سعدي يوسف ... الموقف والخصوصية طباعة

  عبد العزيز المقالح
 الحياة - 14/11/07
 لم يسارع إلى بغداد بعد سقوط التمثال، ونأى بنفسه عن أن يدخل مع الدبابات الغازية التي اجتاحت ارض الرافدين، لأنه كان معارضاً وطنياً صادقاً. لم يذهب إلى بيروت، وعدن، ولندن للنزهة وانتظار الظروف الاستثنائية، ليعود إلى بغداد كي يشارك في اقتسام الغنائم، ولهذا فقد تجدد زمن معارضته ضارباً عرض كل الحوائط بالنصائح الغبية التي تقدم بها بعض رفاق الأمس، بأنه ليس من الحكمة في شيء الوقوف في وجه القوة العظمى الوحيدة في الكون!

  ذلك هو الشاعر الكبير سعدي يوسف، ابن العراق الذي يرفض أن يستبدل جسداً مريضاً بالسرطان بجسد مريض بالحمى، أو أن يبادل الجرح النازف بالغنغرينا. ولم يدر بخلده يوماً أن كابوس الديكتاتورية لا خلاص منه إلا باحتلال أجنبي، ينزع النوم عن أجفان الوطن والأحلام من رؤوس أبنائه الطيبين الذين أوقعهم هيامهم بالحرية في اكثر من فخ، وأكثر من تجربة فاشلة. ولم يكن سعدي يناضل من اجل مطلب شخصي، أو منصب أو جاه، كانت الحرية والحياة الكريمة لفقراء وطنه هما الهدف الذي رافق نضاله الطويل منذُ مطلع شبابه وحتى مشارف شيخوخته، وسيظل معه آلي آخر نبض في قلبه النبيل، ولن يخاف المنافي الباردة ما دام السرير الذي ينام عليه في بغداد أو البصرة سيكون أكثر برودة من الثلج نفسه. وسيظل يصرخ: لا للاحتلال، لا لتقسيم العراق، لا للنظام الطائفي المتعدد الرؤوس والأذناب:
  «يا رب النخل، لك الحمد/ امنحني، يا رب النخل رضاك، وعفوك/ إني أبصر حولي قامات تتقاصر/ أبصر حولي أمطاء تحدودب/ أبصر من كانوا يمشون على قدمين انقلبوا حياتٍ تسعى.../ يا رب النخل رضاك وعفوك/ لا تتركني في هذي المحنة/ أرجوك!/ امنحني، يا رب النخلة/ قامة نخلة...».
  أدرك الذين تسابقوا إلى اقتسام الغنائم أبعاد الخطأ الفادح الذي ارتكبوه في حق أنفسهم وفي حق وطنهم، وعلموا – بعد فوات الأوان – ان سلاح الميديا الأميركي الذي اعتمدت عليه الإدارة الأميركية في احتلال العراق، وتدمير كيانه الوطني والقومي هو سلاح فاسد فاشل، وأن الشعوب المسحورة بجاذبية الديموقراطية تريد أن تنالها بكفاحها هي، لا هدية مسمومة من غاز كل همه أن ينهب ويدمّر، ويعمل على إحياء ما كان قد اندثر من أمراض طائفية، وعرقية، ومذهبية، فضلاً عما يحلم به هذا الغازي المحتل من تحقيق مشروعه الكبير في تغيير خريطة المنطقة وفق هوى قديم وجديد. وكم كان الكاتب اللبناني (الياس خوري) صادقاً، وهو يصف سعدي بالشاعر الأمين المؤتمن على الحلم (سعدي الذي اختارته الغربة كي يبقى غريباً، ويستوطن الكلمات التي لبسته وجعلته شاهداً على الساعة المنقلبة، يغني العراق والفجيعة).
  وبكل تأكيد، لم يكن الدكتور جابر عصفور مخطئاً عندما وضع سعدي في دائرة الشعراء الكبار، ربما جانبه التوفيق في تضييق الدائرة فقط، أما من اختارهم من الشعراء الكبار فلا غبار على مكانتهم الكبيرة، ومنهم سعدي، الكبير بشعره أولاً وبمواقفه ثانياً، والذي امتد تأثير تجربته الشعرية على مستوى الوطن العربي، فضلاً عما له من تميز عن بقية شعراء جيله والأجيال التالية في اهتمامه برصد الجزيئات الصغيرة في الحياة، مع اهتمامه بالقضايا والموضوعات الكبرى، من دون أن يستخدم معها الألفاظ والعبارات الضخمة الفخمة، كما تميز بالالتقاط العميق لواقعه الشخصي في نماذج شعرية تتغلب على المباشرة، وتجعل الشخصي الذاتي إنسانياً يتمحور الكون كله، وكأنما حفر الأعماق بالنسبة إليه وسيلة نحو مزيد من اكتشاف العالم والآخر.
