سعدي يوسف : تأويل اللحظة الراهنة وتفكيكها طباعة

عبد الكريم كاظم
18/07/2007
Imageينبغي عليّ الاعتراف بداية بأن التفكير في كيفية كتابة هذه القصيدة، من قبل الشاعر، أرهقني كثيراً وذلك لسبب بسيط يعود إلي التشويش الذي أصاب مخيلتي وهو تشوش زاده بدلاً من أن يخفف منه القلق المبجل. هناك شعراء يتمسكون بهذه المفردة أو تلك الجملة الشعرية وما تحمله من خراب لغوي أو بناء لغوي رصين إلا أن القلق الذي يتطاول ويستطيل يزعزع

اليقين الذي تملكه القصيدة. في وقت مضي عندما كانت المفردات تدفعنا للتساؤل عن مدي قدرة الشاعر علي وضع اللغة في موضع التشكيك نزعم في ذات الوقت أنها تنطلق من أسس شعرية محضة تتعلق بأسلوب الشاعر، في الكتابة، بناءً علي معايير فنية وفلسفية محددة لكن طمس الأسباب اللاشعرية وتهميشها لصالح الأسباب الشعرية تشكل المظهر الأكثر اعتماداً للتفكير والتأمل في الأسباب الحقيقية للقصيدة، لأن هذا التوجه يجعل من الشاعر أن يطرح الشعر بديلاً عن تلك الاضطرابات والفوضي السياسية والاجتماعية القائمة خصوصاً إذا كانت الساحة الشعرية تشهد تراجعاً وإفراغاً للعمل الشعري الخالص بفعل الكتابات الارتجالية الخاوية وبفعل المستوي الثقافي المعرفي المتدني.. وإذا كان الشاعر قد اغتني كثيراً بفضل هذه القصيدة أو تلك إلا أنه قد خلق مشكلات لغوية لا يبدو أن تجاوزها سيكون سهلاً وبهذا سينتهي اليقين ولم ينتهِ الشك.
الشروع في بداية الكتابة يشبه لعبة الإستغماية بين النص والمعني وهي لعبة قد يدركها البعض، ولو كانت المقاربة ممكنة لكان الشاعر أكثر حكمة من لعبة تكتظ الأسرار حولها ويخلبها لمعان النص حيث القصيدة لا تعرف الشاعر لحظة الكتابة، فكلما أشتد وضوح الأشياء ازددنا عذاباً وقلقاً.
من نافلة القول إن للشاعر دوراً مهماً في خلاص الشعر من التكرار، لكن هذا الشاعر هو جزء من حركة القصيدة واندماجه معها يجعل منه أكثر شاعرية بصرف النظر عن خطاباته الأخري السياسية والأخلاقية، فالشاعر ليس حلاً سحرياً لمقولة ميتافيزيقية فقد حفل الشعر العربي عامة والعراقي خاصة بشعراء هم داخل النبوءة الشعرية حتي شملتهم القدسية، علي مستوي الكتابة الشعرية، ودخلوا عالم الشعر بامتياز وبذلك باتوا جزءاً من تراث شعري يتجدد باستمرار ولا ينتهي مثلما يسير وفق منطق التجديد هذا الذي يتجاذب بين شكل القصيدة والواقع المتغير.
إن أي انتقاد يمارس لمعتقدات حياتية مختلة يُولد لدي الشاعر ردة فعل شعرية مغايرة يمكن أن تتحول إلي نص مغاير أيضاً يستهدف الإجهاز علي التقليد والعمل علي الحوؤل دون تكراره، من هنا يظهر الشعري الخالص الذي يقربنا من النص وحين يتقهقر اللاشعري أمام الشعري تبسط القصيدة سلطتها وتتقدم وضوح الرؤية للواقع الحياتي أو المعرفي الملموس وتزداد إمكانية تقدير العوامل الفنية/الجمالية في تصوراتنا وقراءاتنا ليتكشف لنا، لاحقاً، شيئاً فشيئاً الشكل الشعري الحقيقي.
