سعدي يوسف، بورتريه غير شخصي طباعة
عواد ناصر

أهديت الشاعر سعدي يوسف هذه القصيدة، بعد تاريخ طويل من الرفقة والعمل الشاق والمنافي المتنوعة، والخلاف النوعي، فكتب لي التالي:

عزيزي عواد
مساء الخير
لم أعتَدْ هدايا رأس السنة ، لكن قصيدتك جعلتني أفرحُ كالطفل !
الشكلُ عندك يا عوّاد ، تغيّرَ أيضاً. أنا أعلمُ أنك حيويّ الإرادة. لكنك هنا الأكثر حريةً !
لم يَعُدْ للقصيدة الحديثة شكلٌ. إنها مجموعة أشكال.
أصافحك أيها العزيز،
واسلَمْ للشعر وأهله.
 
سعدي يوسف
5 كانون الثاني (يناير) 2009

عواد ناصر

لم تبردْ قهوته يوماً.. سعدي لا يتعاطى الشايَ ولا القهوةَ.. لم أرهُ يوماً يتناولُ شيئاً من مشروباتِ العقلاءْ..
لكنّ نبيذَ العالمِ طوعُ يديهِ كلماتٍ حمراً يستقطّرها يومياً بدنانٍ خُضرٍ، يمزجُهُ بالحلمِ مشاعياً.. ثم يغادرُ، إذ يتحررُّ من ربقةِ دائرة الإعلامِ إلى بارٍ شعبيٍّ عند شواطئَ دجلةَ - لم يمكث أكثر من نصف الساعة، أو أطول بقليلٍ، إذ ضاق بثرثرة الثوريين المبتدئين فغادر رُبعاً غضباً، حيث استولى فيه الشعر على أدلجة الجبهة، وثلاثة أرباعٍ مأخوذاً بالنهر - توقعه سيجفُّ العامَ المقبلَ - قلتُ: أجيء معكْ..
وأدندنُ مع نفسي في أبياتِ الطائيّ – وكان يحبّ أبا تمّام:
زالت بعينيكَ الحمولُ كأنها/ نخلٌ مواقرُ من نخيلِ جواثا
يوم الثُلاثا لن أزال لبينهمْ/ كدرَ الفؤادِ لكلّ يومِ ثُلاثا
إن الهمومَ الطارقاتك موهناً/ منعتْ جفونكَ أن تذوقَ حَثاثا
فيُكمّلُ سعدي:
لم آتِها من أيّ وجهٍ جئتُها/ إلا حسبتُ بيوتَها أجداثا
تصدى بها الأفهامُ بعد صقالِها/ وتُردّ ذكرانَ العقولِ إناثا
بلدُ الفلاحةِ لو أتاها جرولٌ/ أعني الحطيئةَ لاغتدى حرّاثا
أرضٌ خلعتُ اللهوَ خلعي خاتمي/ فيها وطلّقتُ السرورَ ثلاثا

*****

جندياً كنتُ وكان عليّ تجنّب رفقةِ سعدي أو من يشبهه في الشبهة أو في سيماءِ الشعراءِ الخطرينَ.. فثمة من يكتبُ تقريراً يومياً حتى من (شُلّتِنا).. لكني كنت أخاف الشعر كثيراً ـ أكثرَ من خوفي من مفرزةٍ تسهرُ عند الطاولةِ اليمنى، في بار يدعى (سرجون) عند المدخلِ بالضبطِ – أكانتْ تحتاطُ لمن يهربُ بعد قليلٍ؟.. قلتُ لشبّانٍ ينتظرونَ دخولَ البارِ: من هذا؟ وأشرتُ إلى سعدي.. قالوا: نعرف كل مغنينا ورواقيصَ ملاهي بغداد وقيناتِ القصرِ الجمهوريّ ولكنّا لا نعرف هذا الوجه..
تمشينا حتى (السعدون) وعند (طريق الشعب) افترقَ الدربُ إلى ناحيتين: الكلماتِ الحمرِ وجنديٍّ خائفْ..
ما كان السيابُ ابن الطبقاتِ المسحوقةِ لكن السياب اختار الضفة الأخرى – كان ابن اقطاعيين لديهم أقنانٌ – أخبرني رشدي العامل – لم ينبس سعدي بكلامٍ ما، كان يسجّل شيئاً ما.. هل يرثي بدراً؟
(جيكور مطفأةٌ، كأن الليلَ عانق ساكنيها
لا التوتُ في الأنهار يهبط، لا السماءُ تشفّ فيها
والنجمُ والأسماكُ ما عادتْ حدائقَ للمساءْ
باباً إلى وديان نجدِ
"غيلان" يصعد فيه نحوي من تراب أبي وجدّي)
الليلُ في الكلمات أسودُ
والطريقُ إلى دمشقَ يغيمُ في عيني يسوعَ
وكنت ُوحديْ..
صخرتي في السفحِ والكتفانِ مثقلتانِ
كان النهُر – أعني دجلةً – يجري ويجري إثر سعدي..
الليلة يجتمع الشعراءُ على قدحٍ أحمرَ من كلماتٍ حمرٍ، كان، على الأغلب، يجلوها سعدي لنحارَ بمرموزاتٍ وأماكن نجهلها..أحياناً يتتّبع خيط دمٍ يركض في سجنٍ ما (كان شيوعياً حوكمَ.. بقميص أسود ذي ربطة عنقٍ صفراءَ) وأحياناً لا يملك غير حمامات بيضٍ طيّرها عند جدارية فنانٍ مشهورٍ، وعلى عاداتِ الشعراءِ الخطرينَ أشارَ إلى أنَّ بنادقَ تتبعُها، لكنّ مقاولة فاسدةً – إذّاك – تحدتنا، وعلى عينِك يا شاعرُ، كان الشاعر يسرقُ من دائرة الريِّ الورقَ الأبيضَ كي يكتب شعراً أسودَ - لم يسرقْ مالاً - مثل الوزراء اليومَ وقبلَ اليومِ -  بل كان يدوّن يوميات "الأخضر بن يوسف ومشاغله" حتى توجعه عيناه، وبين مداراتِ نبيذٍ أحمرَ سال من العنق المذبوح إلى الصوت المبحوح ينوسُ الشاعرُ، مكتئباً ويخطّط كي يهربَ من فرقة فاشيّينَ احتلوا بيتَ الشاعرِ وسريرَ الشاعرِ وقميصَ الشاعرِ حتى صاح بهم من فرط اليأس:
"قميصي لكلّ المشترينَ أبيعُهُ"
في الليلِ الأبيضِ يبدو القمرُ الأسودُ ديناراً في السوق السوداءْ
والشعراءْ
هُرعوا مأخوذينَ بذاكَ الدينارِ - العارْ
لكن الفقراءْ
أذكى من إغراء الجوعِ الماثلْ..
عملاً بالمثل القائلْ:
(لا تقلب سترتك الأولى حتى لوبُليتْ)..
سعدي لم يقلبْ سترتَهُ
لم يختمْ سكرتَهُ
لم يستأنفْ فكرتَهُ - هذا ما لا يُعجبُني فيهْ –

