خذ وردة الثلج ... خذ القيروانية .. سعدي يوسف ... يصطاد المكان الأنسب طباعة

كتابات - قيس مجيد المولى

يستعين سعدي يوسف بالجملة الشعرية داخل النص التي لها خطابها وحركتها وأستقلاليتها وخصائصها التعبيرية غير المشتركة ، وتبدو هذه الجملة أحيانا  وكأنها منفصلة نوعا ما  عن طقسها المتوقع ولكنها سريعا ماتكون ضمن الحركة العامة للنص الذي ترتئيه اللغة وطقوسها المفتوحة على نظامها الجمالي حيث يعيد الشكل تماسكه ثم إتحاده ثم بعثرته واستعادته من جديد عبر أسئلة ذاتية على شكل حوار باطني كي يفتتح دربا للمجهول فيه أمكنة ينقلها الشاعر من مكان لأخر  ،فالمكان لدى سعدي يوسف هو مكان مزدوج  بطبيعة تنافرية ليستطيع من خلال هذا الإزدواج وهذا التنافر المساعدة على  إلهام الإنفعال وتشغيله وبالتالي تقوم العاطفة بإختصارات صارمة لقدراتها الإنفتاحية  تؤدي إلى أن لايتسيب النص أو ينحو الى الوصفية أو الشهوانية التخيلية وفيها تأتي الصفات المتشابهة بكميات غير محددة ضمن قدرات التغريب المحسوسة ، لذلك إشتغل الشاعر سعدي يوسف ضمن ذلك القياس على عناصر الصفات التي لاتنسجم سواء تلك التي يتسم بها الكائن البشري أو تلك التي يتصف بها الكائن النباتي  باعتبار أن هناك أسرار عميقة في الفضاء الذي ستطلق إليه

أما كيف يمكن إستكشاف الأزل ومحتوياته (الزمن – الولادة – الموت – النار – الجنة – الدمار – الفناء – الغياب – الرمز – الطقس .. ) بعيدا عن تلك العلامات المتوقعة والملازمة لتلك المفردات ، لاشك أن الشاعر أثناء عملية الخلق يُهيئ وسائله للبقاء في إمتداده الكوني وهذه التهيئة تتم عبر إستذكاراته التي تمر عبر (فصل – سيكاره –ضريح – قطار – ثكنة –قبور – أناشيد –فلك – معطف – مشرب – شرطي – ورد – سمك – فودكا –  _أغنية – رسائل – قهوة .. ) وهذه الإستذكارات قد هيئات لها ممرات في الذاكرة منها تستكشف الغربة ومنها يستكشف الموت عبر تحويل الأصوات التي تحتويها هذه المفردات من نسق لأخر وهذا التحويل وكأنه يتم غيبياً إذ أن خاصية الأماكن لدى سعدي يوسف لها إيقاعات (تقديسية –حاضنة جغرافية - تاريخ غير مؤرخ إلا بمحتوى اللحظة ومكانها ) لأنه السير بدون توقف :

ناعساً في قطار العرائسِ ، أخترقُ الغابةَ الذهبية

كان المطر

ناعساً

نائما في بيوت الضواحي

ونافذتي والسكائر

والغابة الذهبية تمتد حتى تلامس هذا القميص الخفيف

الخريفُ

السكائر عادت رماداً

وفي الشاي تنطفئ الجمرات الأخيرةُ

لابأس . . أهو الخريفُ

على الطاولة

ورقٌ للبياض

ورمانة من سمرقند

خبزٌ

وقنينة

من دم الطيرِ

والطاولة

لاترد السلام

لاتريد الكلام

الى أين يمضي قطار العرائس بي .. ؟

أين يمضي بهذا القميص الخفيف

أين يمضي بهذا الخريف ..؟

إن ترويض موسيقى الشعر إلى الحد الذي يحيل صراخها إلى أنين أحد السمات البارزة في متناول سعدي يوسف وهذا الترويض يعني عدم السماح بالمُهيأ الموسيقي أن يتحول الى تدفق غنائي  وأن يؤسس له أي التدفق الغنائي أكثر من مرتكز في بنية البناء الشعري فطاقة اللغة هنا غير مشتته الأمر الذي يجعل قدرة الشاعر يسيره في الوصول الى الصور الخالصة والتي هي على نقيض مع التكوينات الشكلية والرطانة الشعرية وتماثل الإيقاعات ،

