جِـــــــرارٌ بِلونِ الذهب طباعة

لِي بو

ترجمة وتقديم سعدي يوسف

Image

كيف تسلّـلَ " لي بو الشاعرُ "  إلينا ...
سعدي يوسف
في أواسط الخمسينيّاتِ ، أصدرَ بدر شاكر السياب  كُتَيِّباً بعنوان " مختارات من الشِعر العالميّ "  ، أو نحو ذلك ، فقد بعُدَ الزمنُ  ، حتى ضاقَ بنا !
على أي حالٍ ، أتذكّرُ في ما أتذكرُ أن من بين المختارات قصيدةً لجاك بريفير .
كما أنني متأكدٌ تماماً من أن في " المختارات " قصيدةً للشاعر الأميركيّ إزرا باوند ، بعنوان " رسالة من زوجة تاجر النهر " .
الحقُّ أن هذه القصيدة ، في نصِّها الإنجليزي ، الذي اعتمده بدرٌ في الترجمة ، هي ليست لباوند ، بل هي ترجمة باوند من اللغة اليابانية لقصيدة " لي بو "  التي تمَّ نقلُها إلى هذه اللغة من أصلِها الصينيّ .
لقد تصرّفَ باوند  ، كما حلا له ، فقدّمَ نصّاً جميلاً ، مؤثِّراً .
لكن ثمّت ملحوظات  جادة حول الترجمة ، منها أن المخاطَب ، في النص الأصل ، لم يكن تاجراً ، تاجر نهرٍ ، بل كان قبطانَ نهرٍ هو اليانغتسي الجبّار ، كان المخاطَبُ River captain ، وفي متداوَلِنا في البصرة والخليجِ ، كان " نوخْذة " .
ترجمةُ بدر للقصيدة ، كانت باذخةً . وقد التزمَ بالوزنِ ، كما يفعلُ ، عادةً ، المترجِمون الأدقّ احترافاً .
هل انتبه أحدٌ ، ولو في السِرّ ، إلى أهمية ما فعله بدرٌ العظيمُ ؟
في ما يتّصِلُ بي :
أعتقدُ أنني ظللتُ زمناً ، أردِّدُ القصيدةَ ، بل لقد حفظتُها ، عن ظهرِ قلبٍ ، كما نقول .
ومن المؤكَّدِ ، أنني لم أعُدْ أحفظُ القصيدةَ عن ظهرِ قلبٍ .
لكن القصيدة ظلّتْ كامنةً .
هل كانت قصيدتي المعروفة : يا سالم المرزوق  ، استعادةً لقصيدة لي بو ؟
يا سالم المرزوق ، خذني في السفينةِ ، في السفينةْ
خُذْ مقلتي ثمناً ، سأفعلُ ما تشاء
إلاّ حكاياتِ النساء ...
*
القصيدة الأصل ، موضع الحديث ، هي القصيدة الأولى في هذا الكتاب .
*
ولِدَ لي بو  ، العامَ 701 في " طقماق " بقيرغيزستان الحاليّة ، لكن أسرته استقرّت في سيشوان حيث ترعرعَ.
غادرَ البيت العائلي في العام 725 ، جوّابَ آفاقٍ في وادي نهر اليانغتسي ،  يكتب الشِعر.
في العام 742 عيّنه الإمبراطور كسوانغْ زونغْ  في أكاديمية هانلين . لكنه ما لبِثَ أن طُرِدَ من البلاط الإمبراطوري .
ثم دخل في خدمة الأمير يون  ، الذي قاد ثورةً بعد تمرُّد آنْ لوشان في العام 755.
حُبِسَ لي بو بتهمة الخيانة ، ونُفيَ ، ثم صدر عفوٌ عنه ، فعاد جوّاباً في وادي اليانغتسي.
تزوّجَ أربع مرّاتٍ . وكان صديقاً للشاعر الشهير تو - فو .
قضى في العام 762 مسموماً ، أو بتَلَيُّفِ الكبِدِ .
*
تأثّرَ لي بو بالكونفوشيوسية ، والتاويّة بخاصة ( ترِدُ في قصائده إشاراتٌ إلى التاو ) ، كما أنه ابنٌ للطبيعةِ ،
ومُحِبٌّ للكأس .
كان جوّابَ آفاقٍ ، مُعْظَمَ حياته ، لا بسببٍ من فقرٍ ، بل بسببٍ من غنىً .
وبالرغم من كونفوشيوسيّته ، إلاّ أن سيرتَه في صِباه  ، وهو المغامرُ الحرُّ ، كانت بعيدةً عن تعاليم الكونفوشيوسية .
في الصين الآن ألفٌ ومائةٌ من القصائدِ المنسوبةِ إليه .
ويعتبره الصينيون ، شاعرَهم الأسمى ، حتى اليوم .
قبل أيام كتبتُ إلى صديقي الصينيّ ليان ْبِن ني أُخبره باعتزامي نقل شاعرهم إلى العربية .
ضحك صديقي ، قائلاً : العالَم لديه مختلفٌ تماماً عن عالم الصين الآن ...
لكنه أضاف : أتعلمُ ؟  ابنتي في الروضة ، وهي تستظهرُ في هذه اللحظةِ قصيدةً من لي بو !

لندن  12.10.2014
-----------------------------------------------------------
قصائد  لي بو
أغنيةُ شانغ- غان
حكايةُ حُبٍّ فَتِيٍّ
للشاعر الصيني  : لِي بو  ( 701- 762 ميلادية )
ترجمة : سعدي يوسف

أوائلُ غَسَنٍ  على جبيني ،
أنا ألعبُ ، أقطفُ زهوراً قربَ الباب.
أنتَ تجيءُ  ، دائراً حول البئر ،
على صهوةِ حصانٍ خشبٍ ، ناثراً برقوقاً أخضرَ .
نحن في قرية شانغ- غان ،
طفلانِ بلا رِيبةٍ أو كُرْهٍ .
*
في الرابعةَ عشرةَ ، أكونُ زوجتَك .
ولأنني خجلى ، أغضُّ البصرَ آنَ ألقاكَ ،
وأحني رأسي ، فأنظر إلى الحائط المعتم .
ولو أنكَ نادَيتَني ألفَ مرّةٍ
فلن أرفعَ بَصَري إليك .
*
في الخامسةَ عشرةَ ، لم يعُدْ حاجباي ينعقدان .
ومن ثقتي بحبِّكَ ، أريدُ أن أكون معك
حتى الرميم أو الرماد ...
لا أظنُّ أنّ عليّ أن أرقى الـمَرْقَبَ لأراك .
*
في السادسة عشرة ،  ترحلُ ، أنت ، بعيداً
عبرَ المضائق الخطرةِ ، كو- تانغ ،
السيول خطيرةٌ وصعبةٌ  ، وعصيّةٌ على العبور في شهر أيّار .
قرودُ الشِقّ  تنعبُ صارخةً .
*
آنَ غادرتَ بوّابتَنا جررْتَ قدمَيكَ .
والآنَ ، في كل أثرٍ من خُطاك القديمةِ
ينمو طُحلُبٌ ، عميقٌ ، ثخينٌ  ...
ليس بمقدوري أن أكنسَه .
الريحُ تهبُّ مبكِّرةً ، والأوراقُ تَسّاقَطُ .
*
إنه الخريف .
وعبر البستان الغربيّ تندفعُ الفَراشاتُ الصُّفرُ أزواجاً
أنا أنهارُ لرؤيتهِنّ ...
لونُ وجهي يغيضُ .
لَكأنّ شبابي يمضي ...
*
ولو انكَ عُدتَ في أحد هذه الأيامِ
عبرَ المضائقِ الثلاثةِ ليانغ-زِي-جيانغ
فابعَثْ رسالةً ، ولسوف آتي لألقاك .
مهما بَعُدَ المكان .
---------------------------
* الغَسَنُ : قَصّةُ شَعرِ الناصية على الجبين .


مجونٌ على الجبل

كي نغسل أرواحَنا ، ونُطهِّرَها ، من أحزان العُمرِ
أفرَغْنا مائةَ إبريقِ خمرٍ .
كانت ليلةً رائعةً ...
كرهْنا فيها أن نرقدَ تحت ضوءِ القمرِ الساطعِ ،
لكنّ السُّكْرَ غلَبَنا ، أخيراً ؛
فانطرحْنا على الجبل الأجرد ،
الأرضُ مُفترَشُنا
والسماءُ العظيمةُ ملتَحَفُنا .

تبرئةٌ
لو لم تحبب السماءُ الخمرَ
لَما طلَعَ نجمُ خمرٍ في السماء ؛
ولو أن الأرضَ لم تُحبب الخمرَ
لَما انبجَسَ نبعُ خمرٍ فيها ...
وما دامت السماءُ والأرضُ تحبّانِ الخمرَ
فلِمَ يخجلُ الشاربون ؟
بلَغَني أن الخمرَ الصافيةَ لها فضيلةُ العاقلِ
بل يقالُ إن الأحمقَ والحكيم
هما في الحكمةِ سواءٌ ...
العاقلُ والحكيمُ كانا من الشاربين ،
إذاً ، لِمَ نبحثُ عن النبلاءِ بين الآلهةِ والشياطين ؟
ثلاثُ كؤوسٍ تفتحُ بوّابةَ النعيم .
خُذْ إبريقَ خمرٍ تملكْ الكونَ .
هاهي ذي نعمةُ الخمرِ التي لن يعرفَها الصاحي .

عن تو- فو

التقيتُ تو - فو على قمّةِ جبلٍ
في شهر آب
آنَ الشمسُ حادّةٌ .
كان وجهُه حزيناً تحت قبّعةِ القشّ العريضةِ .
لقد باعدَتْ بيننا السنونُ
وأضحى ، هو ، عليلاً
مرهَقاً .
فكّرتُ آنذاكَ :
مسكينٌ تو-فو العجوزُ
لا بُدَّ أنه يعاني من الشِعرِ ثانيةً .

وحيداً أنظرُ إلى القمر

الطيورُ ، كلُّها ، طارتْ ، ومضتْ ؛
وغيمةٌ وحيدةٌ  ، تطفو ، متريِّثةً .
إثنانِ لا يسأمانِ النظرَ إلى بعضِهما :
الجبل
وأنا .

وحيداً ، أشربُ تحت ضوء القمر

أنا ، بين الزهور
وحيدٌ مع زِقِّ خمري ...
أشربُ مع نفسي ، ثم أرفعُ كأسي
وأسألُ القمرَ أن يشربَ معي ...
صورتُهُ  ، وصورتي ، في كأسِ الخمرِ
 نحن الثلاثة  فقط ؛
ثم أتنهّدُ ، لأن القمر لا يستطيعُ أن يشربَ ،
وظِلِّي يمضي ، خاوياً ، معي ، بلا نأمةٍ أو كلمةٍ ،
ولأنني بلا أصدقاء هنا
فلا بُدَّ لي من رفقةِ هذينِ ؛
ففي أوانِ السعادةِ
عليَّ أن أكونَ سعيداً بما حولي ؛
أجلسُ وأُغَنّي
كما لو أن القمر يصاحبُني في الغناء .
فإن رقصتُ  راقَصَني ظِلّي ؛
ولأنني لم أثمَلْ بَعدُ ،
فأنا مبتهجٌ لانعقادِ صداقةٍ بين ظلي والقمر .
لكنْ ، حين أسْكَرُ في ما بَعدُ
يفترقُ الجميعُ ...
لكن هؤلاء أصدقاءُ صَدوقون
مُنَزَّهون ...
وآمُلُ في أن نلتقي ، يوماً ، نحن الثلاثة
في عُمْقِ الـمجرّةِ .

بين الزهورِ إبريقُ خمرٍ

بين الزهورِ إبريقُ خمرٍ
انا أسكبُ ، وحيداً ، بلا رفيقٍ .
وهكذا ، أرفعُ كأسي ، وأدعو القمر ،
ثم ألتفِتُ إلى ظِلّي ، لنكون ثلاثةً ،
ظِلّي يكتفي بمتابعــةٍ لحركاتِ جسَدي .
والقمرُ ، جاءَ بالظلِّ ، ليؤنسَني قليلاً
فعلى المرَحِ أن يلتحقَ بالربيع .
اشرَعُ في أغنيةٍ ، فيترنّحُ القمرُ ،
أقفُ
وأرقصُ
والظِلُّ يتحرّكُ ضخماً .
ما دمتُ صاحياً ، فلنتمتّعْ معاً .
ولْيذهبْ كلٌّ إلى سبيلِهِ بعدَ أن أسكرَ ...
لنكنْ مستعدِّين ، أبداً ، إلى أسفارٍ بلا آلامٍ .
ولْنُقْسِمْ :
لَنلتَقِيَنَّ ، ثانيةً ، في عُمْقِ المجرّةِ .

أغنيةُ نهرِ الخريف

القمر يتلألأ في الماءِ الأخضرِ ،
وطيورُ مالك الحزين تطيرُ في ضوءِ القمرِ .
الفتى ، يسمعُ فتاةً تَجمعُ كستناءَ الماءِ :
وفي الليلِ ، يَجذِفانِ ، عائدَينِ ، معاً ، إلى البيت .

الإغتسالُ

إن استحممْتَ بالشذى
فلا تمسَحْ قُبّعتَكَ ؛
وإن اغتسلتَ بالعطرِ
فلا تنفضْ رداءَكَ .

مَن عرفَ العالَمَ
خافَ منتهى النقاءِ .
الحكيمُ
يُثَمِّنُ النورَ ويكنزُهُ .

عند " الماءِ الأزرقِ "
جلسَ صيّادُ سمَكٍ شيخٌ :
لِنَعُـدْ أنتَ وأنا
معاً
إلى البيت .

قِبالةَ زِقِّ خمرٍ

ريحُ الربيعِ تهبُّ من الشرقِ ، وتمضي عجلى ،
مُخَلِّفةً مُوَيجاتٍ واهنةً في القدَحِ الذهبِ.
الأزهارُ تَسّاقَطُ
بالآلافِ ،
رٌقاقةً ، إثرَ رُقاقةٍ .