  سعدي شاعر سياسي من دون شك، لكن القصيدة السياسية تختلف، أو بالأصح تتميز عنده عن كل ما يكتبه الشعراء السياسيون من حيث الحضور المكثف للطبيعة، والصور الفنية التي تجعل من القصيدة السياسية شيئاً لا يمت بصلة آلي تلك القصائد الهادرة التي تستخدم الألفاظ الكبيرة. أما هو – أي سعدي – فيكاد يكتفي بالهمس، لا يحتفل ببذخ الكلمات والمعاني، ولهذا جاء قاموسه – على رغم ثرائه – قريباً من قارئه، ولأن قصيدته – كما أجمع كل نقاده – هي قصيدة التفاصيل الصغيرة والإنسانيات العادية، قصائد بلا أقنعة، ولا ديكورات، ولا ألفاظ فخمة، لذلك لا تستطيع أن تمحو مفردة، أو تغيرها من موقعها، وهذا هو الشعر في صورته الإنسانية المعاصرة:
  «لن أفتح نافذتي/ الريح البحرية تُغرق حتى سيقان العشب/ وتهتز الأشجار مع المطر/ الغرفة ساكنة (مزدوج كل زجاج المنزل)/ اسمع دقات الساعة:/تك/ تك تك تك/ أسمع في البعد مويجات البركة/ في القرب، مويجات أنامل.../ هل عادت، بعد سفار/ من أحببت؟».
  في السطر الرابع من هذا المقطع «الغرفة ساكنة مزدوج كل رياح المنزل» ما يعد تفاصيل التفاصيل، لكن هذه الاستدراكات وأمثالها في شعر سعدي تعطي قصيدته هذه الحساسية الخاصة، والحراك المفقود في كثير من قصائد الذين لم يدركوا مثله كيف يتعاملون مع العبارة، وهم يتأملون الأشياء من حولهم جامدة لا تنبض بروح حقيقية:
  «قارب، تلقاه على اليابسة/ ظل ينضح/ والبحر منكمش/ لائذٌ بكثافته من حبال المطر.../ قارب لن يقوم، ليبدأ عند السحر/ رحلة الصيد/ مثلي...».
  في مقال ظهر قبل أسابيع، وتعمدت نشره اكثر من صحيفة عربية، بعنوان «الشعر والجمهور» يقدم سعدي يوسف رؤيته الخاصة نحو هذا الموضوع، الذي شغل نقاد الشعر وقراءه على مدى نصف قرن ويزيد، يبدأ المقال بالحديث عن التباس العنوان، كونه يمثل استقطاباً من خلال وصفه للشعر مقابل الجمهور، والجمهور مقابل الشعر، قال فيه: «كان الشعر والجمهور قطبين ذوا علاقة هي السلب تحديداً»، ويذهب آلي القول بأنه «قد يرى راءٍ أن الحل (إذا سلمنا بأنه إزاء سؤال) هو في «الشاعر الجماهيري» أو «الشعر الجماهيري»، والتعبيران كلاهما لا يتمتعان بالاحترام حتى من لدن القائلين بهما، فالتعبيران يُنزلان الشعر باعتباره فناً، والجمهور باعتباره مستقبل فن، منزلة دنيا تتعارض أساسا، ومسعى الفن في الارتقاء بالفن والبشر آلي المقام الأرفع. كما أن الأمر يضعنا ثانية، في السياق الأمي لثنائية الفن للفن والفن للحياة».
  وبعد هذه المقدمة التي تختزل موضوعها يتساءل سعدي «ما المدخل المتاح؟» ثم يطرح سلسلة من الإجابات الذكية والموضوعية في آن: «أزعم أن الفن هو موضوع الاجتهاد. النص الشعري هو الوسيلة والغاية. الأداة والهدف. النص الشعري هو متحد الإرسال والاستقبال. النص الشعري هو المكتمل بذاته، المتضمن ذواته ما دق منها وما انتشر...الخ». ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن في الشاعر الكبير يسكن الناقد الكبير. وإذا كان سعدي لا يمارس الكتابة النقدية إلا في أحايين نادرة، فإن هذه الإشارات وأمثالها تكفي لتصنفه في مصاف النقاد العارفين حقيقة الشعر والمحيطين بأسراره.