيجِ الدنيويّ .
لا يمْكنُ القولُ إن أحداً كان أعلَنَ هذا التبدُّلَ :
لا طقس أمس الرديء
ولا كآبة الشهرِ ،
فقط ، وزنٌ متوثِّبٌ في الجملةِ
مثل خضرةِ الأوراقِ الأولى
تنبّأَ بالتبدُّلِ .
أوّلاً ، لا تدخل المنزلَ بدونِ أن تتنفّسَ
ذلكَ الهواءَ الذي جاءتْ به الرياحُ
مُحَمَّلاً بالطلْعِ
ليُخصِبَ المخيّلةَ العقيمَ .
اجلِسْ على العتبةِ كالعجائزِ
ودع الشمسَ تُطَهِّرُكَ من الشتاءِ والليلِ .
الأصيلُ لن يدومَ طويلاً
وسيأخذُ معه هذا النفَسَ الأوّلَ للربيعِ
والتماعَ القصيدةِ .

لُعبةٌ
Jogo
لأنني أعرفُ أني أحبُّكِ
وكم هي صعبةٌ شؤونُ الحُبِّ،
هيّأتُ اللعبةَ  بصمتٍ ،
وضعتُ القِطَعَ على اللوحةِ ،
 رتّبْتُ المَواقعَ الضروريّةَ ،كي يُمكنَ لكل شيءٍ أن يبدأ :
الكراسي يواجِهُ أحدُها الآخرَ ،
مع أني أعرفُ أنّ أيدينا لن تتلامسَ ،
وإلى جانبِ المشكلاتِ الممكنةِ ، التردُّداتِ
والإقدام والإحجام...
أعرفُ أن عيونَنا فقط ،  قد تتفاهمُ .
ثمّ جئتِ
كأنّ ريحاً شماليّةً دخلتْ عبرَ النافذةِ.
تطايرَت اللعبةُ كلُّها في الهواءِ ،
وملأَ البردُ عينيكِ بالدموعِ ،
وسحبْتِني إلى الداخلِ
حيثُ التهمت النارُ بقايا أُحْجِيَتِنا .

حُبٌّ في 1996
O AMOR EM 1996
حلمْتُ بكِ ، مع أنّ أيّ حُلْمٍ يخلو من ساكنِين :
أنت ، يا من أدعوك  ، يا حُبُّ ، كأنّ كلَّ عامٍ
سيأتي بقليلٍ من الاقتناعِ بهذه الكلمةِ .
حقٌّ أن الحلمَ قد جرى بطريقةٍ تفرضُ وجودَكِ على حالتِنا
نحن كلَينا –
كأنّ كلَّ إيماءةٍ من القصيدةِ  تُعِيدُ إليك جسداً أحببْتُهُ
بينما أنا أردِّدُ اسمَكِ متخبِّطاً بين شفتَيكِ
وحافةِ فنجانِ القهوةِ التي بردَتْ .
ثم أحتسي القهوةَ دُفعةً واحدةً :
الأمرُ نفسه قد يُجرى مع الحبِّ ، وقد استقرّتْ هذه المسافةُ
بيني وبينك –
الأرض، الماء ، الغيم ، والأنهار
وبُحيرة الزمن الغامضة التي سرقَها الشتاءُ من شفافيةِ الينابيعِ .
إلاّ أن هذا هو ما يجعلُ الوحدةَ مكاناً عاديّاً :
أن أعرفَ أنكِ موجودةٌ ، داخلَ ذلك ، وأن أكونَ معكِ
حتى لو أجابَني الصمتُ
آنَ أناديكِ .

تنويعٌ على الورود
VARIACO SOBRE ROSAS
مثل ما تنبتُ الورودُ البرّيّةُ في كل مكانٍ
يُمْكِنُ للحُبِّ أن يأتي من حيثُ لا نتوقّعُ .
حقلُهُ غيرُ متناهٍ : الجسدُ والروحُ .
ووراءهما ، عالَمُ العواطفِ الذي ندخلُهُ
بدون أن ندقَّ الباب ، حتى كأنّ البابَ مفتوحٌ دوماً
لمن  يريدُ الدخولَ .

أنتِ التي علّمتِني ما الحُبُّ ،
جمعتِ تلك الورودَ البرّيّةَ:
لونُها القرمزيُّ يلتمعُ على وجهِكِ .
عِطْرُها يسيلُ أسفلَ صدرِكِ ، ويفيضُ على رافدِ رحِمكِ
ويعلو ليَبْلغَ شَعرَكِ الطليقَ في نسيمِ الهمساتِ .
من شفتَيكِ
أسرقُ ورقَ الوردِ .

وإنْ لم تذبلْ تلكَ الورودُ
مع الزمنِ
فلأنّكِ غذَوتِها بالحُبِّ .


