كتابٌ في كلمة وكلمةٌ في كتاب " سعدي يوسف – مختاراتي " طباعة

 نخلةٌ مسافرةٌ من العراق المحترق .
أدمنَ العربُ الكلام والخطاب والأغاني ...
وهاجر سعدي يوسف خمسين عاماً  وراء الشعر .  يقولون في البصرة : نَمْ إذا نام النخيل " .  ومنذ خمسين عاماً  لم ينم النخيل ، ولم يحلم  ، وسعدي يوسف من منفى إلى منفى ، لا نوم ولا أحلام ، ليس إلاّ شعراً يتحرك في شوارع المدن العربية الفقيرة من الجزائر حتى عدن باحثاً في الظلام المتراكم عن ضوء قصيدة  أو نور بيتٍ من الشعر . الزمن يمرّ  ولا شيء في الأوطان يتغير ، من نار إلى فقر ، إلى حريق ...

أيها الوطنُ الأوّلُ
إننا نذبلُ
يدركُ الشيبُ أبناءنا
أيها الوطنُ المقْبِلُ ...
لا يمكن أن ترى سعدي في صالون ، ولا تبحثْ عنه قريباً من أي سلطة أو سلطان . والقويّ ، القويّ ، من يستطيع أن يعثر على جوهرة شعره خلف كل هذا القلق .
ولكنّ تقاسيم عوده أو شعره تسري هيّنةً متّصلةً بالتراث ، قريبةً إلى الناس ، روح الناس :
في ممرّ الحديقةْ
يصمت الماءُ والورقُ اليابسُ
والظلالُ العميقةْ .
في ممرّ الحديقةْ
لم تُغَنِّ العصافيرُ
والجدولُ الهامسُ
لم يُغَنِّ الحديقةْ .
يا إله الحروفِ الغريقةْ
أين أين ارتعاشُ الصدى الناعسُ ؟
يدُها في يدي
وبصدري حديقةْ .
*
في ليلة  " ملتبسة الاتجاهات " وهو وحيدٌ في تونس ، اختار سعدي يوسف أن يزجي الوقت ، فجاء بغربالٍ  ، وشرع ينخل الشعر الذي كتبه من 1955 إلى 1993 ، وأخرج ثلاثة دفاتر يضمّ الواحدُ منها أكثر من مائة صفحة . وظلّ يحمل دفاتره هذه  أينما رحل . وفي 2006  طلبت منه سوسن بشير من دار آفاق بالقاهرة أن يصدر مختارات من شعره ، ولم يكن قد صدر له في القاهرة سوى " أربع حركات " أيام محمد عيد ابراهيم .
كيف يختار الشاعرُ ، خاصة إذا كان في حالة سعدي يوسف ، يكتب الشعر في أصعب لونٍ ، وأعلى مقام ؟
يقول : أنا مستعدٌ  أن أكتفي من شعري بعشر قصائد ، بشرط أن أكتب آلافاً جديدة من الشعر  . " سعدي يوسف 40 ديواناً من الشعر ، 12 ديواناً من الشعر المترجَم ،  14  عملاً أدبياً مترجماً ، 10 أعمال بين قصص ويوميات ومقالات " .
ليس هذا شاعر مناسبات أو جوائز . إنه يبحث في نهاية النفق عن ضوء شعر أو نور قصيدة .
كيف يختار الشاعر مختارات من شعره؟
عنده الزمن . والغرَض ، والقيمة الجمالية .
سبيلُه الشخصيّ في هذه المختارات كان الجمع بين عنصري الزمن والقيمة الجمالية  . " أي أنني حاولتُ أن أضع المنجَز في سياقه الزمني كي تسهُل  متابعةُ  قيمٍ فنيةٍ معينةٍ عبر السنوات :  الصورة- التكرار – الجناس – التضادّ اللغوي – الجملة الشعرية – اللحظة السايكولوجية – تعدّد الأصوات – تداخُل الأزمنة – اللون وتدرّجاته ." .
