غضب سعدي طباعة

 عباس بيضون
لا نضيف الى سعدي يوسف إذا قلنا إنه من أهم شعرائنا، لكننا نوضح أكثر إذا قلنا ان خطه الشعري، إذا جاز القول، هو الأكثر استمراراً في شعر الأجيال الآتية ومنها جيلنا. وعليه فإن دينه علينا، درينا أم لم ندر، حقيقي وأكيد. هذه بالطبع مكانة عليها تبعات. على شيخ الشعراء العراقيين تبعة تجاه الأدباء العراقيين. وعلى كبير الشعراء العرب، كما سماه محمود درويش، تبعة تجاه الأدباء العرب. لقد وجدت في تسمية سعدي لسركون بولص غداة رحيله بالشاعر العراقي الوحيد شيئاً من اعتداد الأب بالابن، بل شيئاً من انكسار الأب تجاه موت الابن. كان سعدي في قوله النبيل هذا ملء مكانته وملء تبعاته.

لكن سماحة سعدي إذا بلغت حد انكار الذات فإن غضبه قد يطال الأقربين قبل الأبعدين. لغضب العراقي اليوم اسباب جلى واي إنسان لا يغضب لشعب يهان بالتذابح الأهلي والجنون العقائدي والاحتلال والفساد السياسي الضارب. لكن غضب سعدي الوحيد المنفرد في ضاحية لندنية قد ينصب على الضحايا أنفسهم. ففي مقالته «نظام المثقف التابع وعلاقته بتأييد الاحتلال»، المنشورة في السفير الثقافي الأخير يحاكم الثقافة العراقية كلها ولا يستثني سوى قلة قليلة من الموتى، نفهم منه أن مثال المثقف التابع يشمل هذه الثقافة منذ العهد الملكي الى اليوم، هكذا يسوّط سعدي معاصريه ومجايليه ويدمغهم جميعاً بالارتزاق والتبعية، وبخاصة خدمة الاحتلال. يمكن لمراقب أن يتساءل إذاً عن سر هذه القوافل من المثقفين التي غادرت العراق البعثي وارتضت التشرد والبؤس والعيش في المنافي. يمكن لمراقب ان يتساءل إذا كان هذا الخروج الكبير المشهود يومذاك، وكان سعدي في عداده، كان شهادة على التبعية ولم يكن فراراً بالنفس والكلمة من الاستبداد. لا يبدو أن سعدي في مقالته يقيم فرقاً بين من نجا بنفسه وبين من رهنها للنظام، إذ نفهم من المقالة أن الذين خرجوا كانوا أتباعاً لأحزابهم المبنية على العسف، فمؤسسة الاستبداد لا تقتصر على السلطة، ولكنها تشمل المعارضة. لكن هؤلاء الذين اقتلعوا من حياتهم كلها، الا يستحقون بعض العذر. هل يكفي أن يقال إن أحزابهم قائمة على الاستبداد لكي لا يكون بينهم وبين ضباط البعث الصدامي اي فرق. ولكي يتساوى الجلاد والضحية، ولكي نسقط في عدمية لا نفرق فيها بين القاتل والمقتولين؟ فكل هؤلاء الذين أعدموا وانتهكت عوائلهم وتعذبوا حتى الموت او تشردوا لم يكونوا في مقال سعدي سوى مستبدين صغاراً وتابعين لأحزاب لا تفترق عن البعث وعلينا أن نشملهم باللعنة ذاتها التي نصّبها على المجرمين والقتلة؟ ألا يجازف سعدي هكذا، درى أم لم يدر، بتبرئة المجرم وحكم المقابر الجماعية؟ الشيوعي الأخير، كما يسمي سعدي نفسه، كان قريباً آنذاك من الحزب الشيوعي فهل نساوي بينه وبين جزاري النظام الصدامي وأقلامه أم أن محاكمة كهذه فاتت سعدي في حميا غضبه؟
إذاً تساوى الجميع بلا استثناء عند سعدي. وألحد القاتل والقتيل في القبر ذاته لم يعد مستغرباً أن يغدو عراق اليوم في نظره مقبرة فحسب، وألا يجد في ثقافته سوى «أنقاض ونقائض». هكذا يرجم الكل وفي ظنه أن حجارته تقع على موتى وتابعين فقط، لكن الأمر ليس كذلك يا سعدي، فثمة هناك، كما كان الوضع دائماً وفي أسوأ الأوقات وحتى في الزمن الصدامي نفسه، مواهب ومثقفون كثر ينتظرون أن تنظر إليهم بالنبل الأبوي ذاته الذي ودعت به سركون بولص. ليسوا عملاء ولا مداحين. وإذا وجد مداحون بينهم فهذا ما يحصل دائماً وليس وصمة للجميع. لكنهم يعيشون في دائرة القتل والخوف والتهديد، منبوذين في الغالب ومتروكين في الخطر، ويبقون رغم ذلك ويستمرون في الكلام رغم اليأس ورغم الظلمة. أليس في هذا إرادة حية وإرادة حرية.
لا يشفي يا سعدي ألا نجد في العراق سوى مقبرة وسوى «مجتمع مائي». العراق المهان المجروح يحتاج الى أكثر من مصادقة على موته والشعراء العراقيون الذين هم، غالباً، في خطك يحتاجون إلى أكثر من صك إعدام. أم أن الشيوعي الأخير يستعيد شيئاً من الشيوعي الأول يوم كان الوصم تقليداً؟ مهما كان أسفنا على العراق وغضبنا للعراق فإن الضحايا ضحايا والقتلة قتلة، ولا نستطيع أن ننسى ذلك إلا ببعض الاستبداد.
 
" السفير " 05.11.2007

اخر تحديث الإثنين, 19 نونبر/تشرين ثان 2007 18:22