'الأعمال الشعرية ـ المجلد السادس' لسعدي يوسف: الاختلاط الشعري وخشيته طباعة

 ناظم السيد
01/04/2009 القدس العربي

Image

 بيروت- 'القدس العربي' إلى الآن لا يزال سعدي يوسف يراكم تجربته التي بدأها سنة 1953 بكتاب 'القرصان' ثم 'أغنيات ليست للآخرين' قبل أن يحدث نقلة خرج فيها من مناخ قصيدة التفعيلة العراقية التي سادت مع بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وبلند الحيدري، وذلك بعد نشر 'قصائد مرئية' و'بعيداً عن السماء الأولى' و'نهايات الشمال الأفريقي' مكملاً هذه المرحلة الحاسمة من شعره بكتابه الشهير 'الأخضر بن يوسف ومشاغله'. بسبب تراكم تجربة سعدي يوسف التي فاقت اليوم خمسة وعشرين كتاباً شعرياً، ناهيك بالترجمات العديدة، يبدو هذا المدخل غير مناسب للحديث عن 'الأعمال الشعرية - المجلد السادس' للشاعر، والذي صدر أخيراً عن 'دار الجمل' مشتملاً على ست مجموعات شعرية هي 'صلاة الوثني'، 'حفيد امرئ القيس'، 'الشيوعي الأخير يدخل الجنة'، 'أغنية صيّاد السمك'، قصائد نيويورك' و'قصائد الحديقة العامة'. هذا المدخل ليس سوى إشارة إلى حجم المراكمة التي تركها الشاعر في نتاجه الذي بقدر ما ارتفع عمودياً بقدر ما كان يتوسع أفقياً على مرِّ الوقت.

