قصائد الخطوة السابعة لسعدي يوسف طباعة

لا أنتظر شمساً ولا مصافحة.. سأكون صديقي

عمر الشيخ

تتدفق صور الغابات الرطبة وتفاصيل الهوامش الجغرافية من مجموعة «قصائد الخطوة السابعة» (منشورات دار التكوين- 2010) حيث تحيطنا كلمات الشاعر سعدي يوسف بأرياف كسولة من روائح لندن، مغطاة بالأنهار والطرق الترابية التي هرب العشب منها إلى أطراف سكانها، وراح الشاعر يصطاد أفلامه الشعرية من خلال نوافذ بيته القائم بين الأشجار والعصافير، هناك خلف مدينة الضباب والرماد تطل علينا قصائد سعدي مخصبة بأحزان العراق، ومكللة بالموسيقا والشهوات المتناحرة.

في قصائده الجديدة يحيلنا سعدي يوسف إلى بساطة الكلمة وذكاء اللقطة اللغوية، ويكتب شعره خارج مخيلة الحياة، ويعزف سيمفونيات وحدته إلى جانب البيئة الريفية الفائضة من جنان الطبيعة، فيغلب على طقوس القصائد هوية المكان بالدرجة الأولى من ثم هذيان الذاكرة والأصدقاء والمدن القديمة هكذا لتتوالى باقي عناصر المخيلة الشعرية من مجاز وتكنيك بصري يقوم على غرائبية الصورة وسطحية حضورها في الحياة اليومية: (للهواء الرطوبةُ/ تلك التي لمخاضات شرقي كمبوديا. / والغيوم معلّقة بالكلاليب/ والعشبُ يبدو صبيغة عُشبٍ. / وما كان أمس غصوناً، بدا حجراً كالغصون. / الدقائق تضغطُ/ حتى لتشعر أن ضلوعَكَ قد تنثني. / القلبُ لا ينبضُ/ الطيرُ غاب. / السماءُ التي تدنّي سوفَ تُطبقُ. / لا ترتجف!)
تحيط تلك اللغة التي يستخدمها الشاعر بأسئلة الخيال الصعبة التي نتوقع حدوثها ولكن لا نصدق أنه من الممكن أن تصبح شعراً يتهكم من الغربة، ويدخل إلى أدق التفاصيل داخل نوم المهاجر الذي أودع أهله وبلاده في غرف الغياب ثم تلاشى تحت برزخ الوحدة، يعدّ السنوات حسب تقويم الألم، ويشطب من كل خريف يمرّ وريقات لحظاته اليابسة، ثم يتحول إلى مجرد وحشة تقوم بتحميض صور الأحلام رغم أن العتمة تحرقها باستمرار: (لقد صار لي، منذ عشرٍ هنا منزلٌ/ صار لي في ارتحالِ السحائب بابٌ/ ومفتاح باب/.. / أنتَ تغفو وتعرفُ أنك في برزخٍ؟/ لستَ تغفو. / أتعرف ما لونُ شعركَ في الحُلمِ؟/ ما لون أسماك نهرِكَ في الحلم؟/ ما لون ثوب الفتاة التي رضيتْ أن تُقبلها قبل ستين عاماً؟/ لقد نزل الفأس برأس/ لست الوحيد الذي يتساءلُ.. / لست الوحيد..) إلا أن وحدة سعدي يوسف لا تتوقف عند العدم والاستسلام، فهو مصرّ على أن يكون صديق ذاته بعد مرور سبعين عاماً يقرر أن يكون مع ذاته رفيقاً وفيّاً يتأمل وحشة لندن من خلال كؤوس النبيذ ويرشف آماله ليلون شحوب الثلوج والأتربة في ضواحي الصقيع بموسيقا رقصِهِ: (السنجاب الوحيد/ الذي يقترب مني اختفى اليوم/.. / منذ الآن سأكون المدوّن. / الساعات ليست فارغة. ملايين/ النوابض والنبضات تنتظر مني أن أكون وفيّاً، إذاً/ سأجلس على المصطبة الخشب/ سأظل جالساً حتى نثير الثلج. لا أنتظر شمساً ولا مصافحة. سأكون صديقي..)
هذه التجربة (قصائد الخطوة السابعة) تضع سعدي يوسف أمام رهان جديد في محاولات الخروج عن الذات، فهو يسعى من خلال ذلك العنوان لكسر الرقم المقدس في إتمام مجلده الشعري السابع الذي يعتبر هذا الديوان فاتحة العمل به، وهنا حاول سعدي يوسف التقاط اللحظات الحياتية المريرة وحقنها بسكر الشعر والفرح، فنجدهُ أحياناً يفجر سؤالاً كبيراً عن الألم من قبيل: (ماذا سيكون نعاس المحكوم عليه بأن يُشنَقَ فجراً) أو تفكيراً كسولاً عن أحوال المهمشين في المدن الفارهة: (ماذا يأكل آخر سكّيرٍ في آخر حانات بلغراد/ ماذا يفعل عصفورٌ إن هبط الثلج) هذا النوع من الرصد الحياتي يذهب نحو شيء من الفلسفة الحياتية التي حاول الشاعر الهروب منها طوال تجربته الشعرية منذ خمسين عاماً، إلا أنه هنا لا زال يعيد تلك الرؤية ولكن بحكم النمو البصري للصورة الشعرية في قصيدته صار انشغاله ينحو باتجاه الانفعالات الخاصة التي تطبع شعره بمكاشفات خاصة عن مقابلة الشيخوخة بالحب وهزيمة الغربة بالرقص مع شهوات لندن.
عنوان البريد الإلكترونى هذا محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تفعيل الجافا لتتمكن من رؤيته