أيتها الفتاةُ الجميلةُ ، المتألقةُ من الخمرِ ،
وجهُكِ المتورِّدُ يزدادُ توَرُّداً .
متى ستُزْهِرُ أشجارُ الخوخِ والبرقوقِ
عندَ المنزلِ الصبيغِ بالأخضرِ ؟
الليلُ المنسرِبُ يخدعُ المرءَ
يأتي سريعاً بالهرَمِ .

قُم ارقصْ
في الشمسِ التي تَغْرُبُ
آنَ عنفوانِ العُمرِ لم ينطفيءْ بَعدُ !
ما معنى الندامةِ بعدَ أن يشيبَ الشَّعرُ
مثلَ خيوطٍ حريرٍ ؟

هاتِ الخمرَ ، هاتِها

انظرْ إلى أمواهِ النهرِ الأصفرِ ، كيف تَنْهَلُّ من السماءِ .
تَصُبُّ في المحيطِ ، ولا تعودُ أبداً .
انظرْ إلى الخُصُلاتِ البهيّةِ في المرايا الساطعةِ
داخلَ الغرُفاتِ العاليةِ ،
لقد تبدّلَتْ ليلاً إلى بياضِ الثلجِ
هي التي كانت حريراً أسودَ ، نهاراً .
آهٍ ...
دع الرجلَ ذا الهمّةِ يغامرُ أنّى شاءَ
ولا يرفع كأسَه فارغةً نحو القمر !
وما دامت السماءُ منحتْنال النعمةَ ، فلْنغتنِمْها !
دَوِّمْ ألفَ قطعةِ فضّةٍ ... إنها ستعودُ كما كانت!
اطبخْ خروفاً ، اذبَحْ بقرةً ، أشبِعْ شهيَّتَكَ ،
وامزجْ لي ، من ثلاثةِ آلافِ طاسٍ ، كأساً  مترَعةً !
... وإلى الأستاذ الشيخِ ، تْسِنْ
والطالبِ الفتى ، تان - شِيو ،
لنأتِ بالخمرِ !
لا تدَعوا الكؤوسَ تركدُ !
دعوني أغَنّي لكم أغنيةً !
ولْتسمعوني !
ما الجرَسُ والطبلُ ؟ ما الأطباقُ النادرةُ والكنزُ ؟
دعوني أمضي في سُكْري ، فلا أعودُ إلى رُشدي ، أبداً !
الصُّحاةُ والحكماءُ منسيّون ،
والشَّرْبُ العُظماءُ هم مشاهيرُ الزمانِ .
الأميرُ تْشَينْ دفَعَ ، في مأدُبةٍ بـ " قصر الكمال "
عشرةَ آلافِ قطعةٍ من أجل زِقِّ خمرٍ
مع الضحكاتِ العاليةِ .
لماذا تقولون ، يا ضيوفي ، إنني بدّدْتُ مالي ؟
اذهبوا ، وابتاعوا خمراً ، لنشربَ معاً .
جوادي المزيَّنُ بالأزهارِ
وفرائي
تساوي ألفاً .
ليأخذْهُما الصبيُّ ، ويستبدل بهما ، خمراً  رفيعةً ،
ولْنُغْرِقْ همومَ ألفِ جيلٍ !

شْوانغْ - تْسُو  والفراشةُ
رأى شوانغ - تسو ، في ما يرى النائمُ ، أنه استحالَ فَراشةً .
الفراشةُ صارتْ  شوانغ - تسو في اليقَظةِ .
أيٌّ الحقيقيُّ ؟ الفراشةُ أم الرجُلُ ؟
مَن يعر ف نهاياتِ الأشياءِ ؟
الماءُ الذي يصُبُّ في أعماقِ البحرِ البعيدِ
يعودُ إلى ضحضاحِ جدولٍ رقراقٍ .
الرجلُ الذي يزرعُ البطّيخَ خارج البوّابةِ الخضراءِ للمدينةِ
كان أميرَ التلِّ الشرقيِّ ، يوماً ما .
هكذا تنتهي الرُّتَبُ والأموالُ .
أنتم تعرفون هذا ،
لكنكم تظلّون تكدحون وتكدحون ...
لماذا ؟

تشِينغْ بينْغْ تياو

السحابُ يُذَكِّرُني بثوبِها ،
والزهورُ تُذَكِّرُني بوجهها .
رياحُ الربيعِ تُمَسِّدُ أعلى السياجِ
حيث يلتمعُ الندى .
إنْ لم ترَها  في قمّةِ الجبلِ المُزدانةِ  جواهرَ
فرُبّتَما تلقاها عند أرضِ اليَشَبِ .

منفسَحٌ في الفجرِ
الحقولُ باردةٌ ، والمطرُ النزْرُ توقَّفَ ؛
ألوانُ الربيعِ تتباهى من كل ناحيةٍ .
البرْكةُ الزرقاءُ ملأى بالسمكِ المتواثبِ ؛
الغصونُ الخُضرُ تنحني وقد أثقلَها السمّانُ المغرِّدُ .
أزهارُ الحقلِ رطّبَتْ خدودَها ،
وأعشابُ الجبلِ مهصورةُ الخصورِ .
وعند جدولِ الخيزرانِ
تنجابُ أواخرُ غيمةٍ ، بطيئاً ، في الريح .

في الجبال

بينما نحن نشربُ ، معاً
تتفتّحُ زهورُ الجبلِ حولنا ،
ونحنُ نُفْرِغُ كأساً بعد أخرى
حتى أُمسي ، أنا ، ثمِلاً ، نعسانَ ...
هكذا ، من الخيرِ أن تذهبَ ،
فإنْ أحببتَ المجيءَ غداً
فأحْضِرْ مِزهرَكَ معكَ !

أتسلَّقُ غربَ " قمّة زهرة اللوتس "

في مَنْعةِ هْوا - شانْ
أتسلّقُ حتى قمّةِ الزهرةِ ،
متمنّياً أن أرى جنّيّاتٍ
يحملْنَ اللوتس بأيديهنّ البِيضِ
خافقاتِ الغلائلِ التي تملأ السماءَ بالألوانِ
وهي ترتفعُ إلى قصرِ الجنّةِ ،
إنهن يدعونني إلى منزلةِ الغيمِ
لأرى شو - شِينغْ ، الملاكَ الحارسَ
لــ " هْوا - شان " ،
أمضي معهنّ  ، حالِماً
راكباً وزّةً برّيّةً تطير وهي تصيحُ .
لكنْ حين ننظرُ إلى أسفل عند لويانغْ
المشوَّشة بسبب الضبابِ ،
سوف نرى جيوشاً  تنهبُ وتسلِبُ ، في كل مكانٍ .
هذه الجيوشُ استولَتْ على لويانغْ
مع الفوضى ، وجنونِ الدمِ المندفقِ في كل مكانٍ ...
مثلَ الضواري
صارَ جنودُ جيشِ المتمردين
حُكّاماً
بقبّعاتٍ وأرديةٍ ...

أشربُ وحيداً

آخذُ إبريقَ خمري ، وأخرجُ ، بين الزهورِ
لأشربَ وحيداً ، بلا أصدقاء .