*****

كان شخصٌ تطلّع عَبرَ الظلامِ، ظلامِ المنامِ، إلينا،
فمشينا كأنّا وضعنا جناحينِ من ورقٍ لنطيرَ قليلاً، ولكن ذاك الذي كان يرقبنا لم يزل يقتفينا، وبعضٌ من العشبِ - من أين جاء؟ - نما، مثل عاقولةٍ تستديرُ على قدمينا، ولفرط الكوابيس لم تستقمْ رحلةُ الخوفِ إذ لم نعدْ نرفعُ اللافتاتِ الصريحةِ.. كان بديناً، يتحزّم بالجلدِ والريشِ.. يُشهرُ غدارةً بثلاثين فوّهةً - ربما أربعينَ، فمن يُحسنُ العدّ في ليلةِ الخوفِ هذي؟- احتضنتكِ لكنني لم أجدكِ، لأنك كنت تسيلينَ حتى اختفيتِ، فما كان منه سوى أن يصوّب نحوي - كنت وحيداً - ولا حائطاٌ في البراري، فعدتِ إليّ، طلعتِ من الحُلْمِ، عيناكِ مرهقتانِ، غبارٌ على حاجبيكِ السعيدينِ، ندخل في الرمل، إذ يُصبحُ الرملُ مثوى وبعضُ الرياح غطاءً لنا، لكلينا..
.....
.....
فجأة، في اضطراب الوسائد – لا شيء يحمي من القصفِ غيرُ الوسائدِ -  يدخل سعدي بن يوسف، ما غيره، قال: أين؟ فقلت إليك.. فأفردَ شيئاً شبيهاً بسجادة للصلاة وقال اجلسا، فجلسنا، ولكنه ظل منفردا فوق تلٍّ قريبٍ/ بعيدٍ يحدّق فينا ويقرأ بعضَ المقاطعِ من شعرِ لوركا.. هنا أصبح الشخصُ عشرينَ شخصاً، ثلاثين، ألفاً، ملايين.. حتى استوى الخوفُ شمساً على خصلةٍ فوقَ ثوبٍ من الموْسلينِ المقلّمِ.. كنّا، ثلاثتُنا، جالسينَ، نقرفصُ تحت عظامِ الشتاء الحديديِّ، بينا يحيطُ بنا الحشدُ مدّرعاً بأحزمة الجلدِ والريشِ حتى تقدمهم ذلك الشخص نحوي وخاطبني باسم أمي: تعالَ.. تعالَ، انتَ، أنتَ ابن سُكنةَ، يا من أضعتَ الطريقَ إلى البيتِ، بيتُك ما عادَ حيثُ تركتَ، أنا سوف آخذك، الآن، حيث تنام قريراً، فأوشكتُ أن أستجيبَ ولكنني لم أُجبْ، صاحَ سعدي الذي هبطَ التلّ: لا!
عندها، فوّقَ النابلون سهامهمو نحو لوركا الذي ظل يركض يركض يركض حتى أفاق الملوك من النومِ كي يشهدوا أن مهراً قتيلاً
سببٌ كي نضلَّ السبيلا..

*****

قد يلعبُ سعدي، أو "يلعبُنا" حيناً، ويقول: "أنا أمزح" ويراوغنا أو يبتزّ حنيناً قروياً فينا بل يشتمنا:
(زمراً ثقالاً، أو فرادى، مثل ما يمضي العراقيون، لم يتصدّقوا حتى بومضةِ دمعةٍ أو شمعةٍ... لم يُصدقوا نبضاتهم قولاً، كأنهمو جواميسُ القيامةِ)..
قلت: بل ثيرانُ بابلَ، يا صديقي، ثم أن البيتَ بيتُك والمنافي للجميعْ...
......
......
كان النقاشُ سليلَ تاريخٍ من الأخطاءِ والكذبِ الرخيصِ يدورُ حولَ الحربِ والطبقاتِ والثورةْ
هل تقبلُ البصرةْ..
أن تخسرَ الإنسانُ كي تنتصرَ الفكرةْ؟

لندن – 5 كانون الثاني (يناير) 2009

كل ما بين قوسين من شعر سعدي يوسف مع بعض تحوير لضرورات تقنية
أو اسماء أماكن معروفة في بغداد.
 
اخر تحديث الثلاثاء, 06 أبريل/نيسان 2010 20:29