عباس بيضون بين سعدي يوسف الأب والأبناء المظلومين طباعة

GMT 10:45:00 2008 السبت 23 فبراير
الأب سعدي يوسف ولكن قصة الوطن لا تشبه قصة المنفى.. قال الابن
حمزة عليوي

لا يجادل اثنان، من العراقيين أو العرب، على القيمة الشعرية والثقافية العالية والمرموقة التي حازها سعدي يوسف بجدارةٍ بالغة، عبر نصف قرنٍ ويزيد، في الشعر والثقافة العراقية، وتالياً، أو، موازياً، في الثقافة العربية، وربما العالمية. وبالتأكيد أن وصف محمود درويش له بأنّه " شيخ الشعراء العرب " ليس منّةً من (درويش)، ومثله اعتراف (عباس بيضون) بإبوّة (سعدي)، وتسرّب تأثيره البالغ إلى مُنجز أجيال شعرية عربية عديدة. ومن قبله الناقد المصري القدير (جابر عصفور) الذي

رأى في الثلاثة (أدونيس، درويش، سعدي – حسب الألف باء) أفضل الشعراء العرب الآن. وفي الحقيقة أن (سعدي يوسف) يستحق تقديراً أكبر يوازي تأثيره الطاغي على أجيالٍ شعرية عديدة في الشعر العراقي، كما في الشعر العربي. ولست أدري ما هو الأمر الهام في التقييم العربي، أن يكون الشاعر مؤثّراً في سياق التجربة الشعرية الوطنية (العراق، مثلاً)، أم أن يمتد التأثير إلى الأفق الكلّي للشاعر لغويّاً (عربياً) ثمّ ثقافياً (عالمياً)؟ وقد نقول إن (سعدي) حقق الأمرين، فإن تأثيره الطاغي على الشعر العراقي قد رحّل حضوره إلى المجال العربي. وأحسب أنها ميزة ينفردُ بها الشاعر العراقي دون سواه، وأقصد أن تميّز شاعر عراقي على المستوى العربي مشروط بأن يكون مؤثّراً في مجاله الوطني – العراقي، وهو أمرٌ ليس بالمُستطاع لأيّ شاعرٍ في العراق، ذلك أن الشعر في العراق يملكُ تقاليدَ واضحة، وقد نقول راسخة، هي غير موجودة في البيئات العربية الأخرى المُنتجة للشعر. لا أتحدّث، هنا، عن تقاليدٍ أسسها الرواد عبر قصيدة الشعر الحر، أو، قصيدة التفعيلة، وهي مما ارتدّت عنه السيدة (نازك الملائكة) بعد حين، ولا عن تقاليد قصيدة النثر القادمة إلينا من البيئات الشاميّة (سوريا – لبنان)، إنما عن تقاليد هي أقرب إلى فعل المُخيّلة. ولقد سبق لـ(جبرا إبراهيم جبرا) أن اقترب، بفعل إقامته الطويلة في العراق، من هكذا أمر، نزعم أنه وراء التميّز الحقيقي للشعر العراقي، يرى (جبرا) أن العراقي يملك مُخيّلةً شعرية فريدة زادها تميّزاً وجود النهرين العظيمين " دجلة " و " الفرات ". ونُضيف إليه، أن هذه المُخيلة المرتبطة بنوع الجغرافيا قد استغرقتها تقاليد مجاورة قوامها مجازات التعبير في الشعر العربي للتاريخ البعيد، وقد احتل العراق – بغداد المكان المركز فيه لقرونٍ عديدة. هكذا يبدو الشعر في العراق قصيدة واحدة ذات مستوياتٍ متعددة تحكمها جميعاً تقاليد التخيّل، ثمّ، تقاليد التعبير – الشعر. هذا الأمر يجعل من اختراق هذه القصيدة أمراً لا يُنجزه سوى الشعراء الكبار، وهم قلّة على أيّة حال نعدّهم على أصابع اليد: الجواهري، السيّاب، سعدي يوسف، فاضل العزاوي، سركون بولص، فيما لا يزال السبعينيون والثمانينيون، ومثلهم التسعينيون في سياق المحاولة. وربما نجد من يفترض تحقق ما سبق على صعيد الشعر في مصر، أو، سوريا، أو، لبنان، أو، فلسطين، وثمّة حضور لافت للشعر في بعض بيئات الخليج، أهمها البحرين وعُمان، ولا بأس طالما أن الدراسة الكفوءة تُظهر، باستمرار، دون إساءةٍ لأحد، أن هذه البيئات أنتجت شعراً متميّزاً، وبالغ الأهمية، على الصعيد الفردي، وهو ما فعله: صلاح عبد الصبور، أدونيس، محمد الماغوط، أُنسي الحاج، عباس بيضون، شوقي بزيع، قاسم حداد، سيف الرحبي، ولكنها لم تفلح في إنتاج (قصيدة) تكمن خلفها مُخيّلة المكان وثقافته على السواء. إن التمييز بين (الشعر) و (القصيدة) أمرٌ حاسم يختصر علينا جدلاً صاخباً لا زال هناك من يُثيره حتى الآن في الثقافة العربية، فإن الشعر حالة فردية قد يرتقي بها التميّز، أحياناً، إلى مصاف العبقرية، غير أنها تظلّ حالة فردية، ربما تلتقي معها حالات أخرى تختلفُ عنها، أو، تقتربُ منها بدرجاتٍ دون أن تندمج في نسقها وتستكملهُ لتؤلّف، من ثمّ، قصيدةً ذات مستوياتٍ متعددة تستحضر من خلالها مُخيّلة الثقافة بكاملها. وهو، كما نظن، شأن الشعر في العراق. لذلك ثمّة عدد غير متناهي من الشعراء في العراق، يُقابلهُ قلّة فاحشة في عدد الذين يكتبون القصة والرواية. ودائماً ما كان النقد عندنا يعدّ ظهور كاتب رواية جديد بتميّز حدثاً استثنائياً. وهو شأن (عبد الملك نوري) و (فؤاد التكرلي) و (غائب طعمة فرمان) و (محمد خضير)، ولدينا الآن (علي بدر) وكُتّاب رواية المنفى. وفي الحقيقة إن الحديث عن المخيال الثقافي لبيئةٍ ما يستحضر، بالضرورة، النوع الأدبي الذي ينسجم معه. في مصر، مثلاً، هناك ترسّخ واضح لتقاليد السرد، يُجاوره حضورٌ مهم للمسرح والسينما. ويمكن أن نلمس توجّهاً واضحاً للثقافة في لبنان نحو السرد كذلك، ومثلها حال الثقافة في سوريا. ولا ندري إن كان ترسّخ السرد في بيئةٍ ما والتوجّه نحوه في ذهنها هو من بعض مؤثّرات تقاليد البحر الأبيض المتوسط؟! كان (طه حسين) قد تحدّث عن نزوع الثقافة في مصر للاستجابة إلى هكذا مؤثّرات. وهو ما يفعله الآن اللبنانيون، فيما يتظاهر السوريون بخلافه، وهم يحتفون، في الصميم، بثقافة البحر العظيمة. وبعيداً عن تلك البيئات، ظلّت الصحراء تحاصر النهرين في العراق. هل أُريد أن أقول إن (القصيدة) في العراق هي إنتاج لحالة الحصار؟ أظنُّ أن الأمر لا يبتعد كثيراً عن ذلك، أو هو قريبٌ مما قاله عالم الاجتماع العراقي (علي الوردي)، إن الحياة في العراق هي صراعٌ مستمرٌ بين البداوة والحضارة. في هذا السياق تندرجُ أهمية شاعر كبير بحجم (سعدي يوسف)، شاعرٌ تستحضر قصيدته الحضور الفاعل لمخيّلة مواطنه العظيم (بدر شاكر السيّاب)، والأهم أنها جزءٌ أصيل من مخيّلة الشعر – القصيدة في بلاد ما بين النهرين. وفي هذا السياق، كذلك، يندرج قسم مهم من مقال (عباس بيضون) الذي لاحق فيه غضب (سعدي) من الثقافة والمثقفين في العراق. لكن ما يُلفت الانتباه حقاً في مقال (بيضون) هو أمر آخر، لا أظن أن (سعدي يوسف) قد تنبّه إليه أثناء كتابة مقاله المنشور في (السفير الثقافي) عن " نظام المُثقّف التابع وعلاقته بتأييد الاحتلال " ؛ ربما لأن الأب (سعدي) الغاضب لم يكن معنيّاً بأن مقاله المُحتدم يطمس الفارق بين القاتل والمقتول، الضحيّة والجلاّد. وهو ما لاحظه (بيضون) بدقّة بالغة. وأنا أقرأ المقالين معاً، سعدي أولاً ثم بيضون، وقد أرجأت قراءة (الأول) أياماً وكأني أنتظر من يُعقّب عليه، هالني، حقاً، أن يكون (اللبناني) أكثر تفهّماً لنا من (العراقي)، نحن الذين بقينا في البلاد.
