قصائد المنفى البريطاني في الجزء السادس من أعماله الكاملة ... سعدي يوسف شاعر المخادعة الجميلة طباعة

دمشق - ديمة الشكر     الحياة     - 09/02/09//
من أين تأتي القصيدة عند سعدي يوسف؟ هذا سؤال زائدٌ، وربما لا طائل من ورائه. لأنّ قصيدته تأتي من كل شيء ومن لا شيء أيضاً. وإن كان يُمكن تحديد مواضيع يميلُ إليها سعدي في قصائده، (الحبّ، والطبيعة والسياسة) إلا أن هذا التصنيف لا يقبضُ على الخلطة السريّة التي يقع في إسار جماليتها كثيرٌ من الشعراء وعلى رأسهم شعراء قصيدة النثر، بحيث يحاول بعضهم النسج على منوالها، مُهتدين بمقولات نقدية رائجة عن عوالم قصائد سعدي، ومن أشهرها على الإطلاق «القصيدة اليوميّة» و»شعرية التفاصيل» و»النبرة الخافتة»، إذ أدّت هذه المقولات على ما يبدو، دوراً ملهِماً بالنسبة لتجاربِهم، فكأن هذه الأخيرة تتبع النقد لتتنَزَل في الإبداع.

ولم يكن النقد مجانباً الصواب في هذه المقاربة الأولى لعوالم سعدي، بيد أنه لا يحيط بها تماماً، فهو مقاربة لجزءٍ لا يتجزأ من كلّ مخادعٍ قبل أي شيء، إذ إن قصيدة سعدي هي القصيدة المخادعة والمخاتلة بامتياز، لأنّها توحي بشيء وتضمر ضدّه؛ فهي توحي بأنها عفوية لكنها تُضمر عملاً تركيبياً متقن الإخفاء، وتوحي بأنها سهلة المنال لكنها تُضمر اصطياداً حاذقاً صعبَ التكرار، وتوحي أيضاً بأنها تتحرّك بالنثر، لكنها تضمر وزناً رقيق الجرس أحياناً، وواضحَ التفاعيل أحيان أخرى، وفي الجملة، تخدع القصيدة «مقلّدها» المفتون بانسيابيتها ناسياً قولاً تراثياً شهيراً «تمامُ الصنعة في إخفائها».

