شِعابُ سعدي يوسف الإيطالية طباعة

عوّاد ناصر
أمضيت جزءاً من سهرتي، ليلة الخميس الماضي، مع سعدي يوسف.
ليس معه شخصياَ بل مع نصّ شعريّ - نثريّ له نشره في اليوم نفسه، علي موقع إلكتروني ينشر فيه غالباً.
النص وليد تجربة بجبالِ الأبَنين، الإيطالية، حيث مكّنني، النصُّ وكاتبه، من شميم أشجار التفاح ولدغة النبيذ التوسكاني الأحمر الثخين، وأن ألمس غيمة تضطرب بين السفح والوادي وأمرر يدي علي ذيل الثعلب.
بينما يمرّ الخنزير البرّي بمحاذاة الكلمات وعتبة البيت البعيد وأتناول مازتي من صحن الجبنة علي الطاولة المشتركة.
أهدي الشاعر نصه هذا "إلي سيلْفانا وفوزي الدليمي، اللذَينِ قدّمــا لي، ولِـجْوان، دارتَهُـما العامرةَ، العاليةَ، غيرَ بعيدٍ عن ميلانو، منتبَذاً ومُصطافاً، حيثُ كتبتُ صفحاتي، واسترددْتُ عافيتي، ونَعِمْتُ بالحُبّ، وبصداقةٍ لم أجدْ لها مثيلاً".

كان سعدي في هذا النص بهيجاً ومبهجاً، منغمساً بكشوفات الطبيعة ونبضها الحي وصداقة العالم، بل محبته:
"الليلُ كثيفٌ في تلك التلاعِ التي تُعتبَر تمهيداً للطريق إلي توسكانيا. لمحْــنا غزالاً، ثم خنزيراً برّيّــاً. قـــال فوزي: لا تفاجأوا بالحيوانات البريّة في محيطِ الدارة. ثمّت أشجارُ تفّاحٍ. في الليلِ تأتي الخنازيرُ البرية لـتزوركم. إنها تحبّ التفّاح!".
هي ليست المرّة الأولي التي يجرب فيها سعدي تركيب النثر علي الشعر ليمزج ما يفلت من القصيدة بما يمسك به النثر.. وأظن أن التجربة تعود إلي ديوانه، القفزة، (الأخضر بن يوسف ومشاغله).. إلا أن الفارق بين النوعين، النثر والشعر، بدا جلياً، والأمر يعود إلي أن نثر، هنا، جاء تابعاً للشعر، لا موازياً، أو ندّاً تفرضه حاجة جمالية لا تقنية محض.
في رحلته الإيطالة صحبته صديقة إنكليزية، هي جوان ماكنلي Joanne McNally، التقيتها مرة، أو مرتين، في مرسم فنان عراقي، والأمر الذي استوقفني، حائراً، هو أن سعدي رسم المرأة صورة من يعلقها ديكوراً علي حائط النص، فبدت مثل شبح غائم الملامح ينوس جنبات المكان القصي، وهي الأساسية في المشهد الشعري وفي عاطفة الشاعر، فهي، كما بدا في النص، حبيبته.. حتي أنها نادته، مرة، فتجاهلها:
"جْوان ذهبتْ في ما عبّرتْ عنه بالجولة الطويلةِ مشياً.
ربما ذهبتْ مستاءةً مني لأني كنتُ منهمكاً، كنقّارِ الخشب، بالكومبيوتر : تِكْ تِكْ تِكْ !
لم أُجِبْها إلي ندائها المتكرر حول صحنِ الغَداء...".
المهم..
كان نص سعدي هذا معافي، حيوياً، حسياً، يصيب قارئه بعدوي العافية والمروءة، وكما أخبرته، يبدو ويتمانياً صريحاً، وهذه هي المرة الأولي التي يبدو فيها سعدي وقد أخذته الويتمانية علي حين غرة، بهذا الوضوح التعبيري وطلاقة الحياة وصداقة الأشياء والناس.
سعدي الذي ترجم (أوراق العشب) لوالت ويتمان، بداية السبعينات، ولم نزل، هناك في العراق، معاً، كان قد انطلق، آنذاك، من موقف نقدي أكثر منه نزوة مُترجمة، فمنح قراءه متعة اكتشاف قوة الإنسان يسعي في مناكبها، كفاحاً وعشقاً ومغامرة بلا حساب النتائج وقد جاءت تلك الاندفاعة الحياتية شعراً .
حتي فكرة سعدي الشيوعية بدت، في هذا النص، خصلة إنسانية وليست شعاراً أو استفزازاً، بل أنها تجلت حناناً علي ذلك الفلاح الإيطالي (حليفه، كما يدعوه) وهو يقطع الجبل وثباً..
كتب سعدي نصاً فيه من القصة والقصيدة والتعليق وإيماءة الصديق لأصدقائه وامتنانه لمضيفيه، وإلقاء التحية علي الكائنات الحميمة، ليذكرنا برائعته (تحت جدارية فائق حسن):
"ســلامٌ علي الداليةْ/ سلامٌ علي الغيمِ يهبطُ حتي َيمَسّ شُجَيرةَ أَرْزٍ/ سلامٌ علي الخبزِ أسمرَ مِثلي/ سلامٌ علي قهوةٍ في الصباحِ الذي يتمشّي وئيداً/ سلامٌ علي جارَتَيَّ/ سلامٌ علي قطّتي/ وسلامٌ علي الكلبِ، يُـقْـرِئُـني، بالنباحِ الخفيضِ الســلام ! / ســـلامٌ علي مريمٍ/ والسلامُ علي الطفلِ، أيّانَ ناغَي، و أيّانَ نامْ...".