أرفعُ كأسي لأُنبِّهَ القمرَ .
ليكونَ القمرُ ، وظِلّي ، وأنا
ثلاثةً .

لكن القمر لا يشرب .
وظِلّي يتبعُني  صامتاً.

سأرحلُ مع القمرِ والظلِّ
سعيداً ، حتى منتهى الربيعِ .

إنْ غنّيتُ رقصَ القمرُ .
وإنْ رقصتُ رقصَ  ظلي معي .

نحن نَنْعَمُ بمباهجِ الحياةِ ، صُحاةً .
لكنْ ، كلٌّ يمضي إلى سبيلِهِ ، سكارى .

يا أصدقائي الصدوقين
صحيحٌ أننا مترحِّلون
لكننا سنلتقي ، ثانيةً ، في دربِ المجرّةِ .

اعترافٌ

كان خمرٌ في كأسِ الذهبِ ،
وفتاةٌ في الخامسةَ عشرةَ ، من " وُوْ "
حاجباها صبيغانِ بالسوادِ ،
وصندلاها حريرٌ أحمرُ .

حديثُها بائسٌ ،
لكنْ ، ما أجملَ غناءَها !
طَعِمْنا ، وشربْنا
حتى استكانتْ بين ذراعَيَّ .

وخلفَ ستائرِها المطرّزةِ باللوتس
كيف لي أن أرفضَ إغراءَها ؟

الهبوط من الجبل

حينَ هبطتُ ، عشيّةً ، من جبل الزمرّدِ ،
رافقَني القمرُ ، طوال الطريقِ .
تلَفّتُّ خلفي ، لأرى الأعالي تتّقدُ
بضوءٍ شاحبٍ يلتمعُ غريباً .

صبيٌّ صغيرٌ سحبَ المزلاجَ الصديءَ
ونحن في سبيلِنا إلى كوخك ، يداً بيدٍ
حيثُ فروعٌ خُضرٌ تتعلّقُ  بأقبائِنا
وخيزرانٌ معتمٌ يتدلّى على الممرِّ الظليل .

وهتفتُ فرِحاً : هنا مَقِيلُنا .
ثم كرعْنا خموراً رفيعةً ،
وغنّينا : " الريحُ بين الصنوبرِ " ،
حتى تعلّقتْ نجومٌ شاحبةٌ في المجرّةِ .

كنتَ ، يا صديقي ، مرِحاً .
وكنتُ ، أنا ، سكرانَ .
والعالَمُ يمرُّ  ، منتشياً .

مُفيقاً  من منام السكرانِ في يوم ربيع

الحياةُ حلْمٌ ، فلا تتحرّكْ .
لقد تذكّرتُ هذا ، فسكرْتُ طوالَ اليومِ .
اتمدّدُ  ، خائراً ، عند الرواقِ ،
وأفيقُ لأرى البستانَ الغميقَ .
طائرٌ وحيدٌ  يغرِّدُ بين الزهور .
أتساءلُ : أيّ فصلٍ أنا فيه ؟
أسمعُ الطائرَ الصافرَ في نسيمِ الربيعِ .
أصواتُ الجمالِ تُشجيني .
هل من خمرٍ ؟ آهِ ، املأ الكأسَ .
غنِّ ، وارقب القمرَ الأبيضَ يطلُعُ ،
حتى تنتهي الأغنيةُ
ويذهبُ الحِجا ...


خمرٌ

أشربُ
يقظانَ ، مأخوذاً بالليلِ.
البتَلاتُ تَسّاقَطُ .
أنهضُ لأتبعَ القمرَ الأبيضَ في الجدولِ .
لا هجْسَ من طيرٍ .
والبشرُ مضَوا .

أبياتٌ إلى تاوِيٍّ خبيرٍ

صديقي ، يسكنُ في الأعالي ، على " الجبل الشرقيّ " .
وهو ، بطبعِهِ ، يهوى التلالَ والمضائقَ ز
في الربيع الأخضرِ ، ينامُ في غابةٍ غيرِ مأهولةٍ ،
ويظلُّ نائماً فيها حتى تشتدَّ شمسُ الظهيرةِ .
ريحُ شجرةِ الصنوبرِ ترشُّ غبارَها على شَعرهِ .
والجداولُ ذواتُ الحصا تُطَهِّرُ مَشاعرَه .
هو يرتاحُ على إسفينٍ من الغيمِ والضبابِ ،
طليقاً من كل صوتٍ أو توتُّرٍ .


رسالةُ مَنْفِيٍّ
" إلى يُوان "

أتذكرُ كيف بنى لنا " تونْغْ " ، مأوىً نشربُ فيه  ،
في " لُو- يانْغْ " إلى الجنوبِ من جسرِ " تْيَنْ شِيْنْغْ " ؟
اليشَبُ الأبيضُ  والذهبُ يأتيانِ بالأغاني والضحكاتِ .
نحن شرِبْنا ، ناسين البلاطَ والأمراءَ .
أولئك الذين بيننا ، هم ذوو الحكمةِ والشجاعةِ
في كل هذا الطرَفِ من الأنهارِ والمحيطاتِ ،
القلوبُ عامرةٌ ، كالغيوم ، وأنا وأنت ، معاً
لانعبأُ باجتيازِ البحيراتِ والجبالِ ...
كلُّ همِّنا أن نتبادلَ أفكارَنا وأحاسيسَنا .

ثم مضَيتُ انا ، إلى الجنوبِ الشرقيّ ،  كي أقطعَ الغارَ
وأنتَ مضَيتَ شمالَ " نهر لُو " ، مدوَّخاً بأحلامِكَ .
لا فرحةَ في الفراقِ .
وسَرعانَ ما عُدْنا إلى الجبالِ ،
عبرَ الإستداراتِ الستِّ والثلاثين للوادي ،
عندَ جداولَ متألِّقةٍ بآلافِ الأزهارِ
عندَ مياهٍ لا نهايةَ لها ،
ونحن نسمعُ أشجارَ الصنوبرِ تتنهّدُ .
حتى التقَينا حاكمَ " هانْغْ - تونْغْ "
وهو على سرْجٍ من ذهبٍ وفضّةٍ . ،
أمّا " هُوْ"  ، التاويُّ الحقُّ ، فقد سلبَنا  بعزفهِ
موسيقى غير َ أرضيّةٍ ، على البُرجِ العالي ،
أصواتٌ غريبةٌ من طائرَيْ فينيقٍ يتحابّانِ .
 أردانُ الحاكمِ تضْبِطُ  إيقاعَ الموسيقى ،
حتى لقد وقفَ ، سكرانَ ،  ورقصَ قليلاً
وجاءَ بمعطفِهِ المطرّزِ ، ليغطّيني .
ولقد نمتُ ، ورأسي في حِضْنِهِ .
نهاراً ، بلغتْ أفئدتُنا السماواتِ التسعَ ،
ومساءً ، تفرَّقْنا ، مثل نجومٍ تأفُلُ ، أو كالمطر ،
أنا إلى الجبلِ البعيدِ ، عبرَ التلالِ والأمواهِ ،
وأنتَ إلى بيتِكَ عند جسرِ " وِيْ " .

