لعنة سعدي يوسف طباعة

كتابات - حمزة الحسن
انا مدين للعصاب النفسي بكل ما كتبت.
* جاك ديريدا.

محنة سعدي يوسف أو أي يوسف والبئر عريقة كالنجوم ومؤلمة ومعادة كالجريمة. وتاريخ البئر قديم في الثقافة المشرقية: من بئر يوسف الى بئر ارميا، ومن بئر دانيال الى جب يونس في بطن الحوت، الى  بئر يوحنا الصليب في ظلمات طليطلة، الى حفرة فيراب التي دفن فيها القديس كريكور ـ تحمل كنيسة الارمن في الباب الشرقي في بغداد اسمه ـ ثلاث عشرة سنة لانه رفض تقديم القرابين للالهة الوثنية في عاصمة أرمينيا القديمة اردشاد في القرن الثالث بعد الميلاد وأخرجته الأميرة خوسرو لعلاج والدها الملك، الى الحفرة الجماعية التي طمرنا فيها اليوم جميعا وهي ملخص كل الحفر والابار ـ عندنا رواية اسمها حفرة فيراب تحت الطبع منذ القرن الهجري الأول.

وتاريخ الحفرة هو تاريخ الثقافة والمخيلة والذاكرة: فحين يقع أحد ما في حفرة، قديسا كان أو لصا، شاعرا أو قاطع طريق، تصبح تلك الحفرة مصدرا للخير أو الشر، الالهام أو العجز، لأن عقلية البئر تحتاج الى مسند للتوازن فهي قابلة للسقوط وعديمة الاستقلالية الفردية وتحتاج الى عكازات من الخارج كشجرة خاوية.
الخروج من عقلية/ ثقافة الحفرة على مستوى الذاكرة أو المخيلة أو الفعل، يعد مروقا وتجاوزا وخروجا على الجماعة. وسواء ندرك ذلك أم لا، فنحن فقهاء في حقل اللغة أو في حقل السياسة وفي حقل السلطة أو الكتابة: اللغة والسياسة والسلطة والكتابة الفقهية مصدرية جذرية استعادية مكرورة حرفية  معيارية وهذا النوع من اللغة لا يبدع بل يصقل ويعيد ويذكر بمصدر أو موقف أو نص.
الرأي أو الموقف أو المخيلة التي لا تستند الى شرعية النصوص أو الحوادث أو الاجماع العام ( ويمكن القول الجماع العام لأنهما من جذر  لغوي واحد) هو خروج عن المألوف والمستقيم والمقبول وعن القطيع أيضا.
اللغة الجذرية والاصولية والموقف الجذري الأصولي( العائد الى جذر وأصل لأن الابداع لا جذر له ولا اصل فهو جذر نفسه كالريح) لا تنتج من قبل انسان بل من مقبرة: الموتى، سواء في النصوص أو الأفراد، هم الذين ينتجون المعرفة الوهمية والحقيقة الوهمية، أكان هؤلاء رموزا على هذا المستوى أم ذاك.
في ثقافة القطيع تتساوى الأشياء في النظر الى الحياة والموت وما من منقذ غير مروق لغوي أو شعري أو عصاب نفسي مثل ذاك الذي أصاب جاك ديريدا وقال عنه إنه مدين له بكل ما كتب وأكثر من ذلك قال: العصاب يضع الانسان خارج الاندماج، العصاب تمرد، انه ضد الترويض ـ والويل لمن يعترف منا بأنه يعاني من سعال عابر ـ والأمر نفسه بالنسبة لسارتر صاحب المقولة الشهيرة: الكتابة حررتني من العصاب النفسي، وغيرهما المئات من الكتاب والشعراء في المجتمعات المفتوحة على الحرية والوضوح.
الكتابة تحرر حين يكون الانسان حراً في داخله كما أن العبد ليس حراً في ساحة حرب ـ العبد لا يكر، قالها عنترة بن شداد. شرط الكتابة الحرية الداخلية ، وشرط الدفاع عن وطن هو أن يكون المحارب ممتلكا للكرامة البشرية ـ من وقائع حفرتنا، حفرة فيراب، وعلى مستوى صنف من كتاب غرف النوم هي ظاهرة المعارة الصبيانية حول المرض النفسي مع أن الفاجعة العراقية على مدى قرون وخاصة العقود الأخيرة تكفي دقيقة واحدة منها لإدخال قارة مصحات عقلية فورية لأن المطلوب في ذهنية القطيع هو الجلافة والبلادة والتصحر وهذا نتاج تربية حزبية قديمة وفكر شمولي يحتقر المعاناة الفردية ويعتبر الجسد في خدمة البرنامج السياسي ومفرغ من الرغبة ومعبأ بالحشو والتبن والشعار والنصوص.