عالم بأكمله
يفصح الجزء السادس من الأعمال الشعرية لسعدي يوسف، الصادر حديثاً عن دار الجمل، عن عالم أكثر غنى من وصفٍ أوّلي يقول بالقصيدة اليومية. ثمة عالم بأكمله ينهض من القصائد القصيرة نسبياً، التي كُتب جلّها في المنفى البريطاني، وإذ يُذكر المنفى يحضر كخلفية «حقيقية» للأفكار والتأملات التي تعصف بسعدي يوسف وتشكل مادّة قصائده، بحيث نجد كثيراً من المفردات التي تحيل على الـ «الفلورا» الإنكليزية إن جاز التعبير؛ (دوحة الجوز، كستناء الحصان، الشجر الأحمر، البلوط، الزان النحاسي، الصفصاف، السرخس، الطحلب...) وعلى طيورها وحيواناتها (السنجاب، الزرزور، العقعق، الزاغ ...)، ولا تحضر هذه العناصر، لتصفَ مشهداً طبيعياً، حيث يسرّح الشاعر بصره بخفة كما قد توحي القراءة الأولى، بل هي تحضر لغاية محدّدة. نقل زاوية البصر من الخارج (المشهد الطبيعي) إلى الداخل (أنا الشاعر). وفي الجملة، المزج بين الشاعر والطبيعة، على نحوٍ تنتقل فيه القصيدة الغنائية البسيطة إلى آفاق أكثر تركيباً، تسمحُ بتحييد «أنا الشاعر» إلى أقصى حدّ ممكن - الأمرُ غير اليسير بل الخطير في القصيدة الغنائية بعامّة -، فكأنه هو ولا هو في آن واحدٍ.
وفي كلام آخر، يسمحُ تخفيف صوت «أنا الشاعر» على هذا النحو، بإعطاء القارئ مساحةً أرحب للتفاعل مع القصيدة، ولعلّ هذا هو أحد أسرار جاذبية قصائد سعدي يوسف: «أنا أسكن، حقاً، بين المرئي وما ليس يرى/ أسكن في اللحظة /حيث الشيء سواه/ وحيث المرأى لست أراه). فالمهم لدى سعدي هو زاوية النظر (غالباً نحو الداخل) قبل النظر (نحو الخارج) في قصائد مشهديّة بامتياز، تمزج بين مفردات الـ «فلورا» الإنكليزيّة، وصفاتِ ما يشبه المدينة. ففيها الزجاج المضاعف، والبار، والحانة، والكثير من الماء: «أين أذهبُ في مهبط الليل؟...إلى أين أذهبُ؟/ في حانة القرية الآن، يدعو الزبائن أشباههم/ ويغنون أغنيةً للعسكر/...ثمتَ في أسفل التلّ، تلمحُ ضوء المحطة/... والمطر النّزر يرسم لألاءه في الزجاج المضاعف/...في البعد/ بين الجذوع التي تتقطر ماءً وعشباً/ تلوح ضفاف البحيرة/ إن البحيرة تفضي إلى النهر/والنهر يفضي إلى البحر). لكن هذه العناصر التي تفتحُ مشهد القصيدة، تؤدّي دوراً حاسماً في الحنين إلى مكانٍ آخر: «السلة الخوص تدنو من القصب اللدن/السلة الخوص تدنو/ هي السلة الخوص تدعو/تناديك»، هذا المكان يعرفه القارئ من المفردات «السيابية» التي طبعت الشعر العراقي، وسعدي يوسف عرف كيف يرث باقتدارٍ لغة السياب: «قد كنتُ/...يا ما كنتُ آمل أن أرى وجه العراق ضحى/ وأن أرخي ضفائر المياه عليّ/ أن أرضي عرائس مائه بالدمع ملحاً/ أن أطوّف في شطوط أبي الخصيب، لأسأل الأشجار:/ هل تعرفن يا أشجارُ أنّى كان قبرُ أبي؟».
لكن الحنين إلى المكان لا يتخذّ دوماً وجهة عاطفية يسهل توقعها، فسعدي يجيدُ التصويب نحو الداخل بغنائية أقل: «سأتقي بضعةً مني/ أقول: إذا كان الحنين دواءً، فليكن لبقاً/ مثل الحبوب التي في الطبّ/ واحدةً منهن تكفيك شهراً»، ويجيد التصويب نحو اليأس الجارح :(البلاد التي نحب انتهت من قبل أن تولد/... نحن كنا أهلها/ قلْ: بلى/ ولكن تولانا سعيرٌ من أوّل الخلْق/ هل كنّا نياماً؟/ أم غافلين/... لم يبقَ عندي من ترابٍ أريدُ أن يتلاشى/... البلاد التي نحبّ انتهتْ».