هذه المقدمة المسهبة التي أسوقها في هذا المقال جاءت نتيجة لقصيدة قراءتها للشاعر العراقي سعدي يوسف بعنوان (نبيذ سانت إيمليون Saint Emilion Wine) تحمل المتلقي الكثير من فرص التأويل والتفكيك في أيامنا الشعرية الباهتة ومن ثم جعل تفكيكها، علي مستوي القراءة، أمراً قد يشاركني فيه البعض. بداية أقول إن الطابع الغالب في هذه القصيدة هو المحافظة علي الجانب الفني الذي ينقذ الشعر من الزوائد اللاشعرية بحيث يبدو لنا في الوهلة الأولي أن الموقف العام للشاعر تجاه ما يحصل الآن في البلاد، علي كافة المستويات، شكل الأساس الفكري لرؤيته التي يغذيها حنينه للعراق بمُثُل موهومة أحياناً أو متعمدة وهو الذي لا يزال يكتب علي أساس انتظار أن يستعيد العالم صفاءه مثلما يأمل أن تستعيد البلاد حريتها وعافيتها الثقافية ليؤكد لنا في ذات الوقت إن الأمل شرط للحياة واليأس مدخل للموت.. لكن الأمل هنا ليس سراباً فقد حمل الشاعر معه، في القصيدة، بعداً جديداً مختلفاً عن العالم المحيط بنا، هو البعد الشعري علي امتداد زمن طويل أوجد أمكانية شعرية تجريبية متجددة علي تغيير وجه العالم، لنتأمل ما يقوله في بداية القصيدة بمنتهي التهكم:
ربّما ظنّني الناسُ بطرانَ:
ما سانتْ إيمليون ؟
أنت الشقِيُّ الفقيرُ المُوَكَّلُ بالبصرةِ...
اخجَلْ قليلاً !
أهذا الذي جئتَ تحكي لنا، بعد كلِّ المذابحِ؟
عن سانتْ إيمِليون؟
حقاً، إذاً .. أنت تسكنُ حاناتِ لندنَ!
غير أن الصورة المقابلة لذات الشاعر ليست أفضل حالاً، ويبدو أن التبطر أو الخجل كاعتراف تهكمي أو ساخر يجعله أكثر اقترابا وأكثر ابتعاداً عن غايته في وصف ظروف الحالة النفسية خاصة حين تقترن بمذابح البلاد المتتابعة التي تصل إلي مستوي اللامعقول، إن هذا التجريد ينطوي علي الكثير من الواقع والحقيقة ومن المرجح أيضاً أن وجود المعني قد جعل ويجعل القراءة محفوفة بالتأويل الذي يجعل، بدوره، من المعني أمراً ليس يسيراً.
ثمة مقاربات يصار إلي الترويج لها ـ داخل النص ـ تربط بين الشاعر والجنرال الفرنسي (روجكوف) تطالب التعريف به، تقتصّ غالباً، ليس من قبل الشاعر وحسب بل من قبل حالة التذكر وفي أفضل الحالات من الاثنين معاً علي اعتبار إن حالة التعريف أو التذكر لا تبقي مجردة من تفاصيلها الماضية والتي تتضمن مسلمات لم تتغير أبداً في أساسها الواقعي أو حالتها المستقبلية ويظهر لنا في هذا الصدد الكيفية الجمالية المستخدمة في النص منطلقاً وتبريراً بالمعني الشعري للكلمة، لنقرأ هذا المقطع :
صبراً!
ألم تعرفوا الجنرالَ الفرنسيَّ روجكوف؟
Rougecoff
كان في البصرةِ...
الجنرالُ الفرنسيّ روجكوف قد جاءنا من نخيلِ السماوةِ!
)أحكي عن الـ 91... (
كي يقطعَ الخبزَ والماءَ عن قَطَعاتٍ عراقيةٍ بين خَورِ الزبيرِ وسفوانَ ...
والجنرالُ الفرنسيُّ روجكوف كان يحبُّ النبيذَ
وكانت له في المساءِ زجاجتُهُ:
سانتْ إيمليون...
أمّا أنا... الحارسُ الأبديُّ المُوَكَّلُ بالبصرةِ النخلِ
فالليلُ لي
ليلُ هذا السبيلِ العجيبِ
السبيلِ الذي ينجلي
في زجاجِ القناديلِ
في قطرةٍ من نبيذ...
