عن أغنية «صياد السمك وقصائد نيويورك» طباعة

فتحي عبدالله
إن حداثة الشعر العربي لم تكن خالصة، ولا واضحة الاتجاه، وإن تشاركت في صناعتها ثلاثة تيارات متباينة ومتناقضة بدرجة كبيرة، الأول يطابق ويماهي بين التجديد والحداثة دون أن يضع في الاعتبار أي دور لما هو اجتماعي، أو لما يحدث في المجتمع من صراعات كأن الحداثة فعل لا زمني ولا شروط اقتصادية واجتماعية له، وقد كرس لهذا المفهوم تيار «أدونيس» الطاغي في كل البلدان العربية، ففي مصر كان عفيفي مطر وعبدالمنعم
 رمضان، وفي البحرين قاسم حداد وفي المغرب محمد بنيس، حتى أصبحت الحداثة نوعا من التجريد اللغوي أو الطقوس اللغوية الساحرة التي تنفي المعنى أو الدلالة

وتخلق نوعا من الطقوس التي تقترب من الشعوذة، فأدونيس مثلا يعيد إنتاج الموروث الشيعي بكل طقوسه القديمة ودلالاته المتخلقة التي تتخاصم مع الحداثة في شكل جديد، وكذلك عفيفي مطر وإن اختلفا في نوعية الموروث.
أما الثاني والذي يعتبر نفسه ممثلا للذات العربية في لحظة نقائها، ويمثلها «حجازي ودنقل»، فإنه لم يهتم بفعل الحداثة وإنما اهتم فقط بخلق حداثة تتماهى مع الذات العربية وتلبي احتياجاتها المتنوعة، سواء كانت حديثة أو متخلفة ولم تلعب دورا إيجابيا في تطوير النوع أو رؤيته، أما الثالث فقد أدرك أن الحداثة أولا رؤية لتطوير المجتمع ككل، ولابد أن تنفصل عما هو قديم وقائم، لا يدافع الوجود والتحقق ولكن بدافع التطور الاجتماعي والثقافي معا، ومن هنا أعادوا الاعتبار لكل ما هو اجتماعي ومثله في الطور الأول «صلاح عبد الصبور»، «عبد الوهاب البياتي» وإن كان نموذجه الأمثل الشاعر «سعدي يوسف» لأن رؤيته للحداثة متخلصة من النزعات القومية والدينية التي ارتبطت بالشعر الحديث فقد كانت هناك منابر خاصة للأداء القومي في مصر، والعراق، والشام، ومنابر للأداء الديني في معظم دول الخليج، وقد كرس «سعدي» بأدائه الشعري والمعرفي لما يسمي بالرؤية الماركسية للعالم التي تعتمد الصراع كأحد الخصائص الإنسانية في الوجود، سواء بين الطبقات أو الفئات والشرائح، مما دفعه إلي الاقتراب من الطبقات الدنيا والفئات المهمة لا للدفاع عنها وإنما لاكتشاف وعيها والتعبير عن انفعالاتها وعواطفها المطموسة والمقهورة، خاصة أنه يدرك جميع أطراف الصراع والخطابات السياسية والثقافية لهم، وهذا ما قربه أيضا من الحقيقة الشعرية الخالية من الإنشاء، والتهويمات البلاغية الزائفة التي تضلل الجماعات الفاعلة.
والجماعة لدي «سعدي يوسف» لا يمكن حصرها في النخب الاجتماعية الحاكمة، وإنما في الهوامش وأصحاب التمردات الواعية من كل الطبقات، فقد أعطى أهمية كبري في إنتاج النص الشعري للهامشيين وأصحاب المهن الدنيا كعمال البارات والباعة الجائلين ونادلي المقاهي والشحاذين والمومسات وعمال المترو، كفئة اجتماعية فاعلة ومضطهدة من الطبقات العليا، إلا أن لها قدرة فائقة على ممارسة حياتها بطريقة خاصة.