ذاكَ الشتاءَ ، أقصدُ " المدينةَ الشماليّةَ " لأبيكَ ،
لقد أحببْتُكَ لأنكَ شرَّفتَني هكذا ،
وشاركتَني ثروتَكَ ، بلا تردُّدٍ .
الخمرُ هناك ، في أقداحِ عنبرٍ ،
الطعامُ هناكَ ، في أطباقٍ من يَشَبٍ .
طَعِمْتُ وشرِبْتُ ، غيرَ مفكِّرٍ بالإيابِ .
مضَينا غرباً . النهرُ يتفرّعُ هناك
حول المعبدِ العتيقِ لأميرِ شُوْ .
الزوارقُ على الماءِ مع طبولٍ وأبواقٍ .
أسَلٌ في خضرةِ اليشَبِ ، أمواجٌ من صَدضفِ التنّينِ .
شرِبْنا وشربنا ، عشْنا اللحظاتِ العابرةَ ،
ناسِينَ كيف تمضي مثلَ أكمامِ الزهرِ ، أو نثيرِ الثلجِ .
الفتَياتُ ، متورِّداتٍ بالخمرِ
دافئاتٍ في ألَقِ الغروبِ
والبحيرةُ العميقةُ مائةَ قَدمٍ تعكسُ الوجوهَ المتألِّقةَ ،
كانت الفتياتُ الراقصاتُ ، رشيقاتٍ ، كالصفصافِ في ضوءِ القمرِ.
الأنغامُ تضيعُ في رفرفةِ الأردانِ الحريرِ .
نسمةٌ بيضاءُ ذهبَتْ بأغنيتِهُنَّ إلى السماءِ
متموِّجةً في الهواءِ
متمايلةً مع دروبِ السحابِ .
أبداً
أبداً
ليس من فرَحٍ كهذا .

مضَيت ، مُغَرِّباً ، بلا جدوى ...
وبعد أن اشتعلَ رأسي شَيباً ، عُدتُ إلى التلالِ الشرقيّة ،
والتقَينا
ثانيةً
جنوبَ " جسرِ وِيْ " .
وافترقْنا ، ثانيةً ، شمال شُرفةِ "تْسـوْ " .
إنْ سألتَني عن مشاعري آنَ الفراق
فقد كانت ، في داخلي ، مثل أزهارِ ربيعٍ تتساقَطُ .
لا سبيلَ إلى القلبِ ، أبداً .

أستدعي الصبيَّ
أسألُهُ أن ينحني هنا ،
أن يعقدَ هذه ، صُرّةً ،
لأرسلَها عبرَ آلافِ الأميالِ .


الدرْجاتُ اليَشَبُ تشكو

على درْجاتِ اليَشَبِ بياضٌ من الندى
يبلِّلُ ، عميقاً ، صندلَ الحريرِ .
أنزلَتْ ستارةَ البلّورِ ،
لتتملّى ، من خللِ السِتْرِ الشفيفِ
قمرَ الخريفِ .

حنـينٌ

الزهورُ تبكي ، مُضَبَّبَةً ، آنَ الضوءُ يَخْفتُ .
قمرٌ من حريرٍ أبيضَ
يظلُّ سهرانَ ، منتحباً .
جناحا فينيقٍ هامدانِ
لـمَسا أوتارَ الماندارين .

هذه الأغنيةُ تُحَدّثُ عن أسرارٍ لا يعرفُها أحدٌ
وهي تمضي ، بعيداً ، إلى " ينْجان " على نسيمِ الربيعِ
إنها تطيرُ إليكَ
عبْرَ سماواتِ الليلِ .

عينانِ منحرفتانِ
تفيضانِ ، الآنَ ، دمعاً !
وجَعُ قلْبٍ ؟
تعالَ انظُرْ -
في هذه المرآةِ
معي .


جبلُ لُو  في كْيانغسِي
" مقامٌ تاويٌّ مقدّس "

صعدتُ ، غرباً ، " قمّةَ غيمةِ البخورِ " .
في الأسفلِ ، أرى الـمَساقِطَ مترَعةً بالرذاذِ .
هابطةً عشرةَ آلافِ قدمٍ
هادرةً في مائة مضيقٍ .
فجأةً ... كأنّ البرقَ يومِضُ ،
وكأنّ أقواسَ قُزَحٍ تَصّاعَدُ .
حتى حسِبْتُ المجرّةَ غدتْ هشيماً
ناثرةً النجومَ ، عبرَ الغيمِ ، إلى أسفل .

في الأعالي ،
الطبيعةُ في أشدِّ قُواها .
الرياحُ الكونيّةُ تهبُّ هناك ، بلا هوادةٍ .
وقمرُ النهرِ يُرَجّعُ النورَ
في سَوْراتٍ يندفعُ فيها الماءُ.
من الصوبَينِ تغتسلُ الجدرانُ
بجداولَ من لؤلؤٍ منثورٍ ضَباباً ،
بغيومِ زبَدٍ ، بيضاءَ على الصخورِ .

دعني ، أبلغ " التلالَ الساميةَ "
حيثُ يطمئنُّ القلبُ .
لن أطلبَ الكأسَ السحريّةَ .
سأغسِلُ الترابَ عن وجهي ، هناكَ
وأعيشُ في هذه الـمَرابِعِ التي أُحِبُّ ،
معتزِلاً عالَمَ البشَر .ـ

إلى زوجتي على جبل " لو- شان "

إنْ زرتِ الراهبة " صاعدة الهواء "
فلْتكوني قربَ منزلِها في تلك التلالِ الزُّرقِ .
بَطْشُ النهرِ يسحقُ  حَجر الـمَيْكةِ ،
والريحُ تُذَرِّي أزهارَ الغارِ .
إنْ وجدتِ الـمَثابةَ ، فلن تغادريها .
ادعوني هناك ، لأرى نارَ المغِيبِ .

الوصولُ إلى الصومعةِ

عشيّةً هبطتُ من الجبلِ ، والقمرُ يرافقني .
انظرُ ورائي ، فأرى مَسالِكي
زُرْقاً الآن ، زرقاً عند خطّ السماءِ .
أنتَ تُحَيّيني ، تدلُّني على الدربِ الخفِيِّ .
متعرِّشاتٌ تلمُسُ ثيابَ المسافرِ .
وددتُ لو أستريحُ في موضعٍ ،
فتشاركُني نبيذاً  نستمتعُ به .
الريحُ في الصنوبرِ ... حتى تتلاشى الأصواتُ .
والأغاني ... حتى يشحبَ محيطُ السماءِ .
أنا أسكرُ
وأنتَ سعيدٌ .
كلانا مرتاحٌ لنسيانِ العالَمِ .

