عين السيكلوب طباعة

الضوء مطفأ داخل الشقة.
حين سمعت الدقّ على الباب، قدرت أن الساعة هي الثانية بعد منتصف الليل. في البلاد الأخرى يحرصون على الاحتفاظ بالمفتاح داخل الثقب، خشية أن يلاحظ من هو خارج المنزل، النورَ، من خلال ثقب المفتاح... أو خشية إدخال مفتاح مقلد من خارج الباب.
تستطيع أن تبقي النور مطفأ، وأن تعرف القادم الذي يطرق الباب، أو يضغط على زر الجرس الكهربائي، بمجرد النظر في >عين السيكلوب<، العين السحرية المثبتة في خشبة الباب، عدسة صغيرة مكبرة.
عندما تضع عينك على العدسة يبدو القادم من آخر الممر الخارجي ـ وغالباً ما يكون هذا الممر مضاءً ـ قميئاً، قصيراً، وما أن يخطو خطوة حتى يبدأ بالتعملق. فإذا قارب الباب اتسع وجهه، واتسع، حتى ليكاد يغطي المسافة بين جداري الممر كلها.
إن >عين السيكلوب< تقوم بدور سكرتير منزه عن الخطأ في استقبال الناس. الدق على الباب يزداد عنفاً.
غادرت فراشي، حافياً، لئلا يصدر مني أي صوت... لم أكن بحاجة إلى النظر من خلال >عين السيكلوب<، فقد كان صوت مدام داي يتعالى مصحوباً بدقاتها العنيفة

:
ـ أيها العراقي... أين ابنتي؟
إن ابنة مدام داي ليست معي في الشقة، ولا يمكن أن تكون معي، أو مع أي إنسان آخر، في مثل هذه الساعة المتأخرة. صحيح أنني أتبادل الحديث مع ابنتها، وأن ابنتها شابة غير دميمة، لكني لم استقبلها في شقتي مساء. ومدام داي تعرف الأمر معرفة تامة، إذ لا يفصل بين شقتها وشقتي سوى قاطع من الخشب المعاكس القابل للانهيار في أية لحظة تحت ضربات المدام، كما تعرف أيضاً أنني غادرت إلى وهران عصر اليوم. فقد شاهدتني هي وابنتها أدخل الحافلة المهيأة للانطلاق، بينما كانتا تقومان بجولتهما المعتادة من سينما فرساي إلى نُصب الفرقة الأجنبية، مارّتينِ بمقهى الاتحاد والنادي العسكري وبار الكاميرون ومنطلق الحافلات.
ـ أيها العراقي... أين ابنتي؟
وجه مدام داي المحتقن ممتلئ بغضون متضخمة. العدسة اليمنى من نظارتها الطبية ملتصقة بالباب مثل صحن شفاف وثقيل. دقات عنيفة أخرى. والوجه المتضخم يزداد احتقاناً، والغضون تزداد تضخماً. آه يا بنيتي. يا كلبة... الوجه يبتعد... يظهر الشعر الأبيض والملابس السود. تتحول مدام داي إلى دمية صغيرة متحركة ذات شعر أبيض وملابس سود... تختفي الدمية الشمطاء الصغيرة... عند أول درجة من درجات السلم الهابط.
ـ ما هذا؟ ما هذا؟
إنه صوت مدموازيل كرانديوم. لابد من أن عشيقها غادرها الليلة مبكراً... لا... إن الصوت المتميز لسيارته >البانار< الرمادية يفضح زيارة المساء المتأخر، ويمزق الصمت الليلي في شارع المدينة الصغيرة الرئيس، ثم يخف، ويخفت... حتى يتلاشى في هرير منتظم.
من عين السيكلوب أرى الشعر الأصفر المضطرب، والوجه الأصفر الرقيق لمدموازيل كرانديوم، وأعلى الروب الأصفر. إنها في وسط الممر الخارجي، تماماً تحت المصباح الكهربائي كما أقدر... عادت إلى الاستوديو الذي تسكنه، وهي لا تخفي تأففها. لم أسمع باب الاستوديو ينطبق.