التهيّوء لرِحلةٍ
PREPARATIVOS DE VIAGEM
وأنا أهيّءُ حقيبتي ،
علَيَّ أن أفكِّرَ بكل ما أضعُهُ  فيها
كي لا أنسى شيئاً .
أنظرُ في القاموسِ ، وآخذُ الكلماتِ التي سأستعملُها
جوازَ سفَرٍ :
خطّ الإستواء
خطّاً واحداً للأفُقِ ، خطوط الطول والعرض ،
مقعد مُسافرٍ لَجوجٍ .
قيلَ لي إنني لا أحتاجُ شيئاً آخرَ ؛ لكني أظلُّ أملأُ الحقيبةَ .
أضعُ فيها غروباً ، كي لا يهبطَ الليلُ سريعاً .
مَلْمسَ شَعرِكِ حتى لا تنساه يدايَ .
والطيرَ الذي يغرِّدُ ، لسببٍ ما ، في الحديقةِ الخلفيّةِ .
وأشياءَ أخرى قد تبدو عديمةَ الفائدةِ  ، لكنْ علَيَّ أن آخذَها:
جملة تائهة في منتصف الليلِ .
مجرّة عينيكِ حين تفتحينهما .
وأوراقاً أكتبُ عليها ما يُمليه غيابُكِ .
فإنْ قيلَ لي إن  وزنَ حقيبتي  زادَ على المقرَّرِ
تركتُ كلَّ شيءٍ ورائي
واحتفظتُ بصورتِكِ فقط ،
نجْمَ ابتسامةٍ حزينةٍ
وصدىً لكآبةِ الوداعِ .

ضوءُ لشبونة
A LUZ DE LISBOA
النورُ ، عبرَ الغرفةِ ، بين النافذتَينِ
هو ، نفسُهُ ، دوماً
مع أن جانباً هو الغربُ – حيثُ الشمسُ الآنَ –
والجانب الآخر هو الشرقُ – حيثُ الشمسُ بالفعل .
في الغرفةِ التقى الشرقُ والغربُ ،
وذاك الضوءُ جعلَني غيرَ متأكدٍ لأني لا أعرفُ أيَّ ساعةٍ بلغَها الضوءُ أوّلاً .
ثم أنظرُ إلى خيطِ الضوءِ الممتدِّ بين النافذتَينِ
كأنه بلا بدايةٍ أو نهايةٍ ؛
ثمّ أشرعُ أجذبُهُ إلى الداخلِ ، في الغرفةِ
وأنا ألُفُّهُ
كأني أريدُ أن أعْقِدَ طرَفَي النهارِ لتكونا ظهيرةً ،
وأدَعَ  الزمنَ يتوقّفُ بين نافذتَينِ ،
غرباً وشرقاً ،
حتى ينفَكَّ الخيطُ ،
ويبدأ كلُّ شيءٍ من جديدٍ .

وصَلَ الحُبُّ
A CHEGADA DO AMOR
وصلَ الحُبُّ ، وسارَ على الرصيفِ
حيثُ لم يكنْ أحدٌ بانتظارِهِ .
المدينةُ ، بأسْرِها ، ارتجفَتْ
كأنّ الحُبَّ مسَّها .

لكنّ أحداًما رأى الحُبَّ يغادرُ السفينةَ
ويذهب إلى الجماركِ ، للإستجوابِ :
" ماذا حملتَ معكَ ؟ أرِنا جوازَ سفرِكَ " .
لم يفهم الحُبُّ معنى السؤالِ ؛
وضَعَ على المكتبِ قوسَه مع السهامِ .

صودِرَ هذا كلُّه : العُدْوانُ غيرُ مرغوبٍ فيه ، في هذه المدينةِ .
الأسلحةُ كلُّها ممنوعةٌ .
وهكذا ، ظلَّ الحُبُّ ، بدون جوازِ سفرِهِ ،على الرصيفِ
بين أكياسِ القُمامةِ والمتشرِّدين
عاجزاً عن أيّ أمْرٍ .

وفي الليلِ ،
حين تنامُ المدينةُ ،
يتساءلُ الجميعُ:
متى سيصِلُ الحُبُّ .

همْلِتْ وأوفيلْيا
HAMLET E OFELIA
ليس كلّ يومٍ ، يأخذُ همْلِتْ سيّارةَ أُجرةٍ
إلى قلعةِ ألسينور ،
حيثُ أوفيليا التي تتوقّعُ مجيئه ،
كانت أعدّتْ بيضاً مقليّاً لعشائهِ .
في السيارةِ ، يسمعُ هملِت السائقَ يسألُ عن الوجهةِ
فيجيب همْلِتْ، هكذا ...
في الطريقِ الأقصرِ .
لكنّ السائقَ لم  يجدْهُ
بين أن تكونَ وألاّ تكون .
ومع البيضِ الذي أخذَ يبردُ
يطلبُ هملِتْ من السائق أن يستفسرَ من بولونيوس
الذي يجب أن يعرفَ إن كان هناك طريقُ سيّاراتٍ إلى الدانيمارك .
الحقُّ ، ليس من طريقٍ إلى هناكَ .
وعلى هاملِتْ أن يركبَ العَبّارةَ إلى ألسينور ،
حيثُ ألقتْ أوفيليا بالبيضِ في القُمامةِ
آمِلةً في أن هاملتْ قد يُسعَدُ بالماكدونالد .
لكنّ هاملِتْ كان تركَ سيّارةَ الأجرةِ ،
بعد أن دفعَ ما دفعَ ،
وهو يقطعُ الحديقةَ ، الآنَ ، غيرَ عارفٍ ما يفعلُ
بعدَ أن اتّصلتْ به أوفيليا على هاتفه الجوّالِ
مستفسرةً عن أقربِ نهرٍ ،
لتفعلَ ما عليها أن تفعلَه .