رِحلةٌ صعبةٌ

جِرارٌ بلونِ الذهبِ . أنبذةٌ غاليةٌ .
أطباقٌ يَشَبٌ . أطعمةٌ غاليةٌ .
أرمي بعيدانِ الأكلِ .
لا طعمَ للطعامِ والشرابِ .
استَلُّ سيفي السحريَّ ،
وذهني المشوَّشُ ينظرُ حولي ،
أرى الثلجَ يسُدُّ  " النهرَ الأصفرَ " ،
وأُحِسُّ بالثلجِ الـمُسّاقِطِ يكسو جبالَ " تاي - هانغ " .
أهدأُ ،  فأهبِطُ إلى مياهٍ معتمةٍ ،
وألقى القاربَ النحيلَ الذي سينجرفُ نحو الشمسِ .
رحلةٌ صعبةٌ . دروبٌ متشعبةٌ .
استدارةٌ بعد استدارةٍ . أين أنا ؟
أنسامٌ طريّةٌ تُسَوِّي الموجَ أمامي .
سأنشرُ أشرعةً من غيمٍ
وأعبرُ إلى الأفقِ الأزرقِ .

قاتَلْنا عند " جنوبِ الأسوارِ"
و قُتِلْنا عند " شمالِ الأسوارِ "  - لحنٌ قديمٌ

قاتَلْنا من أجلِ " منابع التوت " .
ونموتُ من أجلِ " نهرِ الثومِ " .
نغسلُ سيوفَنا في " البحارِ البارثيّةِ " .
ونعلفُ مطايانا ثلوجَ " تيَنْ - شان " .
آلاف الأميالِ ، جيئةً وذهاباً .
الجيوشُ الثلاثةُ منهَكةٌ ، شائخةٌ .
هؤلاء " الهون " يقتلون ولا يحرثون .
يبذرون عظاماً في رمال الصحراءِ .
" تْشِن" بنى السورَ العظيمَ
" هانْ " أوقدَ النيرانَ على رؤوسِ الجبالِ .
هذه النيرانُ لن تنطفيءَ .
هذه الحروبُ لن تنتهي .
نشتبكُ بالأيدي ، ونفشلُ .
الجيادُ تصهلُ ، فيبلغُ صهيلُها السماواتِ .
الجوارحُ والغربانُ تأكلُ لحمَنا .
تحِطُّ على أشجارٍ ميتةٍ ، مع موتانا .
لقد صبغْنا العشبَ ، أحمرَ
لأنّ لقائدِنا خطّةً .
أقولُ : السيفُ  شـرٌّ .
والحكيمُ مَنْ أبعَدَهُ عن يدِهِ .


أفكارٌ في رِحلةٍ ليليّةٍ

الأعشابُ تميلُ في نسيمٍ خفيفٍ .
وصاريةُ القاربِ عاليةٌ في الليلِ الخاوي .
نورُ النجومِ يشِعُّ عند السهلِ ،
والقمرُ يطفو على نورِ النهرِ .
هذه ، كلُّها ، كتابةٌ . لكنْ ... بلا إسمٍ .
الداءُ
والأعوامُ ...
ما أنا ؟
طيرٌ أبيضُ عبر الأرضِ والسماءِ .

الربيعُ في " شانْغْ - آن "

الدوَلُ المنهارةُ ، ما زالت ذاتَ تلالٍ وأنهارٍ .
والمُدُنُ في الربيعِ ، ذاتُ ورَقٍ وعُشبٍ .
بالرغمِ من دموعِ الزهورِ نصفِ المتفتّحةِ
بالرغمِ من استيقاظِ الطيورِ وهي تُسِرُّ مخاوفَها ،
نيرانُ الحربِ تتّقدُ عبر أقمارٍ مثلّثةٍ .
اخبارُ البلدِ أثمنُ من الذهبِ .
الشَّعرُ يشيبُ عند كل كارثةٍ ،
خفيفاً على رأسٍ صغيرٍ تحت قبّعتِهِ .

القمرُ في " شانْغْ - آن"

إلى الشمالِ من هنا ، وفي ضوءِ القمرِ
هي ، أيضاً ، ترفعُ بَصَرَها ، وحيدةً .
أنا حزينٌ لأطفالي ،
إنهم أصغرُ من أن يفكِّروا بـ "شانْغْ - آنْ " البعيدةِ .
سحابةُ شَعْرٍ رَطْبٍ في ضَبابٍ مُجوهَرٍ .
ضوءٌ باردٌ على ذراعَينِ من يَشَبٍ .
متى نستطيع ، نحن الإثنَين ، أن نُحرّكَ ستائرَ الحريرِ
بينما قمرٌ واحدٌ يُبْدي مُجرى الدمعِ ؟

بالاد عرَباتِ الحربِ

قرقعةُ عرباتٍ ، صهيلُ خيلٍ .
الجميعُ ذوو سلاحٍ .
الزوجاتُ والأطفالُ يركضون معهم .
الأمّهاتُ ، الآباءُ ، ينظرون
حتى يختفي رأسُ الجسرِ في الغبارِ .

يمسكون بالأردانِ ، يمسكون بها ، ويبكون .
العويلُ يتعالى حتى الغيومِ السودِ .
فإنْ تساءلَ متسائلٌ
جاء الجوابُ : نحن الـمُجَنَّدون .
في الخامسةَ عشرةَ نحرسُ النهرَ الأصفرَ ،
في الأربعين ، نكِدُّ لنُطعِمَ الجيشَ .
فتيّاً ، العريفُ يعْقِدُ لفاعَكَ .
شيخاً ، أنت للحدودِ ،
حيثُ الدمُ يُهْرَقُ كالمطر ،
وحيثُ " الهانُ " يريدون المزيدَ  .

في الشرقِ ، مائتا مَرْبَعٍ
حيثُ ألفُ مزرعةٍ مهمَلة .
ومع أنّ نسوةً قويّاتٍ يسحبْنَ المحراثَ الآن
فالشرقُ والغربُ أخاديدُ زائلةٌ .
نحن الذين خُضْنا أقسى المعاركِ
نُقادُ كالكلابِ أو الماشيةِ .
تعلّمْنا أن الأبناءَ أنباءُ سيّئةٌ ،
البناتُ خيرٌ لنا ،
البناتُ اللائي سيتزوّجْنَ ، حيثُ هُنَّ ،
بينما الإبنُ ، قتيلٌ أو فطيسةٌ .

عند " كوكونور " ،  وعلى امتدادِ الشاطيء
عظامٌ بِيضٌ لا يدفنُها أحدٌ .
أشباحٌ جديدةٌ تُعْوِلُ مع مَن سبِقَها ،
والغيومُ السودُ تتجمّعُ للعويلِ .

زائر

شمالاً
جنوباً
أمواهُ الربيعِ .
عصائبُ نوارسَ  ، فقط ، تطيرُ كلَّ يومٍ .
الممرُّ  المغطّى بالأزهارِ ، لم يُكنَسْ ، بَعدُ  ، للضيوفِ.
بوّابةُ الصفصافِ ، فُتِحَتْ ، أوّلاً ، لكَ .
الطعامُ بسيطٌ .نحن ناؤونَ عن المدينةِ .
وفي هذا المنزلِ الفقيرِ ، ليس سوى خمرةِ رُزٍّ رديئةِ الطعمِ ز
إنْ أردتَ ، فبإمكاني أن أدعوكض ، عبرَ السياجِ .
فأشربَ الخمرةَ مع جارٍ قديمٍ .

