رباعية العمال الثلاثة طباعة

العمال المغاربة الثلاثة الذين رأيتهم مقيمين في الفندق، منذ مجيئي قبل ثلاثة أيام، ما يزالون يرتدون معاطفهم الثقيلة، حتى في هذه الظهيرة المشمسة من شتاء >ملقا<. كانت وجوههم تشبه جلداً سيء الدبغ، وكانوا يتحدثون همساً، متقاربي الرؤوس.
في شرفة الفندق
الأول شعره أصفر بلون التبن الرطب، الثاني شعره أسود جعد، أما الثالث فشعره خليط من الملح والفلفل الأسود.
قال الثالث: سوف يجيء حتماً.
قال ذو الشعر الأصفر: من يدري؟
قال الثاني: هذا الفندق الغالي أكل دراهمنا خلال أسبوع فقط، لولاه لاخترنا فندقاً آخر.
في الطاولة التي تلي طاولة المغاربة، يجلس الضابط البحري، المتقاعد منذ بدء الحرب الأهلية، مع سكرتيرته الأرجنتينية، فهو الآن مدير لإحدى شركات التعهدات البحرية في الأرجنتين.

سكرتيرته الشابة التي تنتظر لحظة نوم الظهر عنده، بقلق ظاهر، ترتدي بلوزاً أصفر خفيفاً يشي بصيف متخيل على رمال الكوستادل سول. البارحة قال لي الضابط البحري المتقاعد إنه زار البصرة وتل أبيب، بعد الحرب الأولى، وإنه كان قائد غواصة في القوة البحرية الإسبانية عندما بدأت الحرب الأهلية.
قال الثاني: بعد يوم واحد يجب أن نترك الفندق.
قال ذو الشعر الأصفر: بعد غد؟ لكن... أين نذهب؟
قال الثالث: سوف يجيء حتماً.
اقترب مني الساقي، الذي هبط إلى المدينة من قريته في المرتفعات وراء القلعة العربية، سألني إن كنت شربت نبيذاً في الغداء، قلت: نعم، قال إنه نسي أن يسجل ما شربته، ـ النبيذ في هذا الفندق الذي يقدم مناماً ووجبات ثلاثاً مقابل دينار واحد، ليس بالمجان. سألني إن كنت ذهبت إلى >موتريل< حيث جرت عصر الأحد مصارعة للثيران اشترك فيها >القرطبي< El Cordobes قلت له إنني حضرتها، ولم يعجبني من>القرطبي< سوى وجهه... ضحك. ومضى إلى طاولة الضابط المتقاعد.
قال ذو الشعر الأصفر: مصيبة... مصيبة...
قال الثاني: ندبر رؤوسنا.
قال الثالث: سوف يجيء حتماً.
امرأتان سمينتان، ترتديان الملابس السود، دخلتا الشرفة، وجلستا لصق الحاجز الحديدي المصنوع على شكل أزهار لوتس من الحديد السود المطروق. طلبتا قهوة سوداء.
كانت الشمس التي تتألق بشكل غير اعتيادي، تمنح منظر النافورة، والميناء، والسفن، والقوارب، والأرصفة، والمياه المتسخة قرب الشاطئ، نظافة مرهفة، وكان شعر ذي الشعر الأصفر يلتمع رغماً عنه.
سفينة الركاب، القادمة من إفريقيا، تصل ميناء (ملقا) حوالي الساعة العاشرة صباحاً. ومن الساعة الثامنة حتى الساعة العاشرة تمتد فترة الفطور في الفندق.
يجتمع الحمام المقبل من جهة الميناء
أتم المغاربة الثلاثة تناول الفطور مسرعين، وكان الشاب ذو الشعر الأصفر أول من غادر قاعة الطعام، يتبعه ذو الشعر الأسود، فذو شعر الملح والفلفل. وبعد دقائق رأيتهم من قاعة الطعام المتصلة بالشرفة، يقطعون الشارع العريض الذي يفصل الفندق عن منطقة الميناء. متجهين إلى المرسى، وهم يمشون واحداً إثر الآخر في صف غير منتظم.
انتقلت من قاعة الطعام إلى الشرفة، المتألقة في نهار مشمس آخر، ذي سحائب بيض صغيرة، تحلق فوق السفن مثل طيارات ورقية واسعة غير منتظمة الأشكال. بعد قليل جاء الضابط البحري المتقاعد، وسكرتيرته، جلسنا معاً، نشرب القهوة، وندخن، وحينما أكملت السكرتيرة تدخينها، تبادلت مع الضابط نظرة غير سريعة تؤكد ـ في الغالب ـ اتفاقا مسبقاً، وغادرتنا، طائرة، هفهافة، وكأنها تشم لأول مرة هواء نقياً. استرخى الضابط المتقاعد، وهو يراقب الميناء من خلل دخان سجارته. وقال لي دون أن ينظر إلي: لقد ولدتُ في (ملقا).