وأحسب أن اضطراب المعرفة بأحوال العراق عند (بيضون)، وهو أمر لا أظن إن " بيضون " نفسه ينكره ؛ فمن كان يعرف من العرب، والعراقيين المنفيين، على السواء، ما كان يحدث في العراق، هذا الاضطراب يعطي مقال " بيضون " قيمةً مُضافة غير سياسية، وغير معرفية كذلك، هي قيمة إنسانية هذه المرة، تستبعد الحمولة السيئة المرافقة، بالضرورة، لكلمة (اضطراب). هل أُريد أن أُجامل اللبناني على حساب الأب العراقي، ربما؟ لكن المؤكّد لديّ أن (بيضون) يصدر في مقاله من اللحظة الأخرى، مما لم نعشه سابقاً، وقد أقول من اللحظة التي نبدأها الآن. نحن الآن نخرجُ من الدكتاتورية إلى العراء، أو بأدق، إلى الوهم، بينما خرج اللبنانيون، ومنهم (بيضون) بالتأكيد، من الحرب المعلنة إلى أخرى مستترة يتخوف الجميع أن تستعيد مظهرها العلني. وربما لأجل هذا يريد أدباؤهم طرد الحرب من نصوصهم. ولنتأمّل هذه المُفارقة، إن الحرب لم تُنتج الدكتاتورية في لبنان، أو أن الأخيرة لم تُنتج الأولى، ولم تؤّدِ عندهم إلى إنتاج نمط غير مسبوق من الخوف أشهد أني عشتُ تفاصيل موسّعة منه، كان آخرها أن الخوف استعمر مُخيّلتي، بينما حدث العكس عندنا، أن الحرب هي الذاكرة الباقية للدكتاتورية. خرج اللبنانيون من حربهم بنصٍّ آخر يتجاهل الحرب، ويُريدُ، بتعمُّد، إخفاءها، بينما تؤلّف الحرب عندنا نصّاً رئيساً يحتل المسافة الأكبر في الثقافة العراقية الحديثة. وما بين النصين فارقٌ مؤكّد يُشبه إلى حدٍّ بعيد الفارق بين خوف اللبناني بأثرٍ من الحرب، وخوف العراقي بأثرٍ من الدكتاتورية. ومثله فارقٌ آخر في نوع الحرب ذاتها، حربنا نتاج الدكتاتورية بعيداً عن المدينة، في المقابل إن حرب اللبنانيين هي نتاج فشل المدينة ثم دمارها. نُدرك الآن أن المدينة لم تكن سوى وهمٍ آخر، وهي الآن تُنتجُ الحرب لدينا بعد أن رحل الدكتاتور. هل سبقنا اللبنانيون في أمرٍ؟ أعتقد ذلك. هم يفهمون أموراً تحدث الآن عندنا، القتل على الهوية مثلاً، وهي إحدى مظاهر موت المدينة عندهم، قبل حين، وعندنا الآن. لأجله، ربما، يبدو اللبنانيين الأكثر تفهّماً من سواهم في العالم العربي للنص العراقي، وللعراقيين عامّةً. يكتب (بيضون) تعقيبه، ولا أقول رده على الأب (سعدي)، من لحظة سابقة بعيدة، حتماً، عن لحظة الدكتاتورية، لماذا لا أقول البعيدة عن الخوف الناتج عنها؟ ويبدو الأمر مثيراً، أن نجد (بيضون) نازعاً في مقاله، ضمناً وظاهراً، إلى تمثيل الخائفين، وهم من يُسمّيهم بـ(المظلومين). يدفع (بيضون)، ضمناً، صفة (المظلومين) بعيداً عمّن بقي في العراق، ويٌقرّبها أكثر إلى من غادره. هو يعترض، بكياسةٍ، على ظُلم الأب (سعدي)، داعياً إيّاهُ، أن يرى المظلومين بعين الأب. وفي الظن أن استبدال كلمة (المظلومين) بـ(الخائفين)، ثمّ، استعمالها وصفاً لمن بقوا في العراق، أو، من غادر