إلى الجنرال هْوا

طيلةَ اليومِ ، في " شِيْنغْ- تو "
اوتارُ الـمَزاهرِ
ومَزامِرُ القصبِ .
موسيقى ...
نِصفُها ، ضائعٌ في الغيمِ .
نصفُها  ، ضائعٌ في الماءِ .
لكنّ اغنيةً كهذه
هي للسماواتِ العُلى .
كيفَ لامريءٍ عاديٍّ أن يسمعها ؟


إلى وِي با

نحن نادراً ما نلتقي ...
مثل تلك النجومِ في سُدُمِها .
هذه الأمسيةُ ... أيُّ أُمسيةٍ !
نحن نشتركُ في الشمعةِ التي ترتجفُ .
الفتوّةُ ، والعنفوانُ ، يمضيانِ سريعاً .
شَعْرُ الرأسِ ابْيَضَّ .
ونِصْفُ مَن عرفناهم ماتوا .
كم مكؤلمةٌ هذه الذكرى !
مَن كان يظنُّ ، بعد عشرين عاماً
أنّ بيتَكَ سيشهَدُ عودتي ؟
أنت لم تكنْ تزوّجتَ ، آنَ التقَينا آخرَ مرّةٍ .
والآن ... فجأةً : أبناءٌ وبناتٌ
يأتون مبتهجينَ ليرحِّبوا بصديقِ أبيهم .
وبدأوا يسألون من أين أتيتُ .
لكنّ الكلامَ تَوَقّفَ .
لقد أرسلتَهم ليقتلعوا بَصَلاً أخضرَ في المطرِ
ويطبخوه مع دُخْنٍ أصفرَ .
تقول لي :
 "نعم ... نحن نلتقي نادراً "
وتملأ قدحي عشرَ مرّاتٍ .
عشرَ مرّاتٍ ، لكني لم أسكَرْ ، بَعدُ .
خلَجاتُ الصداقةِ العميقةِ تُفْعِمُني .
غداً ...
تُفَرِّقُنا الجبالُ العاليةُ ،
ضائعَينِ ، ثانيةً ، في العالَم .

من " تو فو " إلى تاو "شِين " عبر القرون

ذهبَتْ ، في خطفةٍ ، الزهورُ البهيجةُ .
وما دمتُ شيخاً ، كيف لي أن أرجو بقاءَها ؟
لِمَ لا يعودُ الزمنُ إلى أيامِ صِبانا ؟
حين تشربُ : يتحرّرُ ذِهنُكَ .
حين تكتبُ : يتفتّحُ فؤادُكَ .
ايها التاو ...
سنلتقي في هذه الفكرةِ ،
مع أننا لن نلتقي في الزمن .

عالياً ظامئاً على اليانغتسي

ريحٌ عاتيةٌ .
سُحثبٌ عاليةٌ .
مضيقٌ إثرَ مضيقٍ .
القرودُ تتصايحُ .
وعلى رملِ جزيرةِ النهرِ
تَنْقَضُّ الطيورُ وتحِطُّ .
الأوراقُ تَسّاقَطُ في كل مكانٍ .
والورقُ اليابسُ له حفيفٌ .
أمواجٌ داكنةٌ
وهديرٌ  لا ينتهي .
ميلٌ بعد ميلٍ من نورِ الخريفِ ،
مثل هذه الرِحلةِ .
أرتقي ، وحيداً ، عليلاً
الشرفةَ المضيئةَ .
نداماتُ الحياةِ وإخفاقاتُها
تتجمّدُ على جبهتي .
لم يَعُدْ لي من جسدٍ
يحملُني إلى حيثُ تؤدِّي الخمرُ .

اليانغتسي

بعد مطرِ الليلِ
سماءٌ خريفيّةٌ .
على الموجِ الساطعِ ، ألَقُ النجومِ .
محيطُ السماءِ ، أبيضُ ، أبداً .
امواجُ اليانغتسي تصفو ، لحظةً .
قلادةً منتثرةً
لآليء مرايا .
السماءُ زجاجٌ بلغَ الكمالَ .
الشفَقُ الشاحبُ على القِباءِ الذي يَقْطُرُ ...
يُعْتِمُ ،
بينما الندى يُثْقِلُ الأزهارَ .

صعودُ بُرج يويانغ

صعدْنا بُرجَ يويانغ
والمشهدُ كلُّه يتبدّى .
نُصَعِّدُ البصرَ إلى النهر العظيمِ
فنرى القواربَ تستديرُ
لتدخلَ بُحيرةَ تَنْغتِنْغْ ؛
الوزُّ يصيحُ موَدِّعاً النهرَ
وهو يطيرُ جنوباً .
المساءُ يهبطُ ، كأنّ قمم الجبالِ تريدُ بلوغَ القمر
بشفاهِها .
ونحن في بُرجِ يويانغ ، كأن رؤوسَنا في السحابِ ،
نحتسي الخمرةَ ، كأن كؤوسَها هبطتْ من السماءِ  ؛
وبعد أن تعتَعَنا الشرابُ ،
هبّتْ ريحٌ باردةٌ ملأتْ أردانَنا ،
حتى لَكأننا كنّا نرقصُ معها .


تَفَكُّرٌ  في ليلٍ هاديءٍ

منحرفاً في فراشي
أرقبُ شعاعَ القمرِ
سبيلاً
ألِقاً ، بارداً ، رقيقاً
حتى كأنه يومِضُ
كالصقيعِ على حاشيةِ أحلامي .
أرفعُ رأسي -
أرى القمرَ العجيبَ .
أخْفِضُ رأسي ،
لأغرقَ في أحلامٍ عنكَ -
عنكَ ، يا وطني .
عنكَ !

شلاّلٌ في لو - شان

نورُ الشمسِ يسيلُ
على أحجارِ النهرِ .
ومن الأعالي
يتحدّرُ النهرُ  شديداً -
ثلاثة آلافِ قدمٍ من الماءِ الرقراقِ -
المجرّةُ تندلقُ من السماءِ .

وداعُ صديقٍ

الجبالُ الزُّرقُ ، وراء السور الشماليّ ،
وحول شرقيّ المدينةِ ، يسيلُ الماءُ الأبيضُ .
هنا ، نفترقُ ، أيها الصديقُ
مرّةً
وإلى الأبدِ .
أنتَ ، تمضي ، عشرةَ آلافِ ميلٍ ، بعيداً .
مثلَ عُشْبٍ مائيٍّ مقتلَعٍ ،
آهٍ للغيمِ المسافرِ
وهواجسِ الجوّابِ !
آهٍ ، للغروبِ ، وللحنينِ إلى صديقٍ قديمِ !
نُلَوِّحُ بأيدينا ،
بينما خيولُنا تصهلُ خفيفاً ...
تصهلُ .


الجبل الأخضر

تسألُني : لماذا تسكنُ الجبلَ الأخضرَ ؟
أصمتُ ، و لا أُجيبُ .
فأنا طليقُ القلبِ ...

عندما تطفو أزهارُ الخوخِ على الماءِ
ماضيةً إلى المجهولِ ،
فإن لي ، آنَها ، عالَماً
لا يعرفُهُ الناسُ .

