الزمان) تخترق عزلة الكريستال وتعيد سعدي يوسف الي جدارية فائق حسن طباعة

Imageعشت أطول من عمري ولست نادماً علي الشعر
ليس لدينا نقد أدبي ما دمنا نفتقد النقد السياسي
لن تغادر ماحييت تلك الحكاية ذاكرتي، اذكر حينها انا الطالب الذي بدأ دراسته المتوسطه يطرق اروقة المكتبة العامة ويبحث بين المصنفات عن اسم ما او كتاب يعجز عن شرائه، فاذا بي اجد بدهشة ممزوجة بالخوف مجموعة (الليالي كلها)! كان مجرد الاشارة الي سعدي يوسف حينها يحمل مايحمل من خوف! حاصرتني الرهبة فكيف وهو الممنوع والمصادر أن يترك كتابه في مكتبة حكومية عامة! لهفتي لقراءة ليالي الاخضر بن يوسف غلبت خوفي فتوجهت الي أمين المكتبة الذي لا

(انسي بعد خمسة وعشرين عاماً ملامحه المصفوعة بالود، تقاطيع وجهه المبتسمة التي قابلت تلميذاً صغيراً يحمل كتبه المدرسية ويسأل استعارة مجموعة (الليالي كلها) لسعدي يوسف، فبدلا من كل الاحتمالات القائمة آنذاك بالمصادرة والتخويف، قابل طلبي بابتسامة مخلصة وقال (اذا استعرت الليالي كلها فماذا تبقي لنا).
كان علي أن ادفع ضعف ثمن الكتاب ليتسني لي استعارته واستعادة المبلغ ثانية بعد أعادة الكتاب الي المكتبة، أخرجت كل مافي جيبي من نقود معدنية ولم يصل المبلغ برمته الي اكثر من 500 فلس عراقي وحملت الليالي كلها بامتنان لاينتهي لامين المكتبة الحكومية العامة في بغداد كي اعرف سعدي يوسف، ليس كما يتداول اسمه في السر.
بعد عشرين عاما من الحكاية وقفت أمام سعدي يوسف في ضاحية ايلنغ في العاصمة البريطانية لندن، لاأُعرفه بنفسي واعيد سرد الحكاية عليه، لم يدم لقاؤنا اكثر من عشر دقائق، عرفت فيها الشاعر المتسق مع ذاته الودود علي عكس مايشاع عنه وذا رباطة جأش منطوية علي ذاتها، المخلص للقصيدة وحدها. كان ذلك عام 2002 تحديدأ عندما ودعته لاتامل خطاه تتسق مع المساحات الخضراء فهو الشاعر الشاعر أكثر من الشاعر نفسه!!
واليوم اذا يعد سعدي يوسف الموضوع الاكثر طلباً في الصحافة، كيف يتسني لي ادخاله في شرك (لعبتي الصحفية)؟
عليّ ان اعترف امام قارئي انني فشلت في ذلك مع انني استطعت ان ادخل عزلة الكريستال حسب وصفه لحياته الحالية واطلق عليه اسئلتي، ودودة مرة ومشاكسة في اخري ومتهمة في ثالثة، الا انه ظل مكتفياً باقتضابه وكانه يبتكر نوعاً جديداً من الشعر في اجابات صغيره ومتحمسة في آن واحد.
في اول الامر أعدته الي قصيدة كنت أشك انه مازال يحفظها فاجابني وكأنه كتبها ليلة امس، سالته:
معاناة السجين خلف القضبان

q                                       ياواصل الاهل خبرهم وقل ما انتهي/المنتهي ما انتهي/الليل بتنا هنا والصبح في بغداد... اتخيل ان هذه القصيدة تشكل علامة فارقة في تجربتك هل مازلت تتذكر أجواء كتابتها، هل تشعر بالحنين لقراءتها، ام اني اتحدث عن تجربتي كقارئ معها؟
 القصيدة، أتذكر أجواءَها. كنتُ موقوفاً في مركز شرطة السيبة، جنوبيّ البصرة، أوائل الستينيات. الاتصال بي ممنوعٌ بأمرٍ من الحاكم. كنت أستطيع أن أري " شط العرب " من بين القضبان. أحبُّ القصيدة، وأرددها أحياناً، نظراً لما تحمله من شحنةٍ غنائية.