الشاعر سعدي يوسف يلخص كل هذه القضية الشائكة: نحن نريد منه أن يكون شاعر الحزب أو نريده شاعر الرغبة وفريق يريده شاعر الجمهور والصالون ورابع يريده شاعر الجنس أو الفكر، منا من يريد منه أن لا يستقيل من الشيوعي الاخير، وفينا من يريده أن يكتب عن الغرام والبطيخ والحب والحرب مفصلة على أمزجتنا ورغباتنا كما لو أن الشاعر سعدي يوسف هو مسجلة نضع فيها الاغاني التي نريد، وهو يريد أن يكون نفسه( أمشي مع لجميع وخطوتي وحدي). بل هناك من هتف صارخا انه وجد موقفا لسعدي يتناقض مع مواقف سعدي كما لو ان التناقض جريمة. ومرة رد غرامشي ضاحكا على قول مثل هذا قائلا: وماذا يعني أن أكون متناقضا؟
موقف سعدي يوسف من الاحتلال كمثال كان الأكثر وضوحا في هذه القضية والحملة السوقية التي تعرض لها كانت أمرا طبيعيا ومتوقعا ففي عالم القطيع لا يحق لأحد أن يغرد أو يغني أو يحزن أو يجن أو يعشق أو ينفرد بذاته أو يعمل لحسابه الخاص أو يركب عربة قطار الى الجحيم أو الفردوس أو يضرب راسه بالحائط ـ ومن الطرائف والمهازل أن تلك الحملة توقفت فجأة، كما أندلعت فجأة، وهذا أمر مفهوم في قطيع غرف النوم كما لو أن مصدرها واحد: فهؤلاء الذين يفكرون ويكتبون ويحلمون بناء على أوامر أو قناعات ساذجة يعانون من مأزق محو الذات وتفتت الاستقلالية الشخصية وضحالة ثقافة لا تؤهل أحدهم للعمل كمدلك في حمام عمومي.
وفيما بعد تبين ان تلك الحملة على سعدي يوسف واخوته كانت منسقة ومبرمجة وأعد لها فريق عمل وهناك من  كان ( يدفع للزمار) كي يسمع اللحن الذي يريد وقد انطلقت في وقت واحد وخرست في وقت واحد وطبيعة التهم كانت جميعا من النوع المبتذل وتعكس تماما جنس الادوات.
في قضية ضخمة كالحرب والسلام صار الموقف الفردي كالجريمة الفردية ـ كاتب هذه السطور وقتها نسبت اليه ثلاث جرائم قتل وكلها لنساء ولم يلق القبض عليه أي بوليس في العالم حتى اليوم لأنه يمتلك طاقية اخفاء ويعيش في أدغال الصومال أو جبال توبا مورا.
اذا كان في قضية ضخمة كالحرب والسلام تشكل اليوم كارثة وطنية ومأساة انسانية غير مسبوقة تجاوز ضحاياها أكثر من مليون من القتلى وملايين المشردين والأرامل واليتامى والخراب الهائل، اذا كان الشاعر أو أي انسان اخر غير قادر على أن يقول رأيه في مثل هذه القضية خارج غرف الاجماع العام ففي أية قضية يمكن أن يكون حراً؟
 من الغريب أننا لم نطور في مستوى تهمنا المعادة كما حدث في العالم المتحضر  ـ ظل هوس الثنائيات راسخا ـ كالقول إن فلان الفلاني غير مهتم بالحداثة أو الموسيقى ولا بالعلم و المعرفة أو في الجنس  وظلت منتجات الشوارع الخلفية مهيمنة مثل كل الاشياء ـ مرة وجدت مأتماً عاجلا في منزل صديق هنا وفتاة شقراء يتمنى المرء أن يصلب على صدرها كل يوم ويُدَق بكل أنواع المسامير، وجدتها مقرفصة وعارية يبرق جسدها مثل كأس من البلور تحت الشمس، تبكي وصاحبي كعصفور خُرِّب عشه، والسبب هو ملاحظة فورية نزقة لا يعني بها شيئاً ردا على سؤالها: كيف كانت الامور؟ فرد قائلا بخفة عراقية مألوفة:متخلفة في الجنس.