الخطوات المسرعة القلقة تضرب درجات السلم الهابط إلى الطابق الأول، كانت كل ضربة منها أشبه باصطفاق حاد لقطعتين من اللوح الرقيق. الخطوات تتوقف فجأة... دقات عنيفة عصبية على باب آخر:
ـ أيها العراقي... أين ابنتي؟
هي، إذن، أمام باب >طارق<، العراقي الذي يسكن الاستوديو الأول في الطابق الأول.
إنه جاء البناية منذ أسبوع فقط. كان يعمل في قرية تبعد 19 كيلومتراً، ويقيم في محل عمله، وقد اشتغلت بنت مدام داي في القرية نفسها شهراً واحداً قبل أن تنقل إلى المدينة.
في الساعة العاشرة من مساء اليوم، وجدت باب استوديو طارق مفتوحاً زرته، وتحدثنا قليلاً. كان وجهه حليقاً بعناية، تفوح منه رائحة ماء الكولونيا. قال لي إنه آثر السكن هنا، على السكن في القرية، باعتبار أن المواصلات مضبوطة مريحة معتدلة التكاليف. سألته عن أنباء العراق، وعلاقته مع الفتيات. كان مستعجلاً في حديثه. مقتضب الإجابة، متلهفاً إلى شيء ما. أعطاني كيسين صغيرين يحتوي أحدهما على بهارات، وثانيهما على شاي أسود جاء به من العراق. قضيت معه حوالي نصف ساعة، ثم عدت إلى شقتي في الطابق الثاني.
ـ ما هذا يا مدام داي؟
الصوت يبلغني، رقيقاً، مليئاً، فيه شيء من الارتجاف اللذيذ. إنه صوت ماري تيريزا >ماريتا<. ابنة الحلاق الإسباني التي تعمل بائعة كتب في مكتبة مينو قرب المسرح البلدي. >ماريتا< في السابعة عشرة، فتاة مندفعة، قصيرة الشعر، عنيدة، ونشيطة.
في الاستوديو الذي يسكنه طارق الآن، كان يقيم بائع نظارات فرنسي من أصل إسباني. أرسل زوجته إلى فرنسا، وظل يقيم حفلات رقص صاخبة حتى الصباح. مصفياً محل النظارات. قطعة قطعة، حتى غادر هو الآخر إلى فرنسا، دون أن يدفع إيجار الاستوديو لمدة ثلاثة أشهر، وكانت >ماريتا< ترقص وتغني في هذا الاستوديو إلى ساعات الصباح الأولى... بعد سفره ظلت نائمة في فراشها أسبوعاً... كانت متعبة.
ـ مسكينة مدام داي...
إنها >ماريتا< أيضاً.
مدام داي مسكينة فعلاً. كان اسمها فاطمة، جاءت إلى هذه المدينة من ولاية >الأصنام<، مع ابنة عم لها. كانتا تعملان ساقيتي خمر. ابنة عمها عاشرت تاجراً صغيراً وتركت العمل في الحانات. أما هي فقد تعلق بها نائب عريف فرنسي من الفرقة الأجنبية. رافقته في مراكش، وكازبلانكا، والسنغال، وتونس، والأغواط على حدود الصحراء الكبرى. ولم يتزوجا إلا بعد ثماني سنوات. وحين تقاعد من الجيش أعطي وظيفة مدنية جيدة. لم ينجبا. هذه البنت هي ابنة أخيها. جاءت بها من الأصنام وهي في الرابعة، ربتها، وأدخلتها المدرسة، وحين مات المسيو داي، عاشتا، معاً، على تقاعد متواضع، حتى أتمت البنت دراستها، وبدأت تعمل. مدام داي تصوم، وتفكر بالذهاب إلى مكة... إنها تريد أن يتوافر لها المال الكافي للحج، وهي تتمنى لبنيتها زواجاً سليماً. عندما خُيرت مدام داي بين الجنسية الفرنسية وجنسية وطنها، بعد الاستقلال، اختارت وطنها، بالرغم من أنها لا تتحدث إلا بالفرنسية ولا تختلط إلا مع بقايا الفرنسيين والإسبان هنا. وبالرغم من أن تخصيصاتها التقاعدية في فرنسا سوف تكون أكثر.
مرة أرتني صورة زوجها، كانت صورة قهوائية ثخينة لجندي شاب نحيل في خيمة. قالت إنه أرسل هذه الصورة من مراكش. وأرتني بعدها صورة ثانية لزوجها. كان موظفاً سميناً في مؤسسة تأمين. قالت إنه مات بالسكتة القلبية، وإنه ظل يردد اسم ابنتها طيلة احتضاره.
