الملحق الثقافي سعدي يوسف في بيت الشعر* طباعة

وليد الزريبيكنت
أريد أجنحة وطرتُكأن اسمي الطائر الجوّاب...بمثل هذه الكلمات كانت حياة الشاعر العراقي سعدي يوسف اقامة دائمة في السفر ورحلة تكاد لا تنتهي  وبمثلها حلّ الشاعر المهاجر بيننا فكيف يمكن للمكان بعد ذلك ان يكون محايدا؟ وكيف يمكن للأمسية التي أجراها هذا الشاعر الكبير في بيت الشعر التونسي يوم السبت 08 ديسمبر 2007 على الساعة الرابعة مساء أن تكون أمسية عادية وقد أثثتها ثلة من كبار الشعراء في تونس والعالم العربي جاؤوا من بعيد احتفاء بالشعر وبسعدي معا، وجاؤوا اعترافا بجميل الاستاذ الذي علّمهم الطريق ويكفي ان نذكر هنا الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش

والشعراء منصف المزغني، منصف الوهايبي، محمد علي اليوسفي وأولاد أحمد...وقد افتتح الأمسية مدير بيت الشعر منصف المزغني بكلمة ترحيبية عرّج فيها على تجربة الشاعر الضيف ورحّب خلالها بضيوف تونس وضيوف بيت الشعر الذين اختلفت أسباب مجيئهم فمنهم من جاء لمصافحة أستاذه من جديد مثل درويش ومنهم من جاء بهاجس التعرف الى جديد سعدي ومنهم من جاء لرؤية هذا الهرم الشامخ والاستماع الى صوته للمرة الاولى. فرصة تاريخية سمح بها الزمان والمكان عشية ذاك السبت وقد لا يجود بمثلها مرة أخرى.أما عن كلمة منصف المزغني فقد جاءت في حجم الضيف ومنها نورد المقطع التالي: «أرحّب بالحضور في هذا اليوم الذي أعده من أيام الشعر النادرة والاستثنائية مع شاعر معلم ماهر هو سعدي يوسف، كما أشيد بالحضور المميز الذي يترجم عن حب بات مفقودا بين الشعراء. أرحّب بمحمود درويش هذا الشاعر الذي أحببناه في تونس وألفنا شعره وكرّمه سيادة الرئيس وها هو يحضر في أمسية أخيه سعدي يوسف وهي لمسة حب باتت مفقودة في أيامنا هذه بين الشعراء.إن حضور سعدي جاء بمبادرة من شركة فضاءات للانتاج الفني حيث استضافه صاحبها الكاتب والروائي ظافر ناجي. كما أرحب بإخواني شاعرات وشعراء واعلاميين وأحباء شعر». اثر هذه الكلمة دُعي الشاعر والاعلامي وليد الزريبي الى تقديم الشيوعي الاخير ولا نعني به سعدي هذه المرة بل نعني عنوان كتاب صدر ضمن سلسلة أعمال بيت الشعر التونسي هو عبارة عن محاورة جمعت وليد الزريبي بسعدي منذ سنوات سافر فيها الاثنان في مجاهل الكتابة والفكر والابداع وفتح من خلالها المحاور كتاب القلب وكتاب الذاكرة وكتاب المكان فجاء الحوار عبارة عن قصائد هايكو تكثفت فيها أكثر من ثلاثة وأربعين سنة من الترحال ومن الكتابة ومن الالم خاضها سعدي يوسف منذ سنة 1964 لحظة مغادرته للعراق بلا رجعة.ولما كان اختيار المرء قطعة من لحمه قد أخذ المحاور على عاتقه كرم اهدائنا مختارات من قصائد سعدي الاخيرة التي وردت في ديوانه الاخير الموسوم بالشيوعي الاخير يدخل الجنة. ومثلما جاء الكتاب مكثفا شيقا جاءت كلمة وليد الزريبي شعرية قليلة الكلمات كثيرة الظلال والمعاني:لم يسبق ان كتبتم رسالة عشق.أو فكرتم يوما في الانتحار.فكيف اذن، تجرؤون على القول إنكم عشتم؟؟هكذا عرّج شاعر البوسنة العظيم عزت سراييج ذات مرة بمحاوره المتحمس الوطني الغيور، صوب مدارات أخرى، دافعا بالسؤال المسكوت عنه الى أبعد فجاج معانيه، دون ان يسقط من حسابه ان وطن الشاعر الاقرب هو قلبه.