ديوان يطرح أسئلة ... سعدي يوسف متقمصاً شخصية «حفيد امرئ القيس» طباعة

  بغداد -  الحياة - 14/01/07//
  «حفيد امرئ القيس» هو عنوان الديوان الجديد للشاعر سعدي يوسف الصادر حديثاً عن دار المدى (دمشق، 2006) وهو عنوان يطرح اكثر من سؤال شعري بعد ان قطع الشاعر، على مدى اكثر من نصف قرن، مسافات في «التجديد» و «التجريب» الشعريين، أصبحت تفصله عن الجذور الواقعية المتعينة أو المتخيلة، التي اصبح معها انفتاحه على الماضي جزءاً من انفتاحه على الحاضر والمستقبل. وقد أوجد، هو نفسه، تقاليده الشعرية الخاصة، ما يثير السؤال عن مغزى هذا «الانتماء رمزاً» الى «ماض» تتعدد وجوه انتمائه ذاتاً وتاريخاً.

   لماذا يختار الشاعر، في هذه الحقبة من الشعر والعمر، امرأ القيس من بين جميع الأسماء، وفي مختلف العصور ليخص نفسه بالحضور من خلاله، حفيداً؟ ام ان «الحفيد» «يحاول أمراً» (تغيير الحياة، أو تحويل العالم) فيستعيد وجه سلفه ليبلغ «الهدف» رمزاً، ومن خلال الرمز؟ هل يتماهى مع «الجد» في اختيار النسبة والنسب؟ أم ان «الحفيد» وهو يستدعي «سلفه» رمزاً إنما يستعيد به/ ومن خلاله روح فرض الوجود في العالم، ان لم يكن بـ «الفعل» فالبرغبة في الفعل التي تعلن هنا عن نفسها قولاً، فيقبض بمصير نفسه ومصير العالم من حوله؟ ام هو الرمز طاقة شعرية تحرك فيه نزوعات الحياة والبقاء في ما هو اكبر وابعد؟
  هل هو هذا كله، أم هو في شيء منه؟ أم ان الشاعر فيه يعمد الى إبداع رمزه الخاص من خلال وجه مألوف شعرياً وتاريخياً؟ هذه تساؤلاتنا. أما تساؤلات الشاعر فتأتي في هذه القصيدة: «اهو ذنبك انك يوماً ولدت بتلك البلاد؟/ ثلاثة ارباع قرن/ وما زلت تدفع من دمك النزر تلك الضريبة: - انك يوماً ولدت بتلك البلاد(...) المصيبة انك تحمل أوزارها في انتفاء البلاد!».
  قد تكون هذه التساؤلات مدخلاً مناسباً لقراءة الديوان وقد تأتي توطئة لهذه القراءة، لا بحثاً عن جواب لها، وانما مدخلاً لقراءة الديوان في ما يجسد من أجواء شعرية المشترك بينها: الإدانة، وإعلان الخيبة والخسران.
  فإذا ما عدنا الى ما قبل، في ما هو ابعد زماناً، سنجد الشاعر، ومنذ نحو نصف قرن، يعيش ما يمكن تسميته «التوترات الإبداعية» التي لم تكن، في معظمها، الا انعكاساً لتوترات سياسية الطابع، اذ جعل من حالة «اختلافه» حالة شعرية كثيراً ما عبرت عن نفسها في مواقف اختيار حاسمة (أسير مع الجميع وخطوتي وحدي...)، ولعل ما شد الشاعر الى هذه الطريقة قناعته بأنه انما يقدم بها/ ومن خلالها، طرقاً جديدة في رؤية الواقع.
  في بعض أعماله الاخيرة، ونتيجة الغربة وبعدها الزماني والمكاني في نفسه، نجد الشاعر، في غير قصيدة في الديوان الجديد هذا، وهو يستعيد هويته: هوية المواطنة والانتماء الى الزمان التاريخي ومكان حركة هذا الزمان، لنجده اوسع تأثراً بتراثه الشخصي (المعطيات التي ابتنى منها ذاته الاولى)، متحركاً، شعرياً، في عالم محمل ببعض «الخصوصيات الذاتية»، فضلاً عن «الخصوصيات التاريخية»، المكانية منها والزمانية، لنجد صورته شاعراً اعمق واقوى مما كانت عليه في حقبة سابقة على الحقبة الحالية. كما ان لغته اضحت هنا، لغة الجذور، الثقافية والمكانية، لتكون من اقوى المؤثرات في شعره هذا وقد اصبح، في اية حقبة ما بعد الاحتلال الاميركي - البريطاني للعراق، يخاطب الاهتمامات الوطنية لدى الانسان، ويثير اسئلة هذا «الانسان الوطني» باستدعاء حس المواطنة عنده.