ـ لا أحد يجيب.
الصوت المنكسر لمدام داي مرة أخرى، وأسمع خطواتها أقل نشاطاً، وهي تصعد السلم إلى الطابق الثاني، إنها تبدو الآن من خلل عين السيكلوب، دمية ضئيلة لعجوز ملفعة بالسواد تتجه إلى باب شقتي، متضخمة في كل خطوة تخطوها.
ـ لقد هرب العراقي. لقد هرب بحقيبته...
صوت >ماريتا< يرن رنين أجراس فضة في ممرات البناية. الدمية الملفعة بالسواد تتوقف في منتصف الطريق إلى شقتي، تماماً، تحت المصباح، وتبدو مكشوفة بشكل مؤلم. لي... ولعيني مدموازيل كرانديوم، الواقفة، حتماً، الآن، خلف الباب الموارب.
الدمية السوداء تعود متضائلة باستمرار. إلى أول السلم.
ـ أيتها القحبة!
الدمية السوداء تمسك بشعر دمية أخرى. بشعر ابنة مدام داي، وتجرها من شعرها جراً إلى وسط الممر، نحو باب شقة مدام داي المفتوح . الدمية السوداء تتضخم، والدمية الأخرى تتضخم...
ابنة مدام داي، مهدلة الشعر، عارية، إلا من روب أبيض مزين بأزهار وردية.
ـ اسكتي وإلا انتحرت.
ـ أيتها القحبة!
أفلتت البنت من قبضة مدام داي المرتعشة، وأسرعت وهي تقفز، نحو المصعد.
ـ سوف ألقي بنفسي من سطح العمارة.
ـ أيتها القحبة!
الدمية السوداء الصغيرة تتجه نحو السلم الهابط.
ـ مدام داي... إلى أين تذهبين في هذا الليل؟
إنه صوت >ماريتا<.
في العمارة، كل شيء صامت. لكن كل شيء منتبه. أقل نأمة تفتح كل العيون، وراء كل الأبواب.
ربع ساعة من الصمت.
سيارة تتوقف، عند مدخل العمارة كما أقدر.
وقع أقدام كثيرة على السلالم. دمى عديدة تدخل الواحدة بعد الأخرى، المجال المنظور من الممر، وهي ترتدي ملابس الشرطة الزرق، وملابس مدنية أيضاً ـ تتضخم الدمى، ويظهر من بينها ضابط شرطة، قد يكون القوميسار نفسه، الذي قد يكون القوميسار يوجه عدداً من رجال الشرطة بإشارة من يده إلى المصعد. يتقدم، تتخذ ملامحه شيئاً فشيئاً وضعها الطبيعي. يتحدث مع مدام داي، ثم يدخل معها الشقة التي ظل بابها مفتوحاً منذ ساعات تقريباً.
الدمى التي ترتدي ملابس الشرطة الزرق والملابس المدنية أيضاً، تخرج من باب المصعد.
أحدهم، وهو الذي يرتدي معطفاً من التركال الخفيف الأسود، يمسك بيد ابنة مدام داي.
وجه الابنة، وهو يتضح في المجال المنظور لعين السيكلوب، يبدو محتقناً، مخموشا عدة خمشات. أما هي فمنقادة انقياداً مستسلماً إلى يد الرجل ذي معطف التركال الخفيف الأسود.
رجال الشرطة يغادرون، عن طريق السلم.
الذي قد يكون القوميسار يغادر عن طريق المصعد.
السيارة عند مدخل العمارة تتحرك مبتعدة، بينما يعود الصمت القلق إلى الممرات والغرف.
مدموازيل كرانديوم تحكم إغلاق الباب.
>ماريتا< في الطابق الأول تدندن أغنية عن الحب، وتطبق الباب أيضاً.
أنا أبتعد عن الباب، وعين السيكلوب، وأدخل الحجرة التي لا يفصلها عن شقة مدام داي سوى قاطع من الخشب المعاكس، ثم اجلس لصق هذا القاطع.
قال الرجل ذو المعطف: مدام. أرجو أن تتركينا وحدنا.
لم اسمع رد مدام داي.
قال الرجل ذو المعطف: هل نزلتِ أنتِ إليه؟
قالت البنت: نعم.