ثمة هامش/تضمين ليس له حدود في النص يمارس دوره في المعني وفق ملاحظات الشاعر التي تجعله أكثر تقبلاً من قبل القارئ ـ دون أن يقصد ذلك ـ بحيث يجري تغيير صورة النص ومعناه وفق دينامية شعرية تحول دون أن تظهر مجاورة للمعني المراد به من قبل الشاعر، هذا الهامش قد يبدو فيه الشاعر متشنجاً لكنه في ذات الوقت يبهر المتلقي ويجعل منه أسير نص جمالي منظم الأفكار والمعني، ويبقي الوصول إلي المعني الموجود في الهامش أحد شروط القراءة المتفحصة وليس كلها، يبدو لي أحياناً أن هذا الهامش يترك آثاراً عميقة في الحس النقدي إذا أدركنا ضرورة وجوده في القصيدة ما يجعل منه فكرة طيعّة للتحريض النقدي أيضاً، لنقرأ ما جاء به :
)علي كاتب السطور أن يتدخّل الآن. ليس لأن النصّ اكتمل
بل لأنّ النصّ يبدو كأنه اكتمل. سيفرح أحدهُم ويقول:
ألم أُخبرْكم أن سعدي يوسف يقع في فخِّ اعتياداتِه؟
كاتبُ السطور يقول: الأمرُ حقٌّ. لكن سعدي يوسف
حذِرٌ أيضاً. بمعني أن بمقدوره إنقاذَ سُمعتِهِ في اللحظةِ
الأخيرة(
في المقطع الأخير من القصيدة نري الحرب وهي تأتي إلي غرفة الشاعر مثلما تأتي مدينته البصرة ومثلما يختنق ليكتب أو ليصرخ متسائلاً: (الشاعر الآن يلهث أين الهواء؟) غير أن فكرة الصراخ أو الصراع هذه تأخذ عن سعدي يوسف طابعاً متقارباً في الزمان والمكان وحتي في الاستجابة الشعرية وبدون هذه الأخيرة لا معني للصراخ فالقصيدة لا تكتمل إلا باكتمال حالتيي التفكر والتأمل وهما تؤججان تلك الاستجابة وتدفعها إلي تعميق التماهي الشعري بحيث نلمس بوضوح صدي هذا النص عند الشاعر والقارئ معاً، فالشاعر يتبني المعني ويعطيه مضموناً أكثر جمالية أما القارئ فيميل إلي تلمس الفكرة وتتبع خطوات الشاعر الذي يلجا إلي الرمزية في بعض الأحيان، لنتتبع هذا المقطع من القصيدة:
هكذا سوف أسألُ نفسي:
وما شأنُ هذا النبيذِ الفرنسيّ؟ أقصدُ: ما أنا والأمر؟ إنْ كان
روجكوف يشربُه فلْيَكُنْ! ليس أمراً عجيباً ...
نعودُ إلي أولِ القصةِ:
الشاعرُ احتاجَ أن يتدرّبَ. جاءَ النبيذُ. وجاءَ مع الكأسِ روجكوف.
جاءت إلي الغرفةِ الحربُ والبصرةُ...
الشاعرُ، الآنَ، يختنقُ.
الشاعرُ الآنَ يلهثُ: أينَ الهواء ؟
)كاتبُ السطور ِيتدخّل ثانيةً:
هذا اليومَ، ذهبَ سعدي يوسف إلي أسواق تيسكو
TESCO
اشتري زجاجتي نبيذ سانت إيمليون بنصف السعر
Half price
مصادفةٌ مَحضٌ
وعاد إلي منزله بالضواحي ينتظرُ المساء(
عليه أن يحتفل بالرابع عشر من تمّوز
إن الانتظار كما يبدو من خلال ما ورد في الهامش الأخير من القصيدة يرتبط باحتفالية توحي بمنطق شعري أو حتي بمدلول رمزي يتعلق بما حصل في الرابع عشر من تموز وهو تاريخ، نعرفه جميعاً، يوفر للشاعر فرصة ما يعطي من خلالها تصوراً جديداً لذلك اليوم الذي أضحي تاريخاً لا يتجه نحو المستقبل ولا يذهب إلي الماضي، كما هو متجلٍ في الحاضر، أقول هذا ولا أدعو لاجترار الماضي كما يفعل الشاعر، فالتاريخ لا يكرر نفسه وعالم اليوم ليس كعالم الأمس ولكن الشاعر أراد التأكيد علي مسألة لا تعني بالضرورة العودة إلي تاريخ بعيد ما يبرر احتفالية الشاعر، هذه نقطــة هامة أفرزتها تجربة الشاعر، محددة بإطار شعري، النابعة من الشعور العام الذي يسود النص إذ يتمازج موضوع القصيدة، في سطرها الأخير، مع المشاعر التي يثيرها ذلك التاريخ متتبعاً فيه مصائر الأشياء.
هذه القصيدة تحيّد الأحاسيس في منظومة لغوية تتحرك وفق اتجاهين هما اللغة الشعرية الخالصة التي تتوالد ضمن رموزها الخاصة معاني الكلام ولغة الشاعر التي تتحرك ضمن أسلوبها الخاص الذي يسير وفق التجريب، والقصيدة هنا لا تختزل لتصبح مجرد كتابة أو دافع مقترن بحدث ما أو مسألة إعادة تكرار انفعالي إزاء مجردات ذهنية، فالقصيدة هنا انفعال آخر ينمو علي حساب باقي العواطف وهذا الأمر يكفي لإعطاء الشعر مثل هذا الحكم المعرفي الصارم والارتقاء بالمعني البيّن، وهكذا إذن عكست هذه القصيدة عمق اللحظة الشعرية التي تملكت الشاعر لحظة الكتابة.

شاعر من العراق يقيم في المانيا