منهم، هو أكثر ما سيُثير الأب (سعدي) في كلام (بيضون) ؛ وهو الشاعر اللصيق بحياة المظلومين عندما كان شيوعياً مثل سواه، أو عندما أصبح "الشيوعي الأخير". وقريباً منه، إن كلمة (المظلوم) ذات سيولة عالية في خطابات العراقيين لثلاثين عاماً خلت من معارضين لنظام صدّام – البعث سابقاً، ثمّ للاحتلال. الجميع يتّفقُ على توصيف العراقيين بأنهم " شعبٌ مظلوم ". فما الذي حدث للشيوعي الأخير حتى يبتعد جغرافياً وثقافياً عن حياة المظلومين؟
في الحقيقة، إن (بيضون) يقلبُ كلام الأب (سعدي) رأساً على عقب، وتلك مُفارقة أن يقلب اللبناني كلامنا نحنُ العراقيين ويعود به إلى الأصل في المسألة، إن تاريخ العراق، الثقافي قبل السياسي، يُحيلُ، ضمناً منذ عام 1958، وواضحاً منذ 8 شباط 1963، وهي ليلة القبض على العراق، وحتى الآن، وبالتأكيد، سيبقى هكذا، إلى نزاعٍ مرير بين الضحيّة والجلاّد. من هم الضحيّة، ومن هم الجلاّد؟ لا أعرف، وأعتقد أنها قصة أخرى يعرف الأب (سعدي يوسف) تفاصيلها أكثر منّي، أنا الذي وُلدت بعد أن أصبح (الأب) في الأربعين من عمره المديد. ومن بعضها أنه يعرفُ جيداً لماذا قطع (من يعرفهم سعدي أكثر مني) أصابع اليدين للفتاة ذات الأربعة عشر ربيعاً؟ ذات ظهيرةٍ واطئة، كما يكتبُ (علاّوي كاظم كشيّش) ابن كربلاء، كنتُ أنتظرُ صديقاً في أزقّة البلدة القديمة ثمّ أُزيحت الستارة من خلف الباب الموارب لأحد البيوت المُجاورة. والمُصادفة أني كنتُ أنظر إلى ذلك الباب، ورأيتها، أخرجت، في البدء، شيئاً من رأسها، ثمّ بعضاً من وجهها واستكانت قليلاً، ومدّت، بعدها، يدها اليمنى تبحثُ عن شيءٍ ما دون أن تُخرج رأسها بالكامل، وكان من الواضح أنها تبحث عن الإناء المُخصص للقُمامة. كانت يدها بلا أصابع، ثمّ، فجأةً انزاحت الستارة عن رأسها، ارتدّت سريعاً خلف الباب، وظهر الصديق، أشرتُ إليه أن تلك المرأة، جارتهم، قد تحتاجُ إلى المساعدة. تقولُ الأم، والدة الصديق، إن تلك العجوز كانت زميلتها في المدرسة، أخذوها بعد أيام من ليلة شباط، وأعادوها فاقدة البصر والأصابع. سألته لماذا البصر والأصابع، والأحرى أن يأخذوا منها شيئاً آخر؟ قال إنها كانت فنانة تشكيلية بارعة، قطعوا الأصابع حتى لا ترسم، ثمّ العيون حتى لا ترى الألوان. لم تكن (أم غايب)، كما سمّاها الصديق، شيوعيّةً، وهي لا تعرف حتى الآن شيئاً ذا قيمة عن (الشيوعيين والبعثيين والضباط الأحرار) – حسب بطاطو، جلست من يومها في البيت، تنتظر الذي يأتي ولا يأتي. في الظلام الأبدي ترسم (أم غايب) تاريخاً لا أقبح منه في المنطقة. يعرفُ الأب (سعدي) أكثر حقائقه المؤكّدة، وهو العارف بتاريخ البلاد والعباد أكثر من صبيٍّ طائش مثلي. يهزُّ (الأب) رأسه مُستنكراً، وربما مُستهجناً، ولا بأس... نعم أبتي ذهب الذي ذهب (هل حقّاً أنه قد ذهب؟! كانت الأغنية في