هل نالكِ؟
ـ لا.
ـ هل كنتِ على موعد معه؟
ـ نعم.
في هذه الليلة؟
ـ نعم.
في هذه الليلة، عادت البنت مع أمها، بعد جولتهما اليومية المعتادة. إن البنت لا تخرج إلى شوارع المدينة، ومخازنها، إلا رفقة أمها. الشباب يمرون بهما. يلقون نظرة على البنت، ونظرة أخرى على الأم، ثم تلتقط نظراتهم فتاة أخرى تتمشى وحيدة، أو فتيات أخريات يتمشين معاً متضاحكات.
إنهما تعودان إلى الشقة الضيقة مع الغروب دائماً. ومع الغروب تكون الشوارع الخليفة، وسيقان الأشجار الضخمة في شارع >المقطع< أعشاش حب متناثرة متقاربة.
السنوات تمر. والجولة اليومية تستمر، السنوات تمر. والشوارع الخلفية وسيقان الأشجار تستضيف عشاقاً جدداً يتزوجون أو لا يتزوجون.
السنوات تمر، والبنت تمر مع أمها كل يوم. إنها لم تتوقف مساء ما في ركن معتم من شارع خلفي، أو وراء ساق شجرة... في هذه الليلة سوف تتوقف طويلاً في استوديو العراقي.
قد يكونان اتفقا على الموعد في القرية، أو في الحافلة العائدة منها. إن البنت ما تزال تأخذ راتبها من مدرستها السابقة في القرية.
قال الرجل ذو المعطف: وأمكِ؟
قالت البنت: كانت نائمة.
شقتها الصغيرة، ذات غرفتين ودوش فقط، ودون مطبخ. البنت تنام في الغرفة القريبة من الباب. أما الأم فتنام في الغرفة الداخلية الملاصقة لشقتي.
كل ليلة تغلق الأم باب الشقة، وتحتفظ بالمفتاح تحت رأسها، وتضع طاولة الطبخ، وطباخ الغاز وراء الباب، قبل أن تدلف إلى غرفتها الداخلية، وتنام نوماً غير عميق.
إنهما تعيشان وحيدتين. أقرباؤهما في ولاية >الأصنام< البعيدة لا يزورونهما أبداً. والناس في هذه المدينة يعتبرونهما غريبتين: الأم كانت متزوجة من فرنسي في الفرقة الأجنبية، والبنت لا يعرفون بالضبط من تكون. فأبوها وأمها يعيشان في >الأصنام< البعيدة. ومن يدري من يكونان هما أيضاً.
لم يدخل شقتهما رجل من المدينة منذ موت المسيو داي. والأمّ مقتنعة بأن دخول رجل أو فتى شقتها، أمر غير مقبول، ولا سليم، فهما امرأتان وحيدتان غريبتان عن هذه المدينة نوعاً ما، رغم السنوات الثلاثين التي قضتها الأم هنا.
البنت في فراشها القريب من الباب تنتظر أن تنام أمها. والفتى في الطابق الأول ينتظر الخطى الخفية.
قال الرجل ذو المعطف: كم حبة منوم تناولتْ؟
قالت البنت: حبتين.
ـ هل اعتادت تناول هذه الكمية؟
ـ لا.
ـ إذن... لماذا أخذتْ حبتين؟
....
حوالي الحادية عشرة، تنصرف الأمّ إلى غرفتها لتنام. وتظل البنت تستمع إلى إذاعة مونت كارلو، وقد تقوم في الوقت نفسه بإعداد أعمالها المدرسية.
ربما لم تنم الأم سريعاً. ربما شعرت بأنها ستكون الليلة فريسة أرق مرهق...
إنها تحتفظ دائماً بزجاجة صغيرة للحبوب المنومة. والبنت هي التي تأتي لها عادة، بالحبة، وكأس الماء.
ربما شكت الأم أرقها.
إن الفتى في الطابق الأول ينتظر الخطى الخفية.
حبتين بدل حبة واحدة...
سيكون النوم عميقاً، مريحاً... وسوف تكون الانفاس هادئة مستسلمة، داعية إلى الاطمئنان.