إن الإحساس بالشي لايكفي لتقديم عمل مميز ما إذ لم يطرأ شئ من الجديد على هذه الأحاسيس وهذا يعني القدرة على تطوير الفكرة وملاحقها من الغايات الفرعية في النص لذلك كل ما يبدأ به سعدي يوسف هو معيار أسبقيته في البناء إذ ينسجم المتوالي مع متواليه وتتمتع الخطوات بجمالها التعبيري المستقل كون الانتقالات في المشاهد الشعرية المصاحبة لما إصطلحنا علية بموسيقى الأنين تكون نصوصا نهائية سواء في بدء الجمل الشعرية أو في وسطها أو في أواخرها وهذه ميزة أخرى في شعر سعدي يوسف لأن في النص الواحد نصوصٌ أخرى لكنها غير متمردة على كيان الشكل العام للنص ،يضهر ذلك أن المشاعر كائنات تتنقل مابين معطيات الزمكانية وهذه المشاعر هي سريعة التحسس بالمكان الأنسب والمكان الأنسب هنا مرتبط مع الحاجة التي يولدها القلق الذي ينشا من لذة مفقودة أو كيان ذاتي ساخط على كيان كوني أعم أو حنين مألوف إلى رمزية مبهمة لذلك يتم القبول بالإرغام بما يكفي  ما دام هناك شئ باق من الأشياء القليلة لخلق كون بديل :

 

هل أُصلي إذن ، للتي قاسمتني السرير ..؟

هل أُصلي إذن ، للتي قاسمتني الضمير .؟

كان بي ثملٌ من نبيذ التلال

والحديقةُ تدخلُ

والوردُ يدخلُ

والتين يصنع سكرهُ في هدوء السلال

السماءُ هنا غرفتي

والسحابةُ فرشي

والفتاة التي قاسمتني سريري مضت قبل أن يطلع الفجرُ

باق هو النهر

باقية كل تلك الغصون التي هدهدتني

وباقية لمسة الساحرة

إن الدهشة في الشعر تتولد من إيجاز عبارة ما فيها من الحيوية والكثافة والسيولة غير المرئية مايجعلنا مجبرين أمامها على الإنفتاح على أكثر من مسار في النص فمخيلة القارئ تشطر الى أكثر من مخيلة عند قرأته لسعدي يوسف نتيجة عملية الإستبدال والتعويض نتيجة لإدامة عملية التجديد أثناء عملية الخلق وكما ذكرنا سواء في اللغة أم الأحاسيس أم الرؤيا المتنقلة أو الرغبة في تثبيت الذاكرة على فصل ما من     فصول جحيم الشاعر وهي  كثرة وأبرزها موقفه  الشخصي  (  (ممارُتب في ذاكرته ) ولاشك أن سعدي ينأى عن سرد مشاهد الماضي بشكل قصصي  رغم وجود هذا المتطلب النفسي بسبب مساحة وكثافة الخاص غير المعلن لكنه إستطاع تقليص عملية الإفادة من الوقائع بدليل إنتقالاته المركزة التي يوزعها بين يومه الطويل مختصرا أحيانا سنوات طويلة عبر مشهد أني مؤثر يريد به فض نزاعه مع ذاكرته التي تلحق به الأذى ،،

في وداعِ عدن ... يقول

مذ غادرتك الدلافينَ

أحسستُ أن الطريق الى حضرموت القريبةِ

أطولُ من لحظة النزعِ ...