وهذه الرؤية لم تحدث مرة وفقط، وإنما استطاع الشاعر أن يعمقها ويضعها في إطارها الإنساني المناسب خلال مسيرته الشعرية وفي ديوانه الأخير «أغنية صياد السمك وقصائد نيويورك» تتحقق هذه الرؤية بدرجة كبيرة، ففي قصيدة «الجار» يكشف الشاعر عن ذابات الجندي المتقاعد وإحساسه بالوحدة والملل من حياته المكررة.
«الجندي المتقاعد/ شبه المقعد/ يجلس كل صباح في كرسي تمدده/ خارج باب البيت/ لكي يستاف قليلا  ضوعَ البستان/ وينعم بالشمس/ وكانت زوجته تجلس أيضا لتقلب أياما/ ومجلات/ وقوائم» (ص123).
وفي قصيدة «مراقبة» استطاع الشاعر أن يصور الأعمى وسعادته في الحانة أثناء تعليقه علي مباراة في كرة القدم: «كان الرجل الأعمى يجلس في ركن الحانة تحت جهاز التليفزيون تماما/ كان اثنان من الرواد يقولان كلاما/ عن مانشستر/ هب الأعجمي كالملدوغ يصيح/ سيخسر/حتى سيخسر لم يسمعه الرجلان/ لكن الأعمى كان سعيدا» (ص90 - 91).
وفي قصيدة «بعد عاصفة مطرية» يتحدث عن ارتباك العمال والرعاة في المدينة الكبيرة: «الساحة مازالت تقفر/ لم يأت العمال إلي مشروع المبني/ لا عطلة هذا اليوم/ ولا خيط دخان يعلو بين مداخن هذا الحي/ انتصف اليوم/ رعاة مجهولون يجوسون الغابات بلا سبب/ ويجيئون إلي الحانة ظهراً/ بسراويل لم يحكم شد مساحبها/ ووجوه صغار مرتبكين» (صـ38-39)
ولأن الشاعر «سعدي يوسف» قد تخلص من التجريد والهذيانات العقلية واقترب أكثر من الواقع المتعين فقد أعطي للمكان دورا في إنتاج النص مما استوجب نوعا خاصا من السرد يتوافق مع ما يحدث في الشارع من صراع، فالمكان لدي الشاعر للاستخدام اليوم دون أي أساطير أو قداسة فالأماكن عنده تأخذ فاعليتها من البشر وانفعالاتهم النسبية. ومعظم الأماكن المختارة للنص مدنية، حديثة مثل «الشارع ـ المقهى ـ الحانات ـ محال الطعام ـ السينما ـ المسرح» مثل قصيدة «العودة إلي البار الأيرلندي».
«كان البار الأيرلندي وأعني حانة فيتزجيرالد/ انتقل الليلة من دبلن/ كي يفتح ذاب الباب الضيق في لندن/ لي أن أحسب كل الأمر هراء/ أو معجزة/ قل ما شئت/ ولكن البار هنا بالفعل/ مقاعده الخشب/ العتمة في العمق/ وأسماء زبائنه» (صـ78)
أما «قصيدة النادي اليوناني»، فإنها تكشف حالة السكارى، المتداخلة والمضطربة وكأن كل الحضارات والثقافات قد اجتمعت في هذا النادي مما أعطى «البار» صفة كوزموبوليتانية.
«في حمام النادي تسمع موسيقي اليونانيين/ وفي الصالة تسمع أغنية المصريين/ وفي الصالة تنعقد الأبخرة/ الأنفاس/ دخان سجائر/ سيجار كوبي/ حتى كأن الدنيا تطفو في الضجة أول/ أيام الخلق» (صـ70)
أما الأماكن ذات الحس التاريخي فإنه لا يكتشف أسطورتها ولا يسعى لذلك وإنما يلتقطها في لحظة يومية معاشة، مثل قصيدة «أم قصر» فلم يتوقف الشاعر أمام تاريخ هذا الميناء ولا أهميته في الحضارات السابقة، وإنما توقف فقط عند مقاومته الباسلة للاحتلال الأمريكي.