الثمانينات تقول: ذَهَبْ... ذَهَبْ... كًل شي إببلدنه ذَهَبْ، وكُنّا نقول، نحنُ الصغار ولازلنا: ذَهَبَ... ذَهَبَ... ذَهَبَ كُلُّ شيءٍ في بلادنا ذَهَبَ إلى جهنّم). أبتي لقد ذهبت البلاد إلى حتفها، ونحن وأنا منهم بالتأكيد، أتفهّم حُزنك النبيل على مصيرها الفاجع، أنت الإنكليزي بعد أن حصلت على الجنسية البريطانية، تتألّمُ لأجلها. هو موقف إنساني ينبغي علينا، نحن من بقينا في قعر جهنّم، أن نُشيد به، مثلما علينا، كذلك، أن نُصفّق، بصخبٍ بالغ، هذه المرّة، لـ(هارولد بنتر) الذي عارض، بدوره، احتلال العراق. ولكنه البريطاني أباً عن جد، لم يقل عن (بريطانيا) ذات التاريخ القذر في احتلال الشعوب، ومنها، للأسف، شعبك، عفواً.. نسيتُ أن شعب العراق لم يعد شعبك، أنت قُلتَ، ولستُ أنا، إن العراق لم يعد جديراً بأن يكون وطناً لك. هارولد بنتر لم يقل عن (إنكلترا) كلاماً مثل هذا، وهو يعلم أكثر منك، هو البريطاني أباً عن جد، أن لا تاريخ أبشع من تاريخ بلاده في احتلال الشعوب ونهب أحلامها قبل ثرواتها. للأسف، أيها الأب، إن كثيراً من الحقائق المؤكّدة تتسرّب الآن من ذاكرتك. ولا بأس... فقد بلغت السبعين ولابد أن ذاكرتك أخذت تفقد بعض ما تعرف، تنسى أن شاعراً عراقياً عظيماً هو (محمد مهدي الجواهري)، قد وصف بريطانيا في حاضرتها، بأنها (Dirty). المؤكّد لديّ أن شاعراً كبيراً مثل (بنتر) لم يقرأ مذكرات (الجواهري)، ربما يكون قد سمع به، لكنه لم يقرأ وصفه لبلاد بنتر بريطانيا بـ(القذرة). لو عدت الآن، وأنت تعرف الإنكليزية بطلاقة إلى خطاب (بنتر) أمام لجنة نوبل التي منحته الجائزة، ستجد أنه قد تضمّن إشاراتٍ واضحة تصف سلوك ساسة بلاده بـ(القذارة)، لاسيما ما يتعلّق منها باحتلال العراق. (بنتر) لا يساوي، كما تفعل أنتَ منذ أربع سنوات، بين البلاد وساستها، الثقافة والمُثقّف. وأنت تعرف أن هناك فارقاً يتّسع، باستمرار، بين بلادٍ مثل العراق ودكتاتورٍ أحمق مثل (صدّام)، وهو ما يتكرر حدوثه الآن من تباين مفضوح وكارثي بين البلاد ومن يحكمونها، ومثله حال الثقافة وبنياتها في العراق إزاء أجيالها المختلفة والمتباينة فيما بينها، ولكن لا بأس، فان هذا الأمر يحدث كثيرا في ثقافتنا العراقية الراهنة. وأنا لا أريد ان أحاسبك عليه، رغم اني اعتقد انه لا ينبغي على مثقف كبير وشاعر عظيم مثلك ان يسقط في فخ المماثلة بين البلاد وساستها، الثقافة وأجيالها. مثلما لا ارغب ان أحاورك في أرائك السياسية، لا سيما ما يتعلق بقضية احتلال العراق بلادك السابقة. هو امر اخر قد لا يعنيك الان كثيرا بعد ان أصبحت موطنا انكليزيا صالحا، هكذا قلت في مهرجان شعري استضافته إحدى الدول العربية. بالتأكيد انك حضرت المهرجان كشاعر عراقي، لم يعنيك، قبل ان تفتخر بجنسيتك الجديدة، ان تصحح للقائمين على المهرجان انك لم تعد عراقيا. ولكني لا افهم، أبتي، كيف تكون انكليزيا وتكتب باللغة العربية؟ حتما انا مرتبك لأثير سؤالا صبيانيا مثل هذا، فان العراق ليست البلاد الوحيدة التي يتكلم اغلب سكانها اللغة العربية، هناك الكثير منها في المنطقة، ومنها، حتما، البلاد التي استضافت المهرجان. حتما، أنا مرتبك وذهني مشوش ؛ لأني لا استطيع ان أعقل ان شاعرا عظيما مثلك ستبدل وطنه كما يستبدل حذاءه لمجرد انها سقطت تحت الاحتلال الأجنبي ! الم تكن هذه البلاد نفسها، قبل سنوات، تحت الاحتلال الوطني، الاحتكار البغيض للحياة، أنت نفسك قد كتبت مثل الكلام في اغلب افتتاحيات اعداد مجلة "البديل"، التي أصدرتها مع طائفة واسعة من الكتاب العراقيين الديمقراطيين في ثمانينات القرن الماضي، وقد خرجوا الى " المنفى " بعد ان لم يعد الوطن سوى سجن صغير. أصبحوا، ألان، بعد ان احترق الوطن ولم يعد هناك من منفى، مجرد تابعين، هم عندك جزء من نظام المثقف التابع. ولكن مهلا، أيها الأب، أنا لا افهم لماذا لا تكون أنت، كذلك، مثقفا تابعا، بماذا تختلف عن خمسمائة مثقف عراقي استجابوا مطلع الثمانينات لندائك بزعم نقاذ الثقافة العراقية والوطن من الدكتاتورية، فيما تولت بيروت " المدينة " المحترقة، آنذاك، ان توفر لكم بين رصاصة لم تصل وأخرى طاشت في الطريق فرصة للقاء والحوار؟! كتبت في " خطوات الكنغر "، هو كتابك وليس كتابك، ان مثقفي النظام اخذوا يضيقون عليك الخناق، ذهبت إلى البصرة، مدينتك، تجولت هناك، ثم، قررت ان تذهب إلى " المنفى ". لقد ذهبت إلى المنفى فيما كان على الآخرين ان يذهبوا إلى جهنم، وغيرهم إلى الجنون، وثمة فئة ظالة خارجة عن أي اعتبار فضلت ان تنتظر التماسيح الصغيرة تحت أعمدة الهاتف المعطلة لتلعب معها لعبة الاستغماية. كنت احدهم انتظر، مثل غيري، تمساحة صغيرة أسير وراءها، وفي الباص أدنن في مقعد خلفها أبيات من " نهايات الشمال الإفريقي ". أسال نفسي ألان: هل كنت، آنذاك، أدنن نهاياتي، أم، أدنن نهايات بلادي، أم، أدنن نهايات تمساحتي؟ ! بعد حين أدركت ان قصص الخوف متشابهة، تماما، مثل قصص الحب عندنا ذات النهايات التعيسة.. قصة الحرب عندنا تشبه قصة السلم. نذهب إلى الحرب لتبقى بطون أولادنا ممتلئة وأسواقنا عامرة ومقاهينا مفتوحة، ونعود إلى السلم لتبدأ عندنا حرب الجوع. احد الذين لم تلتقي بهم، ولم تسمع عنهم، كان هناك في الأقبية المظلة، حفظ الكثير من أشعارك العظيمة قبل ان يصطادوه، قال لي في ليلة باردة، انهم كانوا يمنعون عنهم الطعام لثلاث ليالِ، ثم يسوقون وجبةً منهم إلى "الإعدام"، بعدها يأتي اللحم الطازج، وقد طبخ بمهارة بالغة: تفضل كل ألان لحم أخيك المعدوم. هذه قصة من الوطن، فهل تشبهها قصة من المنفى؟ اجزم بخلافه.. إذن لماذا تعتقد ان قصتك تختلف عن قصص الآخرين من المنفيين والخائفين على السواء ! قصة مظفر النواب، او، قصة فاضل العزاوي، مثلا، هم أصدقاؤك، وأنت تعرفهم أفضل مني، وقد أقول ان قصصهم أكثر تماسكا من قصتك، على الأقل لم يستبدل احدهم وطنه بآخر، ولم يكتبا مثلما كتبت عام 1999 في دمشق إلى " توني بلير " تطلب منه ان يتدخل بوصفه الراوي العليم وينهي قصة الديكتاتور وحزبه الكارتوني. تستيقظ، الان، للتو وتكتب، على عجالة، ان تاريخ الثقافة في العراق هو تاريخ المثقف التابع. لا بأس عليك.. فان " بلير" الساسي المخضرم قد فهم ما عليه ان يفعله، الست " سعدي يوسف " احد اعظم الشعراء العرب، والمثقف العراقي التاريخي بعد رحيل " الجواهري "، يطلب منه، ألان، يتدخل لينهي قصة سخيفة طالت دون مسوغ. لا اعتقد انه من المهم ان نعرف اية قصة عنيت ؛ لان القصص العراقية متشابهة. هكذا تريد ان تجعل قصصنا متشابهة: قصة الديكتاتور تشبه قصة الضحية، قصة الوطن ليست سوى قصة أخرى عن المنفى، قصة ثقافة الحرب والكراهية هي ذاتها قصة ثقافة "البديل". فجأة، أبتي، تنسى أطنانا من الأوراق التي حبرها المثقفون العراقيون في المنفى دفاعا عن الثقافة العراقية البديلة، كان الديكتاتور، آنذاك، يجلد البلاد بهستيرية بالغة، وكنت، بدورك، تجلد أولئك المثقفين كي ينتجوا المزيد من الثقافة البديلة. تخرج ألان من شيخوختك وتصرخ في الشارع الفارغ من مارة لا يعرفون لغتك العربية، تقول بغضب لشبح يبتعد عنك مسرعا: لم تكن سوى ثقافة التابع. هكذا، دون مقدمات نكتشف ان الثقافة البديلة لم تكن سوى جزمة الديكتاتور الوسخة، بينما علينا ألان ان نقنع ان الوطن لم يكن سوى قصص رديئة التأليف، رديئة القيمة، رديئة الإخراج. كم من قصة أخرى علينا ان نسمعها لنصل إلى القصة الأخيرة؟ مائة، ألف، لا ادري، لكني اعرف ان السيد "بلير" قد أدى ما عليه من واجب، هو ألان في مهمة أخرى، لكنه يستطيع، كما أظن، ان يحقق لك الرغبة الأخيرة، ان يطلب من جنوده، عفوا.. الذين كانوا جنوده في البصرة، مدينتك، بان يسمحوا لك بالتجول في مدينتك من جديد، بعد سبعة وعشرين عاما من المنفى تعود الى البصرة، لتعرف ما كان عليك ان تعرفه في جولتك الأخيرة قبل ان تذهب إلى المنفى. تقف هناك، تلتفت يمينا ثم شمالا، لا احد يعرفك في ساحة "سعد"، فقد ذهب الذين تعرفهم ويعرفونك، البعض منهم ذهب الى خيبته، والآخر ذهب إلى حروب لم تبدا حتى ألان. تتضجر من الرطوبة الخانقة، ثم، تقترب من صبي مثل أي غريب يعود الى المدينة التي كانت مدينته. الصبي ذو الخمسة عشر ربيعا يضرب مترنما "تنكة" الزيت تحته، تسمعه يدنن، تماما، مثلما كنت افعل قبل عشرين عاما. لا بد انه ينتظر تمساحته الصغيرة، ستخرج بعد قليل. تقترب أكثر، تسمعه بوضوح هذه المرة:
افيش يا ديرة هلي.. افيش يا رطوبة هلي.. افيش يا قصة هلي.
تقول لنفسك، للصبي، لساحة سعد، لبلاد لم تعد بلادك: ولكن ما الذي أتى بي إلى البصرة؟!