  ان هذه العودة الى الجذور هي عودة من لا يريد ان يخسر «ذاته- تراثه». وهو اذ يستعيد ذاته في بعدها هذا، انما يعيد ترتيب انساق الموقف ازاء كل من الذات، والوطن، والتاريخ، وهو ما اتاح له ان يكتشف رموزه ويحدد مراياه... وحتى متاهاته.. فجاءت قصيدته متشكلة من حركات ذاتية وواقعية تحمل دلالاتها.
  في سياق هذه القراءة للعمل الشعري الجديد للشاعر يمكن ان يثار السؤال عما اذا كان (الشاعر) في ما يتخذ في شعره من رموز (ومنها الرمز المركزي: امرؤ القيس) انما يريد توجيه الصراع، لا في الشعر وحده بل وعلى ارض الواقع ايضاً، وجهة جديدة، أو مغايرة لما كانت عليه قبل اليوم. وهو سؤال يثير بدوره، اكثر من قضية اشكالية تتصل بالرؤية الشعرية للشاعر، وهي رؤية موجهة داخل القصيدة التي تشكل مداراتها عبر هذه الرؤية.
  ان قصيدة سعدي، لا في هذا الديوان وحده وانما في جل أعماله الشعرية الاخرى، قصيدة غير معقدة التكوين، بسيطة التركيب والتشكيل الشعريين.. النثر فيها يحاذي القول الشعري- وان كان لا يطفئ اشراق عبارته. وهي قصيدة تقول ما يريد الشاعر قوله بصورة لا تعتريها مناورة أو تعقيد. اما «رموزه» فهي الاخرى لا تخرج في شيء عن هذه الحدود - حدود الواقع: «انا منتظر ما يمحوه الليل/ اختفت الزرقة منذ الآن/ ولست ارى الاّ طيراً مسكنه سقفي القرميد».
  الا ان هذه «الرموز» التي يبدأ بها/ ومنها، لا تلبث ان تسلمه الى تداعيات الذات، فمن هذه التداعيات ما يكون تاريخياً مرتبطاً بالمكان (البصرة ما صلّت لأذان يرفعه بشار/ البصرة لم يرعشها مقتل بشار).. ومنها ما يجيء شديد الارتباط بالأحاسيس والمشاعر الذاتية للشاعر (اختفت الزرقة/ والليل يغور/ اعمق حتى من تهجئة الديجور).
  إن فسحة الواقع هي اكثر ما يشده، فيحدد رؤيته فيه، واستجابته الشعرية لما يصدر عن هذا الواقع تعمق، بتواليها، ادراكه للواقع. كما ان هذا الواقع، بمفردات حياته وبوجود الاشياء داخله وما تخلق من معان، أصبح مصدراً من ابرز مصادر «ثقافته اللغوية» حضوراً في شعره.. فإذا كلمات كثيرة التردد في قصيدته، مثل: القرية، الملاحين، القوارب.. وسواها مما يتشكل/ أو يصدر عن «رؤية بصرية» تخلقها المشاهدة. كما نجد عبارات شعرية تصوغ نفسها (او يصوغها) مستمدة مقومات صيغتها من هذا الواقع: «ينفتح الشاطئ كالحدوة...» أو: «تجلس بين الناس، في المقهى (او الحانة) عصراً/ ترقب الآتين/ أو تأخذ شيئاً...»
  وفي قصائد اخرى نجده بين عالمين، عالم ذاته هو، وعالم الواقع، وحتى ان بدا كل من هذين العالمين متكاملاً فهو غير منسحب من الآخر، أو مستقل عنه، بل كثيراً ما يحيل اليه، وقد لا يجد التكامل متحققاً الا معه.
  ويعتمد الشاعر ما يمكن ان نسميه «المعنى المفتوح» على «الآخر - المتلقي»، محدثاً نوعاً من «الحس المشترك» بين الشاعر (مرسلاً) والمتلقي (مستقبلاً)، كمثل قوله: «انها حديقتي/ ملتجأي في وحشة الليل/ ومرآتي التي اقرأ فيها المشهد الآفل». ونجد لمثل هذه «الكتابة» شروطها ودواعيها الذاتية... وضرورتها أيضاً - بالنسبة للشاعر، في الاقل - فهو لا يقول الا ما يحمله في ذاته، ولذلك نجده يدرك مديات القول - وان غابت عن شعره في هذا الديوان كما في اعمال اخرى سبقته، تلك «الرحلات المتخيلة» التي يقوم بها «انسانه»، أو «الإنسان فيه»، والتي كان اكثر اعماله تميزاً بها: «الاخضر بن يوسف ومشاغله»، بما حمل، يومها، من ايقاع شعري جديد اعاد به بناء علاقة الانسان بالعالم على النحو الذي يراه.