قمرٌ على ممرٍّ جبليٍّ

قمرٌ ساطعٌ يَطْلُعُ  على جبل " تيانْ شانْ "
المكلَّلِ بمحيطٍ من الغيمِ .
الريحُ تهبُّ ، عبرَ آلافِ الأميالِ
تهبُّ عبرَ ممرِّ " بوّابةِ اليَشَبِ " .
جيشُ " الهان " مضى في طريقِ " بايتِنْغْ "
بينما قُطعانُ البرابرةِ تحاولُ خليجَ " كِنْغاي " .
قليلٌ هم العائدون من ساحةِ المعركةِ .
الجنودُ في الحاميةِ يتابعون مشهدَ الحدودِ
وهواجسُ البلدِ وآلامُها تُغَضِّنُ وجوهَهم .
وفي غُرُفاتِ الأبراجِ
الليلةَ
لا تنقطعُ تأوُّهاتُ النساءِ .

افتراقٌ في حانةٍ بـ " نان - كينْغْ "

ريحٌ آتيةٌ بهبابِ الصفصافِ
تُنعِشُ هواءَ الحانةِ ،
وساقيةٌ من " وو"  تسقيني
وتسألُني أن أُشاركَ أصدقائي من هذه المدينةِ
الذين جاؤوا يودِّعونني .
وبينما كان كلُّ واحدٍ منهم يُفْرِغُ كأسَه
كنتُ أقولُ له مُوَدِّعاً :
اذهَبْ إلى هذا النهرِ الذي يسيلُ شرقاً
واسألْهُ إنْ كان سيمضي أبعدَ من حُبِّ صديقٍ !

في أعالي النهرِ عند " سيشوان "

ترتفعُ المياهُ
مع هديرِ الرياحِ الأربعِ .
كيفَ لي أن ألقاها الآنَ ،
مُخاطِراً  ، عبرَ السيلِ ؟

العشبُ ينمو أخضرَ ، في الوادي
حيثُ ديدانُ القَزِّ تنسجُ  ، بصمتٍ .

يداها تصنعانِ خيوطاً لن تنتهي .
ومن الفجرِ
إلى الغسَقِ ،
حين يغنّي طائرُ الوقواقِ .
أغنيةُ الـكِـيـر

نارُ الكِيْرِ تتّقِدُ في السماواتِ ،
والمطْرقةُ تُرْعِدُ
وهي ترُشُّ الدخانَ بشَرارِها .
وجهُ القمرِ حدّادٌ متورِّدُ الوجهِ ،
والمطْرقةُ تطْرقُ ودياناً باردةً معْتمةً .

إلى طِفْلَيَّ

في أرضِ " وو" اخضَرَّ ورقُ التوتِ .
وللمرة الثالثةِ رقدتْ ديدانُ القَزِّ .
في شرقيّ " لُوه " حيثُ تُقيمُ عائلتي .
أتساءلُ : مَن يبْذرُ حقولَنا ، تلكَ ؟
لا أستطيعُ العودةَ إلى أشغالِ الربيعِ ،
وليس بإمكاني إسداءُ العونِ ، وأنا مسافرٌ على النهرِ .
ريحُ الجنوبِ تُذَرِّي حنيني
وتحملُه إلى واجهةِ حانتي الأليفةِ .
هناك ، أرى شجرةَ مشمشٍ ، على الجانب الشرقيّ من البيتِ ،
شجرةً ثخينةَ الأوراقِ
مائجةَ الأغصانِ في الضبابِ الأزرقِ .
إنها الشجرةُ التي زرعتُها ، منذُ سنينَ ثلاثٍ ، قبلَ ارتحالي .
شجرةُ المشمشِ
عاليةٌ الآنَ
عُلُوَّ سقفِ الحانةِ .
بينما أنا أُطَوِّفُ ، بلا عودةٍ .
" بِينْغْ يانْغْ " ، يا بُنَيّتي الجميلة
أراكِ واقفةً عند شجرةِ المشمشِ
تقطفين الزهورَ .
لكني لستُ هناكَ .
دموعُكِ تسيلُ مثل جدولٍ !

" بو شِنْ " ، يا طفلي الصغير
لقد صرتَ طويلاً
تُطاوِلُ كتِفَ أختِكَ .
أنت ، معها ، تحت شجرةِ المشمشِ .
لكنْ ، مَن هناكَ ، لِيُرَبِّتَ على ظَهرِكَ ؟

حين أُفَكِّرُ بهذه الأمورِ
تخْذِلُني قُواي .
ويُقَطِّعُ قلبي ، كلَّ يومٍ ، ألَمُ حادٌّ .

زيارة إلى تاويٍّ على جبل تيا تْيَنْ

بين جداولَ دافقةٍ
ينبحُ كلبٌ .
زهورُ الخوخِ تتفتّحُ ، مثقَلةً بالندى .
هنا  ، وهناك ، يبدو ظبيٌ في منفسَحاتِ الغابةِ  .
لا صوتَ للظهيرةِ .
الناقوسُ يدخلُ  هذا الفضاءَ
حيثُ يتعالى الضبابُ أزرقَ
من غَيضاتِ القصبِ .
ومن قمّةٍ عاليةٍ يتدلّى شلاّلٌ .

لا أحدَ يعرفُ أين مضى .

سأستريحُ ، حزيناً
مُسْنِداً ظَهري إلى صنوبرةٍ .

ثبْتُ القصائدــ

1- أغنية شانغ  ـ  غان
2- مجون على الجبل
3-تبرئة
4- عن تو ـ فو
5- وحيداً أنظرُ إلى القمر
6- وحيداً أشربُ تحت ضوء القمر
7-بين الزهور إبريق خمر
8- أغنية نهر الخريف
9-  الاغتسال
10- قبالة زِق خمر
11- هات الخمر ، هاتِها
12- شوانغ ـ تسو والفراشة
13- شينغ بينغ تياو
14- منفسح في الفجر
15- في الجبال
16- أتسلّق غرب قمة زهرة اللوتس
17- أشربُ وحيداً
18- اعتراف
19- الهبوط من الجبل
20- مفيقاً من منام السكران في يوم ربيع
21- خمر
22- أبيات إلى تاويّ خبير
23- رسالة منفيّ
24-الدرجات اليشب تشكو
25- حنين
26- جبل لو في كيانغسي
27- إلى زوةجتي على جبل لوـ شان
28- الوصول إلى الصومعة
29- رحلة صعبة
30 - قاتلنا عند جنوب الأسوار
31-  أفكار في رحلة ليليّة
32 - الربيع في شانغ ـ آن
33-  بالاد عربات الحرب
34 - زائر
35 -  إلى الجنرال هوا
36 - إلى وي با
37 - من تو فو إلى تاو " شين "
38 - عالياً ظامئاً على اليانغتسي
39 - اليانغتسي
40 - صعود بُرج يو يانغ
41 - تَفكُّر في ليل هاديء
42 - شلاّل في لو ـ شان
43 - وداع صديق
44 - الجبل الأخضر
45 - قمر على ممرّ جبليّ
46 - افتراق في حانة
47 - في أعالي النهر عند سيشوان
48 - أغنية الكير
49 -  إلى طفلَيّ
50 - زيارة إلى تاويّ على جبل تيا تيَنْ

اخر تحديث السبت, 12 شتنبر/أيلول 2015 12:21