تستحضرني غربة عزت سراييج في وطنه المنفى، وأنا أبحث حائرا عن عبارات مناسبة أقدم بها هذا الطائر المهاجر، طوعا واكراها.لا شك ان الذي قدمه سعدي يوسف للشعر العربي اكثر جلاء من استحضاره ويكفي انه مبدع من طينة نادرة، وعراقيّ طينا، وضارب في أرض الله الضيقة، هربا او تهريبا من وطن يقطع فيه الشريان والوريد صباحا مساء.انه يحمل معه وزر ذنوبه الابداعية في أقفاص صدره ودفاتره، وما خفّ حمله من أغراض، لا تملأ حقيبة صغيرة، نصفها حسرات، ونصفها الآخر صور أصدقاء وأقارب وأحبّة. ثلاثة أرباعهم حلّقوا قبل الاوان، كما الطيور التي تستعجل السفر...المنفى...صوت يسوط الكبد والقلب المكلوم... شتاءات لا نهاية لغيمها الداكن ووشوشة كائنات أليفة، تكاد لا تستأنس الجدران.المنفى... رحلة لا نهائية صوب الضوء في غياب النجم المبين، سفر عكس اتجاه الشمس، أنين نشيج وتغريد بلبل بعيد يشد الخيط الواهي عزاء يزيد الرغبة في ترك الشهقة تنزلق من العين والعبارة والوتر والصدر والشفتين.المنفى... لا يمين ولايسار... انه حث الخطى، صوب تلك الدار.. قبل ان يتذكر أحدهم بحسرة، أن الدار لم تعد هي تلك الدار.المنفى... ان تمشي على نفس الجسر ـ جسر بروكلين ـ ألف مرة، وتعود من نهايته ألف ألف مرة... وفي كل مرة تزعم انه لم يبق الا القليل.هو من عرفتم.. وها هو كما عرفتهم.. كلماته شاهدة عليه... وعليكم.وبعد كل هذه المقدمات التي لونت المكان بحنين الشعر وبريقه وخفتت من حدة انتظار أضحى غير ممكن ساد الصمت القاعة وصار الاستماع الى صوت سعدي نداء أكبر من هذا الصمت. فدعي الى قراءة الشعر ومعه دعي الحاضرون الى السفر فقام الشيخ السبعيني بكل براءة الأطفال وبهجتهم ليمثل في حضرة المصدح بصوته الخافت كشعره تماما وضحكته المدوية التي لم تغادره رغم كل هذه السنوات ليقرأ بعض قصائده الجديدة جاءت خارقة للسنن  والقوالب الجاهزة كعادتها مستفزة لمتلقيها مثيرة للرغبة في السؤال. فلم يكن من الحوار بُدّ بعد الحيرة الملتحمة بالدهشة والاعجاب في آن التي ارتسمت على وجوه الحاضرين، ولعل هذا الأساسي في مثل هذه الزيارات فنحن نقرأ قصائد سعدي ولكننا لا نتعرف الى رؤيته للكتابة وموقفه منها كل يوم. فتدخل الشعراء جميعا ولاسيما الشبان منهم وأجاب سعدي بكل حب وبكل اهتمام وجدية رغم اختلاف الاسئلة وتنوع مستوياتها.أما في الجهة القصية على يسار الشاعر فقد كان محمود درويش بصمته وانتباهه الحاد أكثر كلاما من الحاضرين.ولعلها خير دليل على انتباه التلميذ لأستاذه وسكونه في حضرة الشعر.أما الآن وقد انتهت الامسية فلا يسعنا الا ان نستحضر مقطعا من قصيدة الاحفاد لسعدي يوسف:أدخلتني في زهرة الرمان ثم مضيت عنيوتركتني بين التويجة واللقاحتركتنيأعرفتي أني سائر في زهرة الرمان آلاف من السنواتأفتح في التويج مدينة قروية وتعاونية مستريبينالسماء قريبة وبعيدة أرضي.فلعل تونس تلك الارض القصية التي حط عليها هذه الفترة الطائر الجواب فشكرا لفضاء أوسكار الذي يشرف عليه الروائي والاعلامي القدير ظافر ناجي وشكرا لبيت الشعر على هذه البادرة التي نرجو ان تتكرر وتفتح الشهية لمؤسسات ثقافية وسياحية أخرى للنهج على منوالها.