بدأت الشرفة تمتلئ بالقادمين الجدد: كانوا جزائريين في طريقهم إلى مناجم الفحم والحديد وأعمال البناء في الشمال ومغاربة أشداء من بربر الريف، وإسبانيين يقضون إجازاتهم في الوطن، قادمين من المناطق الإسبانية في شمال المغرب، وعدداً من السويديين والسويديات الذين كانوا في اقصى نقطة بلغتها سياحتهم: مدينة مراكش على حدود الصحراء.
كان ضجيج القادمين الجدد، يهدأ، شيئاً فشيئاً، مع القهوة والبيرة والشاي الخفيف، وكان الضابط المتقاعد يستسلم، لإغراء إغفاءة عذبة تحت شمس (ملقا) الشتائية.
في زجاج الباب المفتوح بين قاعة الطعام والشرفة المكتظة الآن، رأيت المغاربة الثلاثة. كانوا واقفين، لا يتحدثون، وهم يبحثون بعيونهم التي كانت تتحرك وحدها، عن مكان للجلوس. أخيراً، وجدوا لهم موضعاً، كرسيين فقط. جلس ذو شعر الملح والفلفل، جلس ذو الشعر الأسود، أما ذو الشعر الأصفر فقد ظل واقفاً.
قال ذو الشعر الأصفر: لم يأت، اليوم أيضاً.
قال ذو الشعر الأسود: مصيبة. مصيبة.
قال ذو شعر الملح والفلفل: سوف يجيء حتماً.
فرغ كرسي قربنا، فاتجه إليه ذو الشعر الأصفر ليأخذه، لكن أحد السويديين سبقه، فأخذ الكرسي.
عاد ذو الشعر الأصفر إلى صاحبيه وهو يزم شفتيه على شتيمة حادة.
مر الساقي بالمغاربة الثلاثة مرتين، وفي كل مرة كان الجالسان يقربان رأسيهما من بعضهما.
من آخر الشرفة نهض اثنان عن كرسيهما، مخلفين على الطاولة، علبة دخان كولواز، وأربع زجاجات بيرة، وخارطة ممزقة قد تكون للطرق الإسبانية، كانا ذوي ملابس متماثلة، وشعر طويل، كانا شاباً وشابة.
ويطير ثانية
طفل يبدأ يبكي، في جانب الشرفة الملاصق لقاعة الطعام، هدأته أمه قليلاً، ريثما تتم قهوتها، ثم اصطحبته مغادرة الشرفة.
الضابط المتقاعد أخذ يتنفس الآن ـ في إغفاءته تنفساً هادئاً. انبسطت ملامح وجهه، وبدأ أصغر من سنه قليلاً.
طاولة صاخبة فرغت، بسرعة غير منتظرة، قرب المغاربة، تناول ذو الشعر الأصفر كرسياً، وجلس إلى صاحبيه.
كانت الشرفة تخلو من أصحابها لينفرد بها المغاربة الثلاثة والضابط النائم وأنا.
قال ذو الشعر الأصفر: لقد وعدنا أن يأتي، وكان وعده أكيداً.
قال ذو الشعر الأسود: ربما لم تقبل زوجته.
قال ذو شعر الملح والفلفل: النساء لا يتخلين عن الذهب بسهولة.
سرب من الحمام الرصاصي يندفع من جهة الميناء، ويحلق، خاطفاً، فوق النافورة التي يرتفع رشاشها اللامع في آلاف من الجزيئات الملونة الهشة، ثم يحط ـ وكأنه ألقي فجأة من سلة واحدة ـ على السطح الهابط أسفل الشرقة، وعيون الحمام القلقة تبحث عن لا شيء في غربة مجتمعة أليفة المنظر.
قال ذو الشعر الأسود: ذهب زوجته، هو ذهب عرسها، من الصعب أن تتخلى المرأة عن ذهب عرسها.
قال ذو الشعر الأصفر: ولكنها قبلت ببيع ذهبها.
قال ذو الشعر الأسود: ربما غيرت رأيها.
قال ذو الشعر الأصفر: لِـمَ لم تغير رأيها عندما كنا هناك؟
قال ذو الشعر الأسود: لأننا كنا هناك.