سواء اختلفنا مع سعدي يوسف أو كنا معه حول هذا الأمر او ذاك، لكن من المؤكد ان الشاعر قال رأيه بصورة سلمية واستعمل الكلمات ولم ينافس أحدا على عقار او ملكية أو وظيفة أو موقع أو رأس طاولة اجتماع ـ مواقع الطاولة لا تحدد قيمة الجالسين بل العكس.
ما هو البديل عن سعدي يوسف واخوته في مواقفهم وكتاباتهم السلمية في قضايا مصيرية تخص وطنهم؟ البديل هو انتاج العلاّس والذباح والمفخخ وناسف السوق والمارينز ورجل الامن المرتزق والسياسي اللص والأمي والمتخلف والمقاول والمأجور والخ وهلم جرا.
اذا كان سعدي واخوته يمكن الحوار معهم في صحيفة أو منبر، فالنماذج اعلاه لا يمكن الحوار معها في غرفة موت أو على حائط. بهذه الصورة تم انتاج ثقافة الموت والانتقام كعقاب وتحذير لكل من يستخدم الكلمات كوسيلة احتجاج ولو من حافات العالم. إن عقلية القاتل والارهابي والمأجور في الرصاص والسيف وليس في الكلمات. تُرك الأمر بيد أهل البلطات والمصارف وليس بيد أهل الشعر والكتابة.
لكن عقدا بيننا، خارج لعبة الزمار، في أن لا يعيش بيننا أي بريء  وأن لا تنبت في حقولنا زهرة طبيعية ولا تنتج في عقولنا كتابة عفوية ولا تبنى صداقة حقيقية أو قصة حب نقية: هذا يجرح منطق القطيع والعقد العام الملزم يقول: إن الخروج عن الجماعة هو خروج عن نسيج القبح العام وبداية الفردية والوخز ونمو الولادات والاشياء والمواقف والزهور والعلاقات البريئة ـ بمعنى الخروج من القطيع الى الفردية، من البئر الى الحرية، من ثقافة الحائط الى الأفق، من الوحل الى المخيلة، من الوضوح الساذج الى العتمة المبهرة، من الجعير الى النشيج، من الاحتيال الى الابتهال.
لماذا هذه الحصانة والقداسة والسور الذي نحيط به مسلمات وبديهيات وصراصير هنا وهناك وكتاب العالم فتحوا سجلات مغلقة ومحرمة وانتقلوا بسبب ذلك الى حداثة ثم الى ما بعدها واحدثوا قطيعة جوهرية مع التاريخ؟
كتاب (الشَبِقة) مثلا من تأليف إيرفينغ والاس يتعرض بسرد أدبي صاف وجريء وموثق الى الدور الذي لعبته العاهرات والمومسات في تاريخ أوروبا والى وقت قريب وكيف أسقطن ملوكا وأباطرة وبابوات واحداهن ماريا فاليفسكا البولندية التي وضع نابليون شرط تحرير بولونيا بحبها له، أي دماء جنود فرنسا، من الروس والنمساويين عام 1806 ، وفي القرن الرابع عشر كانت أكثر من 7 الاف عاهرة يعملن في خدمة الابرشيات في روما الفاتيكان، احداهن عشيقة البابا جون العاشر، أما البابا جون الثاني عشر فقد نافس، يقول الكاتب، جميع البابوات في الزنا وسفاح القربى والحنث باليمين والقتل وشراء وبيع المنصب الكهنوتي، أما خليفته البابا ليو الثامن، فقد لفظ انفاسه الاخيرة في سرير واحدة منهن بسكتة قلبية ولم يتذكر حرفا واحدا من الكتاب المقدس.
باقة ورد الى سعدي يوسف واخرى عليه، يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا بثياب جان دمو الملكية وفي يده اليمنى هراوة وفي اليسرى قصيدة: استقالة الشيوعي الاخير، وهو يصرخ في حضرة الملائكة: أنا ابنُ ارصفةٍ/ وأتربةٍ/ ومدرستي الشوارع/ والهتاف.

مشكلة سعدي يوسف واخوته التاريخية انهم بين نصين:
نص بيد الزمار، ونص بين يدي الملائكة،
والمصيبة في أن يكونا نصا واحداً!