سوف تستطيع البنت، آنذاك، أن تستل المفتاح، من تحت رأس أمها، دون وجل، وأن تبعد طاولة الطبخ وطباخ الغاز من وراء الباب، غير آبهة بالصرير الذي قد لا يمكنها تجنبه، أثناء تحريكها الطاولة والطباخ... وسوف يكون باستطاعتها أن تدير المفتاح، وتفتح باب الشقة، بثقة شبه تامة.
قال الرجل ذو المعطف: هل كانت تشكو أرقاً شديداً؟
قالت البنت: نعم.
ـ هل اقترحت عليها تناول حبتين؟
ـ نعم.
ألم تعرف أن هذا قد يضر بها؟
ـ لا.
المسيو داي مات بالسكتة القلبية. كان موته سريعاً وفاجعاً بالنسبة لمدام داي وابنتها.
ومنذ موته دأبت مدام داي على استشارة الدكتور فيسيدو الذي يعمل في عيادة قريبة من الفرساي. كانت تذهب إليه كل ستة أشهر ليفحص قلبها.
وحين سألته عن الحبوب المنومة، اختار لها نوعاً من الحبوب مناسباً، مشدداً على ألا تتناول سوى حبة واحدة، وقت الحاجة الماسة.
في هذه الليلة، كانت تريد أن تنام فقط. أن تنام نوماً عميقاً. وعندما اقترحت عليها ابنتها تناول حبتين، لم تجد بأساً في مخالفة نصيحة الطبيب، ولو مرة واحدة، بل إنها لم تسأل ابنتها عن الضرر الذي تلحقه بها مخالفةنصيحة الطبيب، ولو على سبيل الاطمئنان.
غداً، ذكرى موت زوجها.
وهي تريد أن تذهب إلى المقرة، في الصباح الباكر، بعد أن تشتري الزهور من أول بائع تجده في السوق.
قال الرجل ذو المعطف: أتحبين أمك؟
قالت البنت: نعم.
إنها تحب أمها. تمسك بيدها، وهما تسيران في الشارع، تقترح عليها الملابس الجميلة المناسبة لامرأة في مثل سنها، وتصحبها إلى صالون الحلاقة، مشاركة إياها في اختيار التسريحة وصبغة الشعر؛ وعندما تسافران إلى مكان ما، تحمل هي حقيبة ملابس أمها، وتعنى بأن تجلسها في المكان المريح من القطار أو الحافلة.
إن أمها الحقيقية، في ولاية >الأصنام< البعيدة، وهي لا تحتفظ بذكريات طفولة عن أمها الحقيقية. إن ذكرياتها الأولى هي مع مدام داي التي كانت تمشط شعرها، وتشتري لها الدمى والملابس والحلوى، وترافقها إلى المدرسة الابتدائية، وهي التي صحبتها ـ بعد أن نالت الشهادة الثانوية ـ في كل معاملات التوظيف الطويلة المتعبة. وهي التي أرتها مدن فرنسا وسويسرا في سفرات امتد بعضها ثلاثة أشهر. وهي التي تعنى بها الآن. وتعرفها على حقائق الحياة.
إنها تحب أمها.
قال الرجل ذو المعطف: والعراقي؟ تحبينه؟
قالت البنت: نعم.
قد تكون فتوته، وغرابة جمال وجهه، هما ما أثارا اهتمامها به، عندما دخلت تلك المدرسة الريفية.
إنه يتلعثم في حديثه قليلاً، ويبدو مهزوزاً نوعاً ما تجاه العلائق الاجتماعية.
أهو خشن؟ لا.
أهومهذب؟ لا.
عيناه جميلتان دون شك، ولهجته العربية غريبة.
ضحكت في سرها من نطقه المغلوط لبعض الكلمات الفرنسية التي يدخلها في حديثه تشبهاً بزملائه من بني وطنها.
سألها عن مسكنها.
وكل يوم كان يتحدث إليها قليلاً، أو ينظر إليها طويلا حين لا يلحظه أحد سواه.
مرة قال لها إنه سوف يسكن المدينة. قريباً منها.
اقترحت عليه أن يسكن ذلك الاستوديو بالطابق الأول، فلقد فرغ منذ أيام.
قال الرجل ذو المعطف: هل وعدك بالزواج؟
قالت البنت: لا.
بغداد 27/11/1972
* من كتاب " نافذة في المنزل المغربيّ " الذي سيصدر قريباً عن " دار التكوين " بدمشق العروبة