فتح الضابط البحري المتقاعد عينيه، ثم أغمضهما، متقياً النور الذي يغمر الشرفة والطاولة، ويضيء من قاعة الطعام جزءها القريب، ثم فتحهما ثانية، واعتدل في جلسته،تناول سيجارة، أشعلها بهدوء متلذذ، وشرع يدخن.
قال ذو شعر الملح والفلفل: حلمت البارحة به، كان يسير على الماء، وبيده غصن من الرند. كانت السفن والزوارق تتنحى عن مسراه، وعندما بلغ الرصيف اختفى.
ضحك ذو الشعر الأصفر، وهو ينقر بأصابعه الطاولة نقراتٍ خفيفة متصلة. سرب الحمام، يندفع، مبتعداً عن الشرفة، بزاوية حادة، بينما ينهض الضابط المتقاعد من جلسته الحذرة، ويغادر الشرفة، وهو يودعني بإيماءة من رأسه.
هبطت من غرفتي، في الضحى المعتم، مثقل الرأس ببقايا النبيذ الحلو >الموسكاتيل<، الذي أفرطت فيه، عندما قضيت سهرتي في المقهى الغجري، الذي يقع غير بعيد عن الفندق.
لم يكن باستطاعتي استعادة ما فعلته البارحة، إلا أنني استطعت أن أتذكر شيئاً واحداً، هو أنني عدت إلى الفندق في سيارة للأجرة.
عبر واجهة البار نحو سماء مكفهرة
وأن السيارة ظلت تدور بي في شوارع >ملقا< مدة سئمت منها. لم أذهب إلى قاعة الطعام لأتناول فطور الصباح. كان الضحى أكثر عتمة من أن أتحمل البقاء داخل الفندق. وهكذا كنت اجتاز الممرات والسلالم، لأبلغ المقهى، أسفل الفندق، حيث علي أن أمر أولاً ببار >هنا باريس<، المنطلق الأول في كل مساء مبكر. كنت أريد أن أشرب قهوة سوداء، وأدخن سيجارة سمينة من سجائر جزر الكناري، فقد كان هذا اليوم، أول يوم شتائي مذ بلغت >ملقا<. وكان يوماً ممطراً أيضاً.
عندما سلمت مفتاح غرفتي إلى استعلامات الفندق، رأيت المغاربة الثلاثة يهبطون، مغادرين الفندق، مع حقائبهم الصغيرة، ومعاطفهم الثقيلة. وكان ذو الشعر الأصفر يبدو محني الظهر قليلاً.
بين الفندق، والمقهى، يقع بار >هنا باريس< الذي تدير، امرأة وسط ـ يبدو أنها جاءت من شمال إسبانيا ـ تشرف على مجموعة فتيات، ويتألف بار >هنا باريس< من مكان أرضي، وقاعة علوية خافتة الأضواء، تجالس فيها فتيات البار زبائنهن، مساء حول فنجان قهوة أو كأس بيرة واحد، قبل أن يحددن مواعيدهن.
كنت أريد أن أذهب إلى المقهى، لكن المطر، ووجود فتاة وراء الكونتوار، كنت أعجب بها، أرغماني على الدخول في >هنا باريس<. ألقيت على الفتاة تحية الصباح، وطلبت قهوة سوداء. كان المطر في الشارع الضيق يهطل من كل مكان، بغزارة عجيبة، حتى لتكاد الميازيب تختنق في تدفقها الهادر.
الدرجات السبع الخشب التي تصل بين المكان الأرضي والقاعة العلوية، بدأت تهتز بصوت مكتوم، وحين التفتُّ، رأيت المغاربة الثلاثة يهبطون.
دفعوا الحساب، وكان عن ثلاثة فناجين قهوة بالحليب، وأنفتح الباب الزجاجي، أمام هجمة مائية خلطفة، ليخرج المغاربة الثلاثة من دفء >هنا باريس<، وفتاة الكونتوار، والقهوة الساخنة.
كانوا يقطعون الشارع متجهين إلى الميناء، وكانت معاطفهم الثقيلة تتشرب بالمياه الغزيرة، التي أخذت تقطر على حقائبهم القماشية.
النافورة تلتم على نفسها، وسط الساحة الواسعة، بلا أقواس قزح، ولا أسراب حمام، والسيارات المسرعة لامعة نظيفة بشكل استثنائي، والبحر يبدو من البعيد ملتصقاً بالسماء التي تقطر ماء.
السفن وحدها، في الميناء المشوش المنظر، كانت في مناخها الحقيقي.
ــــــــــــــــــــــــــ
*  سوف تكون هذه القصة ضمن الكتاب الذي يصدر قريباً عن " دار التكوين " بدمشق ، بعنوان " نافذة في المنزل المغربيّ "