سعدي يوسف وكتابة الفراغ: قراءة في نص "مقهى على باب الزبير" طباعة

هذه المقالة مهداة إلى الصديق الشاعر الإرتري / السوداني محمد مدني
-----------
Imageتنجرّ العلاقات الشعرية في نص سعدي يوسف إلى إزاحة دائمة نحو فضاء يمكـّن الكلمات المؤثثة من اشتقاق معانيها، أو بالأحرى معناها، بتـأويل ختامي بعيد، يبدو كما لو كان وجها ً يتخفى وراء قناع . ولكن الطريق الشعري لهذا المعنى العميق، يمر بكثافة التفاصيل التي تحيل إليه في المشهد الأخير، وهو مشهد يسبقه فراغ ينطوي على كتابة للمحو تأتي ككلام محذوف، لتركيب تداعيات خفية للمعنى أشبه بالفجوات الخيالية . غير أن ثمة تداع آخر للمعنى يتصاعد من جهة الدلالة لينتهي إلى حدود المحو، بعد أن تكشف عنه بالتدريج مستويات سابقة تمهــّد لذلك الفراغ .

ربما كان نص : مقهى على باب الزبير (النص الثاني من قصيدة " الطواف بالمقاهي الثلاثة" من ديوان الخطوة الخامسة " طبعة دار المدى ")، تعبيرا ً كاشفا ً عن ذلك الأسلوب من الكتابة الشعرية التي تتسم بالخفاء والتجّـلي لجهة المعنى ، إن على مستوى وظيفة الراوي الشاهد/الغائب، أو العلامات التي تزيح وعي المتلقي باستمرار، بعيدا عن المعنى الحقيقي . لتكشف عنه في النهاية بمفاجأة صادمة .
يبدأ النص بوصف سردي حميم للمكان في صور سريعة ومتلاحقة، غير أن تفاصيل المكان هنا أشبه بسيرة إنسانية مقتضبة ومتفرعة لمفرداته الصغيرة التي يهتم بها سعدي يوسف بدقة :

( " مقهى على باب الزبير "
تـُـقابلُ المقهى من الجهة ِ اليمين ِ، الشــُّرفة ُ الخشبُ التي جاءت
من الهند البعيدة ِ، واليسارُ يضمُّ مكتبة ً ودكـّانا ً لبيع الخردواتِ).
 
فالوصف إذ يشتغل على توالي التعريف بعلامته اللغوية، لا يؤدي وظيفة التواتر السريع، متضمنا ً إزاحة المعنى فحسب، بل يحيل على امتحان عسير للذاكرة أيضا. تلك التي يوظــّف الشاعر تداعياتها في تقنية توّرط القاري معها كشريك، وكطرف يستقبل من الراوي، استرجاعه الحواري كما لو كان هذا القاري جليسا يتوجه إليه النص :

(وأنت َ حين تكون ُ في المقهى ستشربُ شايـَكَ المألوفَ ثم تقومُ
مبتهجا ً، لتدخل َ غرفة َ البلياردِ) .

والسياق في الوصف يحذف بعناية  شديدة، مقدمات التأويل ويحيل إلى دلالات قريبة وسعيدة، تنقض ما ستفضي إليه النهاية الدراماتيكية والفاجعة للنص . مثل قول

الشاعر : (ستقوم مبتهجا ً)، واصفا ً حالة عادية وأليفة بامتياز . لكنها في نفس الوقت
تشبه ذلك الهدوء الذي يسبق العاصفة . ذلك أن الشاعر وهو يستعيد غواية الوصف للإيحاء بالمعنى الموارب، سيقطع مع ذلك الهدوء إلى عاصفة تأتي على حين غـِرّه

 (ستـُلقي نظرة ً عجلى، وتمضي نحو زاوية ٍ
تــُراقب ….
أنت لا تستعجلُ الأشياءَ
والناس الذين رأيـتــَهم في غرفة البلياردِ لا يستعجلون؛
....... الساعات تمضي
أنت تراقب :
المتفرجون تكاثروا في غرفة البلياردِ)

ولأن الاستدراج هنا يتوسل التأمل العميق في حركة الأشياء التي تحدث يوميا ً في غرفة البليارد، ينتزع السياق، ذلك الطابع اليومي كاشفا ً عن معنى مسكوتأ عنه، هو بالضبط ما تحيل عليه العلامات في البناء الدرامي للنص الذي يتصاعد وفق بنية دلالية تتكشف عكسيا ً مع الوصف . فالمعنى المُزاح بفعل الاستغراق الدائم في الوصف المحايد للأشياء، يُطل طرفٌ منه في لازمة خطابية تأتي لتصرف معنى المتعة من أجل المتعة في لعبة البليارد . فحين يكرر الشاعر فعل الرقابة أكثر من مرة في قوله : (أنت تــُراقب) يضع القاري أمام لعبة خطيرة . ذلك أن المعنى الصادم للهدوء هنا يجد تأويله بفعل تلك اللازمة، التي تتيح لمحاولات الإنزياح استعادة حضوره . أي الاشتغال عكس دلالاتها الظاهرة في النص،  فهي تقابل الواقع الذي ينتج مفردات المعنى في موازاة تكشف عنها لعبة البليارد،في قول الشاعر :

( لكنّ الذين تــَقاسمَوا كلَّ العـِصِيِّ تبادلوا الأدوارَ
ظلوا، وحدَهم، في لعبة البلياردِ يقتاتونها
كرة ُ هنا حمراء ُ
أّخرى بعدها سوداءُ
واحدة ٌ تـــُـلاحقــُها العِصيِّ وحيدة ٌ بيضاءُ )