  وفي هذا الديوان نجد الشاعر يبعث عالماً سابقاً، لا ليمجده كلاً أو بالمطلق، وانما ليقاضي ببعض معطياته الحاضر الذي يجده قد شذ عن تلك الطريق.. ولا يجد امامه، في مثل هذا الموقف، سوى التذكير بأخلاقيات تلك الطريق التي فارقها بعض الحاضر بنوع من الانقسام على الذات وقد زرعته خيارات/ خروقات بحق التاريخ وما هو تاريخي، بينما يقف الشاعر، في رد منه على هذا الموقف، عامداً الى التجذر في الاصول- وفي هذا يشير اشارات تأكيدية منه الى انفصال قاطع وقطيعة يضعها في سياق ما هو تاريخي، محققاً، في مستوى شخصي، الفصل بين اليوم والأمس... بين ما قبل (الاحتلال) وما بعد (الاحتلال)، بما يرى فيه «الاستباحة» - وهو عنوان قصيدة يقول فيها: «السمتيات الاميركية تقصف احياء الفقراء/ والصحف المأجورة/ في بغداد/ تحدث قراءً اشباحاً عن ارض سوف تكون سماء».
  هنا يتراجع ما ندعوه، عادة «الخيال الحالم» ليحل الإنسان - الشاعر في التاريخ، ويقول ما هو تاريخي، مفجراً ذلك النسغ الهائل، الحبيس، في نسق متسق من الكلمات التي تحمل دلالاتها في ذاتها وفي الواقع أيضاً، أو في ما يتفجر عنها من اصوات.. فتكون «قوة الواقعي» نظيراً/ بديلاً عن «قوة المتخيل» بوصفه محركاً للشعر – في العملية الشعرية (كما في قصيدة «عراقيون أحرار»...): «لن نرفع أيدينا في الساحة/ حتى لو كانت ايدينا لا تحمل أسلحة».
  وهنا تبدأ «لعبة» الشاعر - واقول: «لعبة» بمعناها/ بعدها الايجابي في ما لها من تحقق شعري في هذا الديوان - واعني بها: «لعبة الموقف» الذي لا مساومة عليه، في عالم مضطرب، ومختلط، اضحى كل شيء فيه قابلاً لـ «الاستحالة» - بالمعنى البيولوجي- «والمتبدل» مواقف وولاءات. والشاعر هنا، يجعل لكل حدث حكاية، ولكل حكاية مدلولها الواقعي.
  ويثير الشاعر هنا عديد التساؤلات (وهل الشعر الا التساؤل في مواجهة العالم)، متجاوزاً في تساؤلاته هذه نطاق الشخصي وما يحف به، الى ما يقف به، انساناً، في مفترق طريق، يضع «الذات» فيه ازاء الوجود متسائلاً (هل اخطأنا التكوين، لننتظر التكوين؟) كما يضع حالات ومشاهد فيه موضع الشك (لست معنياً بما يفعله الساسة في المستنقع الآن، لي الحلم...)
  وهناك أيضاً التساؤل عن جدوى الرجوع الى «اشياء الحياة» التي كشف عن افتراقاتها تفارقات البشر فيها، الذين يتجنب نسبتهم الى تاريخها (وهو يضع «تواريخهم» موضع تساؤل).
  ولا نعدم ان نتبين في الديوان كون قصائده نتاج عزلة هي العزلة التي يطل الشاعر منها على العالم فيرى الاشياء «رؤية الذات... فالرؤية هنا رؤية تأمل وهناك مسافة بينه وبينها. وعلى هذا فهي اقرب الى الحديث المنفرد - أو ما تعارفنا نقدياً على تسميته المونولوغ منها الى ما هو مشترك - وان كنا نجده يدعو قارئه الى «المشاركة» من طريق تقريب «الاشياء» اليه، أو تقريبه من الحالات والمواقف الناجمة عنها، معتمداً في هذا «وضوح القول» الذي قد تكون في اعتماده، تعبيراً شعرياً، استجابة لحركة العصر وتداعيات معانيه.
  ولكن... الى اي مدى استطاع الشاعر، في هذا، ان يتجنب ويجنب قصيدته حالة «الصنعة» الاسلوبية، و «الموقف العقلي»؟ وهل تمكن من ان يجعل «الداخل الشعري» لقصيدته يحافظ على ثراء اللغة وحيوية المعنى، وحريته؟ وهو ما يثير سؤالاً آخر عن امكان التخلص من النسيج الذهني المحكم للعبارة الشعرية... وما اذا كان يعد مثل هذا «النسيج» من عناصر قصيدته في ما له من خصوصية - في مقابل حضور (وهنا نتكلم عن غياب) ما ندعوه بالاشراق الذاتي، والفيض الحسي في القصيدة؟