q                           حسناً هل تتحسس وطأة الشجن الذي ولدته عند اكثر من جيل من القراء، انها ارتبطت بالسجن والترحيل والتسفير القسري وثمة مايشبه الاساطير أحيطت حولها وطريقة كتابتها؟
 نعم. أتحسّس ذلك. ربما كان للأغنية دورٌ في هذا أيضاً. القصيدة وليدة ظروفها، وأنت لا تعرفُ ما عاينتُـهُ وعانيتُـهُ من شدّةٍ وتعذيب ومهانةٍ. أساطير، لكنها حقيقية.

q                           انا اري انك ومظفر النواب لاتفترقان في تاريخ التجرية كلما تأملت تاريخك الابداعي أري انه حاضر ايضا وتحضر انت كلما قرأته هو، بالطبع لا اعني هنا التناص الشعري ابدا؟
تعرف أن علاقتي الفنية والشخصية بمظفّر تعود إلي أوائل الخمسينيات. الآن ألتقي به بين حين وآخر. أقمنا مرةً أمسيةً له في لندن. وكان سعيداً لأنني قدّمتُهُ في تلك الأمسية. مظفر علامة فاصلة في تاريخ الشعر الشعبي العراقي. ما قبل مظفر، وما بعد مظفّر.

q                           هل يغريك الشعر الشعبي عند اعادة قراءة النواب؟ هل تفكر ولو علي سبيل التجربة بكتابة قصيدة شعبية؟
أردد قصائد مظفر، وأحفظ عدداً منها. لكن لي في نهاية المطاف رأياً في الشعر الشعبي، هو ليس في صالح هذا الشعر، في المدي البعيد. إذ أني أري الشعر الشعبي نتيج مرحلةٍ متخلفة ثقافياً.

q                           هل تشعر بالندم كونك شاعراً، علي اعتبار ان الادب فن الخيبة حسب رولاند بارت؟
لستُ نادماً بإطلاقٍ! أنا سعيدٌ ومتّقدٌ لأنني شاعرٌ. الخيبة نسبية. أعتقد أن الفن مكتفٍ بذاته. أي أن المنجَز الفني هو الثوابُ الأسمي.

q                           أذن اي نوع من المسرة تمنحك كتابة القصيدة؟
تمنحني القصيدة مسرّةَ أنني أغيِّرُ في علائق الأشياء.

q                           أنك مخلص للامكنة فكلما ذهبت الي مدينة أفاضت عليك بالنص، لكن ماذا عن الذكري والحنين أنك لم تقف تحت جدارية فائق حسن من ربع قرن، فهل وضعت تلك الايام في متحف مجاميعك الشعرية القديمة؟
جدارية فائق حسن! أعتقد أن النصّ كان يمثل مرحلةً متقدمةً في مسعاي الشعريّ. قد أقف تحت جدارية فائق حسن، لأتعلّــمَ منها. نحن لسنا في زمن الأطلال!

q                           هل لك ان تصف الان المكان نفسه، حديقة الامة وجدارية فائق التي تعطي ظهرها لنصب الحرية كي لانشك بشيخوخة ذاكرتك؟
أتذكّر حديقة الأمّة، في ذلك الزمان العجيب لعبد الكريم قاسم، أتذكّرها نظيفةً، ذات مماشٍ معتنيً بها. أمّا الجدارية فإن منظرها لن يشحب. حتي الحمام الذي أطلقَ عليه الرصاص انقلابيو 1963 يظل ماثلاً.

أنا امرؤٌ طبيعيّ
q                           الشاعر فيك متسق مع ذاته، أم ثمة انسان (اشكالوي ) قائم في شخصية سعدي يوسف، لان الشغب الذي يدار حولك حاليا من قبل الاخرين لايمت بصلة لتناول شعرك، فما دور الشاعر فيك لتحمل كل هذا الضجيج الذي يدار حولك كانسان؟
ليس لديّ إشكالٌ ما، في نظرتي إلي العالَم. أنا امرؤٌ طبيعيّ. أنظر إلي الأشياء كما هي:
البلد احتلّه المستعمِرون، ونصّبوا أصحابَهم حكّاماً...
هل يراد مني أن أخالف قانون الطبيعة، لا أقول البدَهيّة السياسية؟
سأظل أعمل من أجل تحرير البلد. هذا واجبٌ أوّل.

q                           أعني الاشكالية في كل تجربتك الشعرية والانسانية لوكنت أمرأً طبيعياً لما انجزت كل هذا الكم الابداعي، من ينظرون للاشياء كما هي ليس الشعراء؟
أنا امرؤٌ طبيعيّ جداً. لكني تعبتُ كثيراً علي نفسي، وعشتُ عمراً أطول!