في هذه المجموعات الست، بدا سعدي يوسف هو نفسه. إنه الشاعر صاحب النبرة الخافتة في الشعر العربي الحديث. وهي نبرة لم تميّز الشاعر فحسب بل انسحبت على أتباع غير قليلين من الشعراء العرب. إنها النبرة المؤسِّسة (بكسر السين) منذ نصف قرن تقريباً. بهذه النبرة افترق سعدي عن مجايليه من أبناء الستينات سواء كانوا شعراء تفعيلة أم شعراء قصيدة نثر. حتى إنه فاق شعراء قصيدة النثر نثراً وخفوتاً على الرغم من التزامه التفعيلة الخليلية في ما كتب، مدوّراً التفعيلات حيناً، ومازجاً أكثر من وزن شعري حيناً آخر. بهذه النبرة الخافتة صنع لنفسه أبوة هنا وهناك. لم يكن خفوت الصوت في قصيدة سعدي يوسف الصفة الوحيدة التي صنعت له أبوة، وإنما قصيدة التفاصيل اليومية أيضاً. لنقل إن سعدي يوسف كان أول المشتغلين على هذه القصيدة التي تعنى بالهامشي والمتروك والجزئيات الصغيرة أو بشكل عام التفاصيل التي لم يكن يُنظر إليها على أنها مادة شعرية. في هذه المجموعات الصادرة حديثاً لم يخرج سعدي يوسف عن مفهومين وسما نصه الشعري: الخفوت والتفاصيل. بلى، يبدو هذان العنصران في شعر سعدي أكثر من ميزتين أسلوبيتين أو صيغتين لكتابة القصيدة. إنهما مفهومان. لقد تحوّلت النبرة الخافتة وكتابة التفاصيل في قصيدته من شكل إلى مضمون، من أسلوب إلى معنى. قصيدة التفاصيل لديه شكل من أشكال الأيديولوجيا التي أتقنها طوال حياته.
مثلما حافظ سعدي يوسف على نبرته الخافتة وهامشية موضوعاته، ظلَّ أميناً لانتمائه السياسي والفكري والعقائدي، أي للماركسية. لا ينطبق هذا الكلام على مجموعة 'الشيوعي الأخير يدخل الجنة' والتي ضمّتها هذه الأعمال الشعرية، وإنما على أمكنة واسعة من المجموعات الست. إنه سعدي يوسف نفسه الشيوعي، والمناهض للسياسة للأميركية، والمتهم (بكسر الهاء)، والمشكك، ورافع الحنين يافطة وطنية. لكن هذه الموضوعات التي يراها البعض موضوعات كبيرة، تبدو في نص سعدي جزءاً من التفاصيل. بمعنى آخر، يشتم سعدي يوسف الجيش الأميركي والسياسة الأميركية وعملاء الأميركيين ويتذكر رفاقه الحمر، ليس من باب المنشور السياسي أو الشعار الأيديولوجي فحسب، وإنما من باب كتابة الحدث السياسي الذي يغنيه في نصه الشعري. إنه نص سعدي الذي يخرج من الغابة إلى الأوتوستراد، ومن اليافطة إلى النبيذ، ومن الفكرة الماركسية إلى يوميات الحرب، ومن البيت إلى البحيرة، ومن الترجمة إلى الاستشهاد بالتراثين العربي والعالمي، ومن التاريخ إلى أخبار الساعة. شعرية سعدي بلغتها الخافتة، ونثريتها المتطرفة، وتعريجاتها على كل ما يصادفها، تؤسس للقصيدة المقالة. نحن أمام قصيدة تستلهم المقالة الصحافية في نبرتها وعقلانيتها ومحاججتها واستطرادها واستشهاداتها. يكتب سعدي يوسف كمن يتحدث. كمن يحكي. كمن يقول الكلام قولاً تواً وحياً وراهناً.
شفاهة سعدي يوسف لا تلغي الكتابية لديه. هذه الكتابية تتجلى في عناصر عدة: من بعض الاشتقاقات اللغوية التي تقيم إلى جانب المعجم الشفهي، من المثاقفة التي لا ترهق النص الشعري بل تمرُّ وفق المقتضى، من التضمينات والإيداعات والاقتباسات الشعرية التراثية العربية أو الغربية. تتجاور الشفاهة والكتابية لديه تماماً كما يتجاور النثر إلى جانب الغنائية. غنائية تبرز مرة عبر التكرار، ومرة عبر الانفعال والعصبية والهجاء، إذا أمكن لنا أن نحسب هذه الحالات والأنواع على الشعر الغنائي. بدورها تحيل صيغة الإنشاء، ولا سيما الاستفهام والنداء، على غنائية واضحة حيناً ومضمرة حيناً.
والحال، تحوي قصائد هذه الأعمال الشعرية أيضاً الطبيعة. يبدي سعدي ولعه بالطبيعة. الطبيعة في شعره باردة وبليدة وطليقة. إنها الطبيعة البريطانية التي ألف الشاعر أشجارها وبحيراتها وطيورها وحيواناتها. الطبيعة هنا منفى أيضاً. لقد استطاع سعدي يوسف المنفي أصلاً أن يبتكر منفى آخر لا يشبه منافي العرب الآخرين المتشكية والنائحة في معظم الوقت. منفى سعدي لكثرة ما هو مغسول من الصراخ بدا كأنه منفى طوعي.
وعليه، فإن أكثر ما يُحسب للشاعر، أنه جايل شعراء مهمين ونجا منهم، وإن كان فيه أثر من هذا وذلك: من الشعر الجاهلي إلى غنائية لوركا، من اختلاط الألمين الشخصي والعام كما لدى السياب ونبذ الأسطوري لدى الستينيين إلى توظيف الميثولوجيا بطريقة محسوبة ومقننة كما عند كفافيس، ومن تفاصيل ريتسوس ومباشرته إلى الحنكة اللغوية كما عند فاسكو بوبا.
ثمة إذاً، مجاورات عديدة تقيم في نص سعدي يوسف، من الشفاهية إلى الكتابية، ومن الصوت الخافت إلى جزالة اللغة، ومن التخفف الثقافي إلى المثاقفة، ومن اليومي الهامشي إلى السياسي الأيديولوجي، ومن التاريخ إلى الحاضر، ومن التراث العربي إلى الإرث العالمي، ومن الجفاف إلى الغنائية، ومن الذاتي جداً إلى الموضوعي، ومن الشخصي إلى الوطني. إنه نص يريد أن يأخذ كل شيء. أن يقول كل شيء، لدرجة لا يعرف القارئ الحدود بين ما هو شعري وبين ما هو غير شعري. الأحرى بين ما تمَّ تحويله إلى شعر وبين ما بقي على حاله عصياً على الشعرية. بهذا المعنى فإن عناصر قصيدة سعدي يوسف التي اشتغل عليها طوال أكثر من نصف قرن، تعمل ضده أحياناً. أقصد أنها تبدو في بعض المواضع مجرّد عناصر. مجرّد صفات ومميزات. مجرّد دلائل. وهذا ما يطرح سؤالاً كبيراً عن مدى الشعرية في هذا الاختلاط غير المحسوب ربما، عن مدى الجمالية في هذا الاسترخاء. ذلك أن خشية كبيرة من ألا يبقى من النص الشعري إلا خفوته. خشية من أن يغدو هذا الخفوت أقوى من الشعر وأعلى منه وأكثر طغياناً. خشية من أن يكون الخفوت مذهباً وتصنيفاً ومقعداً دائم العضوية في عصبة الأمم الشعرية.
 
نـاظم السـيد

اخر تحديث الأربعاء, 01 أبريل/نيسان 2009 11:18