سعدي يوسف وأطلال الديار.. وان نموت فنعذرا طباعة

Sun Jul 23, 2006 4:18 PM GMT
بيروت (رويترز) - قراءة مجموعة الشاعر العراقي سعدي يوسف الأخيرة (حفيد امريء القيس) حتى اذا اقتصرت على عنوانها وحده جديرة بأن تخلق الآن في نفس القارىء العربي.. خاصة الفلسطيني واللبناني والعراقي مشاعر وتداعيات مؤلمة وشعورا بليل طويل لا ينجلي..
فحياة امريء القيس الجد وشعره يحفلان بالمفجع والمحزن من الناحيتين التقليدية العامة والفردية الخاصة.. تقليديا قد لا يكون الوقوف على الأطلال والبكاء على المنازل والحنين الى الأماكن التي ابتعد الانسان فيها عن الأحبة أو أُبعد عنهم اكثر

بروزا في ذلك الزمن منه في هذه الحقائق الواقعية الحديثة.
المنازل الان في ايام "الحفيد" اطلال درست فعلا اذ "درّستها" قنابل وصواريخ ونيران من دبابات وطائرات "الحداثة" او "مابعد الحداثة" كما يقول البعض.
واذا كان امرؤ القيس مغامرا و"دون جوانا" كما يعكس بعض شعره.. واذا كان ايضا قد أُعطي لقب "الملك الضليل" ففي حفيده أو أحفاده من المشابه ما يجعل خط النسب الذي أشار اليه سعدي يوسف أكثر من مجرد عملية خيال شعري.
ففي هذه الآونة تبتعد الديار وتنأى بل تتهاوى وتُطاح ويكاد الانسان يحرم حتى من متعة تمتع بها الجد وهي الوقوف عليه ليبكي ويستبكي.
وليل الحفيد والأحفاد أشبه بليل الجد الذي وصفه بان نجومه بدت كانها شدت "بأمراس كتان الى صم جندل" لكن في ليل الجد الكثير من الرومانسية على رغم ما كان على عاتقه من هم "سياسي."
وكأن سعدي يريد ان يضمن بين الاشياء الكثيرة التي يضمنها في عنوانه وشعره حقائق والاما مشتركة صارت تبدو لنا كأنها جزء من تراث الالام العربية.
فالشاعر الجاهلي في سعيه الى استعادة ملك ابيه يترجم ذلك الى.. "بلاده.. بلغة ايامنا.." وقوله "بكى صاحبي لما رأي الدرب دونه.. وأيقن انا لاحقان بقيصرا.. فقلت له لا تبك عينك انما.. نحاول ملكا او نموت فنعذرا."
وموته من خلال سعيه هذا.. يحملنا الى حال الاحفاد الذين يموتون في سعي يبدو مثل مساعي "سيزيف" يرفع بالالام الصخرة الكبيرة فلا تلبث ان تعود لتسقط عليه ليعيد الكرة من جديد.
الا ان الشاعر الحديث سعدي يوسف في هربه الى بلدان قيصر الحديثة.. بريطانيا وايرلندا وفرنسا وبلدان اسكندنافية وغيرها.. يواجه وحدة ووحشة وليلا طويلا كليل جده.. ويحاول ان يخفف من وقع ذلك بمغامرات مع نساء وعلاقات تنسيه الغربة والبرد القارس.
اشتملت المجموعة على 99 قصيدة توزعت على 216 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن (دار المدى) في دمشق.
حمل الغلاف صورة سعدي وحولها من الشمال واليمين أبيات صارخة من قصيدة في المجموعة وقد تصرف مخرج الغلاف فنيا بتوزيع كلماتها.
في القصيدة الأصلية التي كُتبت في لندن سنة 2005 وعنوانها هو عنوان المجموعة أي (حفيد امريء القيس) يقول سعدي يوسف "اهو ذنبك انك يوما ولدت بتلك البلاد.... ثلاثة ارباع قرن.. وما زلت تدفع من دمك النزر تلك الضريبة.. انك يوما ولدت بتلك البلاد.. تواريخها الكذب.. المدن الفاقدات المدينة.. تلك القرى حيث لا شيء.. ذاك الظلام العميم.. وتعرف ان البلاد التي ولدت بها لم تكن تتنفس معنى البلاد.. السؤال.. وما دخلك الآن حين تطالب بالمستحيل.... المصيبة انك تحمل أوزارها في انتفاء البلاد."
قصيدة (تجربة ناقصة) تصور ليل غربة ووحشة. يتذكر البصرة وهو في لندن ويطول ليله ويقسو بأشد مما طال على جده ويقول "انا منتظر ما يمحوه الليل .. اختفت الزرقة منذ الان.. ولست أرى إلا طيرا مسكنه سقفي القرميد.. ستمسي كل سقوف القرميد رمادا.. وستلبس حتى سيارات الحي حدادا.. تلبس حتى الاشجار سوادا ملتبسا.. من ستغني .... هل ارهف سمعي للرعد بأرض أخرى...."
ويعود الى الليل الذي هبط بكلكله كجمل على صدر جده فيقول عن ليله هو "اختفت الزرقة.. ها هوذا الليل الماحي كل الافواه.. المغلق كل الافواه.. الهابط كالرمل البركاني على الامواه.. الليل المعلن هذا الليل.. المعلن والملعون.. القاتل.. والمجنون.. الليل السيد هذا الليل.. الليل الابيض هذا الليل.. الليل النصل.. الصل.. الصافر.. ليل قطارات القتلى المشحونين الى قمر الكثبان..."
في قصيدة (تنويع ثالث) يكمل جو القصيدة السابقة وفيها يقول "انا منتظر ما يمحوه الليل.. اجسر في حمدان يعيد مياها كانت تجري تحت الماء... ام ان الصيف الساخن في المراة.. ام الرعد.... الطيران الحربي يقطر في الدم رائحة البارود."
ويقارن ما يدور في بلده بما يجري في القرية البريطانية الهادئة التي هو فيها فيقول "ولكن.. في هذي القرية يربط ملاحون قواربهم عند سياج الحانة.. حتى صيادو السمك ابتدأوا يطوون خيوطا وشباكا.."
وينتقل الى القسم الثاني فيحملنا الى أجواء بعض قصائد الشاعر العراقي المشرد الاخر الراحل بلند الحيدري متحدثا عن اجواء الرعب البوليسي في بلده وخاصة تلك القصيدة التي تحدثت عن بغداد وحصان طروادة.
يقول "من دق على الشباك ثلاثا.. متتابعتين.. وثالثة بعد ثوان.. ان العمال يجيئون الى منزلنا بالبصرة سيرا في الليل ويرتحلون الفجر.. سافتح.. ارجوك تمهل.. لا ترحل.. سنكون معا مثل رفيقين على طرقات الفجر.. سنحمل بيرقنا.. وندق الصنج الهائل .. لا ترحل.. ارجوك تمهل.."