q                           ايضا ثمة اشكالية الشاعر والجمهور أنك تكتفي بالنص وحده ولاتري ثمة قطباً اخر يكمله، الا يعني هذا انك لاتمنح الجمهور الحق مشاركتك في صناعة النص بعد اكتماله عندك، النص يولد اكثر من مرة عند القارئ، ماذا تقول في ذلك؟
الأمرُ غير ذلك تماماً.
أنا أقدم للقاريء نصّاً قابلاً للتأويل، والقراءة متعددة المستويات. النصّ لديّ لا يكتمل إلاّ بمشاركة القاريء. وتجد شرحاً وافياً للأمر في مقالتي " الشعر والجمهور ".
 
q                           هل تعول كثيرا علي مايكتبه النقد تحديداً علي نصك، هل تعلمت شيئاً منهم ام تمر عابراً علي مايكتبه النقاد؟
ليس لدينا نقدٌ أدبي، ما دمنا نفتقدُ النقد السياسيّ.

q                           انك ابن جيل خمسيني شعري عراقي، لكنك لم تعد تنتمي له وبت تشكل جيلك وحدك، فعندما يذكر سعدي يوسف لاتجاوره اسماء اخري، هل لك ان تلغي تاثيرات ابناء جيلك عليك في التجربة والذكريات، المسرات والاوجاع... هل اكتفيت بذاتك؟
كما سبقَ لي القول، أنا اشتغلتُ كثيراً علي تطوير أدواتي الفنية، كما قُيِّضَ لي أن أعيش عمراً أطول، ولهذا اتّضحتْ صورتي الفنية.
ما زلتُ أتعلّم من بدر شاكر السياب.

q                           اي شئ تتذكر منه؟ هل رافقته في سفرة ما، هل تشاكستما هل كان ودودا معك، هل كان السياب متحيزا لك لانك ابن مدينته مثلاً؟
كنا قريبَين جداً من بعضنا. لم يمتدحني الرجل كثيراً. ذكرني مرةً واحدة باعتباري شاعراً ريفياً. لكنه كان يقرأ لي قصائد كان كتبَها للتوّ، وقبل أن تُنشَر.

q                           فهمت تصريحك الاخير بان العراق الحالي لم يعد موطني، هو عراق المليشيات والاحزاب الدينية وليس عراق المكان القائم، وبنيت ذلك علي القلادة التي تصر علي ارتدائها والتي تمثل خارطة العراق، فهل انا واهم أم علي صواب؟
حين قلتُ إن العراق القائم ليس وطني، كنت أعني أني أرفضُ أن يكون العراق هكذا: مستعمَراً، مستعبَداً...لا أحد يريد الانتساب إلي مستعمرة الرقيق.

q                           هل تلجا الي الغناء العراقي في لحظة اسي او سعادة؟
الآن لا. كنتُ أحبّ الأغاني البغدادية القديمة. فيها إحساسٌ بالدعابة، وبأجواء المدينة.

عزلة الكريستال
q                           هل تعشق وحدتك اليوم؟ هل تتحدث مع نفسك كاي انسان يعيش وحيداً أم تتحدث مع نفسك شعراً؟
أعشق وحدتي، أسمِّـيها عزلة الكريستال. أتحدّث مع نفسي؟ طبعاً! وإلاّ مع مَن؟

q                           في مجموعتك الجديدة (الشيوعي الأخير يدخل الجنة) تمارس تدريباً علي اللمس والحركة في نصوص مكثفة الايعني هذا انك تستبدل تفاصيل حياتك الطبيعية بما يعوضك اياه النص الشعري؟ الا تشك انه سيخذلك في يوم ما؟
الفنان يعيد تشكيل الأشياء، ويعتقد أنه يعيد تشكيل العالَم.
الحياة الطبيعية ليست الحياة المثلي، ولهذا يناضل الناس من أجل تغيير واقعهم، وأنا من بين هؤلاء.
 
q                           هذا الذي انت عليه دربه ام سجية؟
دُربةٌ بالتأكيشد. السجيّة في الاندفاعة الأولي فقط.

q                           المقربون منك لم يشاهدونك حزيناً أبدا؟
هذا صحيحٌ. أنا أحتفي بالحياة، وأحبّ أن أشيع الغبطة حولي.