أي الفراتات أختارُ

من بعد أن نضب الفلُ في بئر ناصر

قد كان لي زورق وأحترق

كان لي منزلٌ لم أغادره حتى غرق

فلأُقل لاتزوري المضافة

حين نثرنا الأراك

الأرائك

والدوم والسيسبان الرزين

ولاتتركي في دمي اليودَ والملحَ

لاتتركي في لهاث الرئة

بعض رملِك

 إن خصاما غير تقليديا جرى مابين الكون وسعدي بحيث إرتضيا الطرفان أن لاينظم أحدهما للأخر ولديهما عرض بتحريض موجودات كل منهما على الأخر مع الإدراك الطبيعي للعبة المصير ولاشك لمواجهة ذلك شيئا من الهلامية التي يمكن أن تتمد بها الأشياء والمتطلبات فالأشياء عبارة عن أسئلة عن زمن مرئي لكنه مفقود ، والأشياء هي قدرة وكيفية مشاركة الشاعر لرغباته الوجدانية أي أنه إستنفذ الرؤيا العينية ومخيلته التي تقبع لحظة الخلق في زمن ما هي التي تصدر الصور بل إنها أصبحت بديلة عن عينية فأصبحت هذه الذاكرة ليست هويته للماضي فقط بل هويته للمستقبل بحكم نتائج تخيلها وقدراتها الإستكشافيه لما يلائم كل مرحلة انتقالية قد تسبق الشاعر ككيان في رؤيته ، من هنا لابد من إستحظار الكلمات الحاضنة للفعل المؤثر وتخفيف حدتها لإدراك المعنى المتوازن الذي يخدم الغرض من جهة ويطيح به بعد ذلك من جهة أخرى كل ذلك يحدث ضمن عملية نقل طوعي تُشبه الى حد بعيد تبادل مشاهد من أجل أغراض جديدة لإحلال مشهد شعري بسعة أخرى أي بزخم من معنى أخر يكون رأس القطب لإسناد المشاهد اللاحقة في عملية تدوير مغرية سرعان مايتكرر نبض المشهد الشعري هنا وهناك إذا كان يلتقي الشاعر سعدي يوسف مع قياسات ومتطلبات النص المفتوح وقد بلغت الذاكرة الشعرية أفضل حالات رخاوتها للسطو عليها والإستيلاء على مايريد  ، الى هذا الحد تدخل المهارة الإدراكية في التعرف على المتغيرات التي خدمت حركة النص وتلك التي جددت اللغة ليستوعب المعنى كما أن الذهن حريص على الإستسقاء من العقل الباطن بقدر محسوب ومركز بحيث لايطغي العقل الباطن (الفرويدي ) وتسهم الشخصية النفسية بمفردها في رسم شكل النص وكذلك معاينته ،أيضا لابد من التذكير أن سعدي يوسف لم يخضع منتجه لأي عملية تجميل من أجل ترشيق اللغة لأن لغته تتصف بالشفافية والإدراك لحاجاتها ومتطلبات بناء النص                            وهي لغة إنسيابية ليست تفسيرية بل قصدية ولعينة تحاول الثأر من مخلفات اللغة الكسولة التي لاترقي بالموجودات الى ماهية المطلب لذلك فقد تصرف بحرية إزاء تقبل أي مفردة شريطة قبولها أو على الأقل تماسها مع مناخات المشاهد العديدة ضمن مفهوم المشهد العام ومتطلبات حركته القادمة  ،بهذا الوصف تكون قدرة الإستقراء فعالة في ما سوف يكون فليس هناك من عارض ما سيوقف الاسترسال وليس هناك من حاجة لتأجيل اللحظة بل هناك حاجة لرفد مايظهر بالدفعات المناسبة والسريعة  من كل مكونات العملية الشعرية

وفق ذلك لن يكون لمنتجه حدودا معلومة ولن تكون هناك فقط جهات أربع بل أن الشاعر ضمن دائرة صراع الذاكرة ولامركزيتها في الهذيان  حيث لاحاجة لتبصيرها وإسعافها لأنها لن تفقد شيئا مما تنزفه :

في صباح بعيد سأنهضُ

محتميا بالطريق الذي ينحني هادئا مثل قشرة بطيخةٍ

سوف أمنح نفسي إجازة يومٍ

وأطلق عيني من قاعة القصدِ

(( لاشئ لي )) هكذا سوف أهتفُ

(( لاشئ لي )) سوف أهتف حتى لقُبرةٍ عابرة

ثم ماذا إذا مامضى اليوم

ماذا سأفعل بالنظرِ الطلقِ

بالمنظرِ الطلقِ

بالناظرِ الطلقِ

باللحظة السافرة

ليس بالغريب في شعر سعدي يوسف أن يدل المتلقي على نقطة ما .. خيط دليل ما ولكنه في الوقت نفسه – أي الشاعر – ممتلئ بالمتاهات

وواضح أن سعدي لديه الرغبة في أن يقوم المتلقي بتقصي أثره وهو شعور بشراكة الوصلتين الزمنيتين اللتان يمكن أن تتباعدا ويمكن أن تتقاربا وهو تفسير ما بأن الهموم الإنسانية واحدة ولن تختلف بمقاديرها والإختلاف هو قدرة الشعر على الإثارة الأفضل ، إن الأشياء تنقضي والتي لن تنقضي سوف يشملها التغيير الذي تتطلبه رمزية الوجود الروحي الذي يحيل الطبيعة وموجوداتها الى صفة جوهرية فيه وتلك ايضا وجهة نظر الشاعر للكون وأقترابه تارة من الأمل وتارة من فقدانه :

إذن لم يعد أملٌ

مرقت شاحنات النبيذ

الكنيسة تهتز في البعد

والعشب ينبت بين العظام القديمة

كانت بيوتٌ بلا أحدٍ يهبط السبتُ نيزكُ قطنٍ

وفي حانة ( الجرة ) إستيقظ القطُ

أُهديكِ خيطاً

لتبق المتاهاتُ لي

إن وجود قدرة ما تستدعي البحث عن المكان الأنسب الذي يليق بهذه القدرات ليس بقصد المفاضلة وإنما بقصد قناعة الذاكرة به ،وأعتقد أن سعدي يوسف سيألف مكاناً سيسمى فيما بعد بالمكان ،

هامش / خذ وردة الثلج .. خذ القيروانية / مجموعة شعرية للشاعر سعدي يوسف

عنوان البريد الإلكترونى هذا محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تفعيل الجافا لتتمكن من رؤيته