ثلاثة مداخل
لسعدي يوسف ثلاثة مداخل حاسمة في الإلهام : المرأة، والموسيقى، والشعر. فغزلياته شفيفة خفيفة يحفّ بها مكرٌ نواسيّ لاذع، يميلُ تارةً باتجاه إباحية طلقة: «مرّغ عينيك وجبهتك/ ادخل في طيّات حريرٍ لم تنسجه يدان(...)/ أنت اللائب/ واللاعب/ أنت المتمرّغ في عشب الليل/ المتحدّر في السيل... أنت الآن تحسّ بأن رطوبتها الساخنة التصقتْ بك». ويميلُ تارةً أخرى نحو نرجسيّة لعوب: «أمس/ عند البحيرة /كان المطر/ دافئاً/ناعماً/مثل ملمس جلدكِ بعد السباحة في البحر/فكرتُ فيك قليلاً/ وأقسمت فوراً/ لأستعجلنّ القطار المسائي/... لكنني، مثل ما تعرفين كسولٌ/ نسيتُ القطار/..أدنيت وجهي من صفحة الماء/ أرقب كيف تعود المياه إلى بيتها/ كيف يولدُ هذا المساء».
 أمّا الموسيقى، فتأسره. وليس سراً أن سعدي مخلصٌ للوزن، لكن طريقة وروده في القصائد تنحازُ الى ملكة الإيقاع، بمعنى أن سعدي لا يحدّ جموحه فيه، فيكتب القصيد أنى ارتأى ذلك مناسباً: «كأنّ قطن فراشي حين ألمسه/ سجادةٌ بالبياض المحض تحتفلُ»، ويكتبُ بالمتدارك ليخففَ من وهج الإيقاع، مبقياً على رجعه السيابي: «خلّني أغترفْ منك نارَ السبيل/ خلّني أختلجْ/ خلّني أبتهج بالقليل»، فهو لا يروم إلا القبض على الموسيقى: «وإذ يدخل الثلج من شقّ نافذتي/ ينبض الصمت مثل البيانو/ وألتفتُ:/اللحظةَ/ اللحظةَ/ الأرضُ تصغي إلى الثلجِ/ والأفقُ أبيضُ/ينهمر الشعرُ مثل البيانو».
أما الشعر، فهو ربما الفرصة التي يغتنمها سعدي في كل يوم، لا لأنّ قصيدته «يوميّة» كما يرغبُ بعض النقد في القول، بل لأنّ العيش مع الشّعر هو الخيار الوحيد، ومن خلاله تتضحّ الفروق بين الشعر وعكسه: «وتقولُ لي:/ عيناي واسعتان/تدخلُ فيهما الأشياءُ كي تُمسي إذا حلّ المساءُ شريطَ ألوان/ أقول إذاً، أرفةُ هدبك الزرّ الذي يصلُ الشجيرةَ بالتصوّر؟/هل إذا أغمضتِ جفنكِ/سوف ينفتحُ التفكّر؟/أم هما العينان واسعتان دوماً؟ /يا فتاةً حرّةً/ إني أجرّبُ ما تقولين/يا فتاة حرّة/من لي بعينيك؟/ التفكّر سوف يدخل/سوف يقتلني».
قراءة الأعمال الشعرية لسعدي يوسف، متعةٌ خالصةٌ للنقد، لأنه يتطوّر من خلال إعادة النظر في قصائد سعدي المتنوعة، وإحالاتها الكثيرة إلى شعراء آخرين (نزار قباني، ممدوح عدوان، بشار بن برد، أبو تمام، سركون بولص...)، وإلى أماكن كثيرة (القاهرة، لندن، دمشق، عدن...). وإن كان ظاهرها يوحي ببساطة القصيدة الغنائية، فباطنها يشفُ أحياناً عن نفسٍ ملحميٍ ذي مزاج رقيق، يناسب بهاء نهر الفرات وأبهته: «يغيض عن «الرّقة» الماء كي يدخل الطبقات الخفيّة من لحمنا،/ نحن أبناء تلك الضفاف التي أنبتت قصباً للأسنة والأغنيات. الفرات/ هنا ضلّل النورس. السمك المتحدّر من فُوّهات الجبال ارتضى في / الفرات مراعيه، وارتدى الفضّةَ/....ماء تغلغل في الرّمل. في /وجنة الطفل. ماء يظلّ بكفيك، لا يتبدّد. ماءٌ هو البسملة». ، ويناسبُ هذا النفس الشاعر الذي يكتبُ قصيدةً نواسيّةً سيابيّة، وموحية إلى أبعد مما يحتمل القلب، لا ترفدها إلا اللغة الآسرة التي أتقن سعدي حبكها وأخفى أسرارها.

اخر تحديث الإثنين, 09 فبراير/شباط 2009 22:59