والشاعر إذ يُضمر العلامات الكاشفة عن المعنى بكلمات متقشفة (يستعين فيها أحيانا بعلامات الترقيم) . إنما ينحو لتوتير السياق المتصاعد إلى أفق المعنى . فكلمة(وحدهم) التي تأتي بين فاصلتين، تشير إلى مخاتلة الوصف في الدفع بالمعنى المضمر بعيدا عن دلالاته، بالرغم من أنها تنطوي على إشارة تحيل إليه . ذلك أن الإشارات المشحونة بالخوف  تشتغل في النص على دلالات نقيضه لظاهرها . فهنا ينطوي تأويل الوصف على المعنى المسكوت عنه .أي على السُلطة القامعة إذ تتماهى آليات اشتغالها مع طريقة لعبة البليارد،  لذلك يحضر المعنى من الواقع بقوة، ويتحول إلى تأويل رمزي تدل عليه لعبة البليارد. غير أن الشاعر يدلف من الوصف
إلى الجمهور في المقهى ليكشف أكثر عن المعنى في سياق آخر بنفس الأسلوب الذي يعزف تماما ً عن توسل أي بيان من خارج ما يحدث في المقهى .

( كان اللاعبون يداولون عصـِيَّهُم وكراتهم
 لاهينَ عمّا تفعل الأشياء ُ
لاهينَ عن متفرجينَ رأوا في لعبة البليارد لعبتهم؛)

إن رصد المعنى من خلال لاعبي لعبة البليارد، والمتفرجين يتكشف عن علاقة جدلية بين الطرفين. فاللهو الذي يصيب لاعبي البليارد، حين ينفردون بلعبهم، يغذيـه صمت  المتفرجين ( الذي هو أشبه بصمت الحملان) الذين لا تخفي نظراتهم وعي المعنى، دون القدرة على الإفصاح عنه، فحالهم هنا تتماهى تماما مع كرات لعبة البليارد . وفي هذه الذروة يتم الإفصاح عن المعنى الذي التفّ عليه النص طويلا عبر انزياحاته المتعددة . ولكن حتى هذا الإفصاح لا يخلو من ممانعة تتحفظ على القول بطريقة مواربة :

(وإنْ شئتَ الحقيقة َ قال أربعة ٌ من الشبــّان همسا ً :
غرفة ُ البلياردِ ليستْ ثـُـكنة ً؛
.................................
.................................
.................................)

فالنفي الذي يسبقه همس ويتلوه فراغ، ليس نفيا ً مقصودا لذاته، إنه نفي إشاري يوعز دون أن يصّرح بمعنى حاضر بقوة في كل المشهد . أي أن النفي هنا يثبت ويمحو في نفس الوقت، ويأتي بدلالة مزدوجة تعكس الحقيقة وتنفيها عن قائلها . لكن هذا العكس إذ يكثــّف الوضوح ينحو إلى استباق لاإرادي للبراءة التي تأتي رديفا مواربا، لابد منه، لِقول يسبقه همس ويتلوه فراغ . وهكذا بعد كل ما سبق تأتي كتابة الفراغ لتقول ما لم يقله النص صراحة . أي لتملأ التفاصيل المحذوفة . ولأن هذه التفاصيل علامة كاشفة ومتممة لكل تداعيات المعنى، تأتي على صورة المحو الذي يقابل الصمت، فالصمت هو أيضا ما تحت الهمس . ولكن دلالته أحيانا ً أهم من الكلام الذي يسبقه ويلحقه، بحسب (صموئيل بيكيت) .إن كتابة المحو هنا تفيض بالدلالات الغنية التي تكتسب تيماتها من تأويل النص وإشاراته المفتوحة على المعاني المحايثة له، وتلك التي تكشف أبعادها من سياقات القراءة في مستويات عديدة . ويختم الشاعر بجملة تأتي بعد ذلك الفراغ وتختصر دلالته بتعرية التناقض، أي وجه الغرابة الذي يقمع الشعور الطبيعي بالإفصاح عن معنى حاضر بقوة من حوله، دون أن يكون قادرا عن البوح به، إلا همسا ً أو محوا:

 (ما أغرب المقهى على باب الزبير).

هكذا استطاع  سعدي يوسف بهذه الكتابة المبدعة، مغايرة المألوف من اشتراطات وفرز أساليب التعبير الشعري . إن هذا النص لسعدي يوسف لا يحيل إلى تيمات يتم فرزها في عملية الإبداع بقدر ما يحيل إلى كيمياء معــقــّدة للكتابة الشعرية . أي تلك الكتابة التي تخــّلص التفاصيل من مجـّانيتها، في نفس الوقت الذي تتأول فيه قضية كبرى وخطيرة كالسلطة القامعة، دون أي تناقض . فالتفاصيل هنا تكتسب جماليـّاتها حين تتكشف عن معنى السلطة مضفورا ً في رؤية إنسانية تستمد تأويلها الكوني عبر تلك التفاصيل . إن كتابة سعدي يوسف عن السلطة القامعة، من خلال ذاكرة حميمة، وتفاصيل صغيرة تنطوي إنزياحاتها عن معان ٍ إنسانية يومية، وتوظيف سردي يستعيد حميميتها في كل وصف، ليكشف بعد ذلك من طرف خفي، عن معنى كبير تكون دلالته أكثر وضوحا ً عندما تتألف مفرداته من تلك التفاصيل، إن أهم ما تحيل إليه تلك الكتابة هو أن الإبداع الشعري في حد ذاته اقتراح جمالي يجمع في داخله كل مفردات  الحياة وتناقضاتها  دون أي فرز نقدي يشير عليه من خارجه .
شاعر وكاتب سوداني مقيم في السعودية  
عنوان البريد الإلكترونى هذا محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تفعيل الجافا لتتمكن من رؤيته