يقول في نهاية مقدمته الصادقة البديعة للمختارات :
كلُّ حِرفيّة المهنة الشعرية
كل حياتك غير الـمُجْدية
كانت استجابةً للخيط المقدّس الذي تتمسّك به في المتاهة ، متاهة العيش العاديّ والقماءة ، هذا الخيط الذي يصلُك بالفوضى البعيدة والجميلة مثل سراب . يصلك بما يستحقّ أن تعيش من أجله ، وتموت من أجله  .
*
" زمن القتلة "  كتابٌ عن رامبو  ، كتبه هنري ميللر ، وترجمه ترجمةً احتفظت للكتاب بكل أهميته وقوّته : أحبُّ أن أضعه تحت نظر من يريد أن يفكر في حياة سعدي يوسف والغبار الذي يثار حول قامته العالية وموقفه من الجنون المرعب الذي يجري الآن في بلده ، البصرة ،  ووطنه العراق ، وموقفه اليساري الوطني الذي يراه يتفتّت إلى تراب .
ما معنى هذا الذي أكتبه ، أنا ، هنا ،  عن سعدي يوسف ،  وعن " نصف قرن من الشعر "  ، شعره الذي صاحبَ وعيي أنا ومحاولاتي للفهم والفنّ  والكتابة ؟
خلال نصف قرنٍ كنت أعود إلى قصائد سعدي يوسف خاصة قصائده القصيرة لكي أقوِّي إيماني بالفن والشعر والإنسان ... كنت أستند إلى كلماته لكي أرى ضوء فنٍّ ما في آخر النفق :
قد نبتني بيتاً فنُسجَنُ فيه
ما أبهى الحياة !
ماذا أفعل أنا ، وماذا أختار من هذه البحار ؟
لستُ ناقداً  ، وقد أكون متذوقاً جيداً أحياناً ، ولكنني  أبحث في شعر سعدي دائماً عن لحظات نورٍ :
يا ولدي
قُلْ لهم إنني أعرف الدرب
أخبِرهمُ بالذي أتذكّرُ .
بيتي على النهر ، لا شكَّ
بيتٌ به نخلةٌ
وحديقة وردٍ وآسٍ
ونافورةٌ للحشائشِ
ليمونتان ، وأرجوحةٌ  أنت تعرفُها جيدا
ولدي !
*
أيّ مدينةٍ هذي ؟
لنرحلْ خارجَ الأسوار
لنرحلْ قبل أن تمتدّ أيديهم إلينا
قبل أن تبني البنادقُ دولةَ التجّار .
*
وفي قصيدة " أميركا ، أميركا " ، يا رب احفَظْ أميركا موطني اللذيذ ... يقول :
والآن
أتذكّرُ أشجاراً
نخلة مسجدنا في البصرة ، في أقصى البصرةِ
منقار الطيرِ
وأسرار الطفل
ومائدة الصيفِ
النخلةُ أذكرُها
أتلمّسُها ، وأكونُ بها ، حين هوتْ سوداءَ بلا سعفٍ
حين هوتْ قنطرةً من نحت البرقِ
وأذكرُ فحْلَ التوتِ
يومَ تهادَى يتقصّفُ مذبوحاً تحت الفأسِ
ليمتلِيءَ الجدولُ أوراقاً
وطيوراً
وملائكةً
ودماً أخضرَ ...
*
وأختمُ مختاراتي أنا بالجزء رقم ( 3 ) من قصيدة " الأحفاد "  من ديوان " يوميات الجنوب ، يوميات الجنون " .
يقول سعدي يوسف :
طيرٌ غريبٌ فوق نافذتي
أناديه  فيدنو
ويدور في حِجْري فألـمسُهُ
فيغدو في يدي حَجراً
وتسقطُ جمرةٌ مني
فينتفضُ الجناحُ .

القاهرة 4 أبريل " نيسان " 2007
ـــــــــــــــــــــــ