تعليقٌ على مشهدٍ من شكسبير
ANALISE DE UM EPISODIO DETEATRO DE
SHAKESPEARE
الحقُّ أنني لم أفهم ، البتّةَ ، قصةَ الغابةِ وهي تُطاردُ الليدي ماكْبِث .
ولأنّ الليدي ماكبث كانت قبيحةً جداً ،
فما السببُ في أن الغابةَ تُطاردُها ؟
الغاباتُ ، عادةً ، تطاردُ الحوريّاتِ الجميلاتِ
وحينَ تُمسِكُ بهِنّ ، تلُفُّ أغصانَ الشجرِ حولهنّ
وتغطِّي شَعرَهُنّ بالورَقِ
وتُخفي شَعرَ عاناتِهِنّ بأزهارٍ عريضةٍ بلّلَها الندى .

إلاّ أنّ الليدي ماكبث تركضُ أسرعَ من الغابةِ
وتنفضُ يدَيها الملطّختَينِ دماً ، محاوِلةً غسلَهما بضبابِ الخريفِ الرطبِ .
إنْ أمسكتْ بها الغابةُ  فلسوفَ تمزِّقُ ما يَسترُ ثديَيها
وعلى الليدي ماكبث أن تتمدّد على الأرضِ
وتحاولُ إخفاءَ حلْمتَيها بالقرّاصِ والعشبِ الحادِّ ، ممّا يصبغُ ثديَيها بالصُّفرةِ ،
وعليها أن تنتظرَ الشمسَ لتحرِّرَها من أشباحِ الغابةِ .

وبينما الليدي ماكبث تسبِقُ ، راكضةً ، الغابةَ
تخلعُ ، واحداً بعد آخرَ ، الثيابَ التي تُخفي جسدَها
وتركضُ ، أسرعَ فأسرعَ ، لتَبْلغَ أعلى التلّ ، الذي لا تستطيعُ الغابةُ بُلوغَه
لأنه جافٌّ ، وصخريٌّ
ولأنّ جذورَ الشجرِ لن تنتشرَ بلا ماءٍ يروي جذوعَها .
الليدي ماكبث ، عاريةً ، في القمّةِ
تنفضُ شَعرَها
لتذودَ عنها الغيومَ والطيورَ الجوارحَ –
والدمُ يَقْطُرُ من يدَيها على الأحجارِ ،
كأنها نبعٌ .

وكلّ يومٍ
تشربُ الشمسُ الغاربةُ
الدمَ من يدَي الليدي ماكبث
لتغمرَ به الغابةَ أسفلَ التلِّ ،
هكذا يكون بمقدورِ الغابةِ أسفلَ التلِّ
أن تُغوي الليدي ماكبث بجذوعِها التي يغطِّيها ورَقٌ أحمرُ .

فهرس الكتاب
مقدمة
القصائد
1- الطير الأسود
2- صورة
3- صراع طبقيّ
4- مثل نساءٍ يهرمْن
5- الحكواتي
6- بزغ بغتةً .له وجهكِ
7- مدن في مهبّ الريح
8- النظريةوالتطبيق
9- مطرٌ . أسلاكٌ .قصائد مثل غسيل على حبل
10- الطيور
11- مرثيّة
12- أصيل
13- تردُّد
14- لغزٌ له مفتاح
15- تعزيمة
16- إيمان
17- سطرٌ مائيّ
18- حياة جامدة مع الروح القدس
19- نُواح
20- سجلّ سوابق
21- لعبة الأسئلة
22- القطّ والأميرة
23- لعبة الطاولة
24- فطور الصباح
25- أزمة النفط
26- خبزٌ بيتيّ
27- حياةٌ جامدةٌ تقريباً
28- حوارٌ سِرّيّ
29- الجنوب
30- مباديء المنظور
31- البيّنة البشريّة
32- صورة الريح
33- تكوين
34- حُبّ
35- على اليابسة
36- حوار والوصيّة الأخيرة
37- استعادةٌ
38- مشهدٌ مدينيّ
39- في البلاد
40- كوبرا
41- رِحلة
42- تحوُّلٌ
43- لُعبة
44- حُبّ في 1996
45- تنويعٌ على الورد
46-  التهيّؤ لرِحلة
47- ضوء لشبونة
48- وصلَ الحُبّ
49-  هاملِتْ وأوفيليا
50- تعليقٌ على مشهد من شكسبير
51- \
الغلاف : كبش الفداء للرسامة البرتغالية
Josefa de Obidos  1630-1684

اخر تحديث الجمعة, 11 شتنبر/أيلول 2015 18:42