«سنطلق من «أم قصر» حمائمنا/ في خليج النوارس والطائرات المغيرة/ نطلقها في خليج البوارج/ والعار/ والناقة الذهبية» (صـ116)
أما الأماكن المقدسة فقد حررها الشاعر من دورها التقليدي لتشارك في حياة الناس ففي قصيدة «كنيسة سان جون وود».
«دخلت كنيسة سان جون وود/ فلسطينيات يتحدث بأصوات خافتة/ (خائفة)/ عن دير ياسين/ قساوسة يستمعون إلي القرآن/ وأطفال لا يبكون/ كنيسة سان جون وود تشيد دير/ ياسين عميقا في الأرغن» (صـ81-82)
إن هذه الرؤية الإنسانية المتجاوزة للحضارات والثقافات جاءت مناسبة لطبيعة الشعر ومتوافقة معه، وقد ساعدت الشاعر علي هذه الرؤية تنقلاته الكثيرة واختلاطه الدائم والمستمر مع جميع الجماعات البشرية شرط أن يتحقق الحوار والقاسم الإنساني المشترك بين البشر، فلا حتمية جغرافية تحكم تصرفات الجماعة، ولا تاريخ يهيمن ويسيطر علي الرؤية الحاكمة للنص، فالعالم كله مكان للشاعر والتاريخ الإنساني كله ملك له، وفي هذا الإطار جاءت قصائد نيويورك بعوالمها الجديدة علي الشعر العربي وإن ظل الشاعر مولعا بالهوامش أيضا وبالفئات الاجتماعية المضطهدة مثل قصيدة «شطرنج»
«سجناء قدامى/ زنوج بلا عمل منذ نصف قرن/ أساتذة هجروا المقعد الجامعي المقدس/ واستلموا مقعدا في الرصيف/ نساء تعبن من المسرحية/ من دور آدم ـ حواء/ أحلاس ليل أضاعوا الطريق إلي البيت في كل ساحة/ رقعة» صـ146.
أما بناءات «سعدي يوسف» فقد جاءت متعددة متنوعة ومتوافقة مع هذه الرؤية فأحيانا يعتمد اللقطة التي تقوم على المشهد البصري وتأتي مكثفة وقصيرة وهذا البناء يحتاج إلي نوع من المهارة والدقة لأنه لا يحتمل الاستطرادات ويقوم علي التجاور وجمع الأشياء التي تحدث حالة شعرية، والشاعر متأثر هنا بتقننة «ريتسوس» في نصوصه القصيرة، مثل قصيدة «سأحاول ألا أقول شيئا».
«كانت غيوم الصبح باردة، مخلخلة/ وكان الماء يصعد من حشيش المرج نحو الغيم/ ثمت ترتعي الخيل/ المراكب في القناة/ وفي المراكب كان شاي الصبح خيطا من دخان/ في المداخن/ لا طيور هنا» (صـ42).
ومن أشهر بناءاته أيضا وفي كل الدواوين «النص الطويل» الذي يعتمد الصراع الدرامي بين عناصر متعددة ويقوم علي السرد أو الحكاية حتى يصل إلي الذروة ويستخدم الشاعر في هذا النمط كل مفردات قصيدة النثر وهذا البناء جاءه من الشاعر الأمريكي الكبير «وولت ويتمان» مثل قصيدة «عبور جسر بر وكلن».
«لأقل إن ويتمان قد عبر الجسر مثلي/ صباحا وفي شهر آب اللظى/ ولأقل كان يسهر في مانهاتن/ وهو الآن قد عبر الجسر، طلق المحيا، حثيث الخطى/ فإلي أين يذهب؟/ أي الشوارع يختار؟/ أي الزوايا؟» (صـ154).
إن لغة «سعدي» منذ بدايته تسعى أن تكون عضوية لا تنفصل عن الأشياء ولا تخلق مجازا زائفا للتضليل ولهذا كانت لغة حديثة ومدنية قريبة من المشاعر والعواطف الحقيقية والعميقة وتتقاطع بدرجة كبيرة مع ما يحدث في المجتمع من تغيرات .