سعدي يوسف.. الروح الثرية طباعة

محمود عبدالغني

-1- لا بد أن نعترف أننا بدأنا في الشعر العربي نقرأ أشياء مُضجرة.أشياء كأننا نراها في مرايا مكسرة.إذا سلمنا، مثل الألمان، أن المرآة المكسرة ترمز إلى الموت. والآن بدأ الشعر يخاف الرواية، الفلسفة، النظرية الأدبية، السينما...بدأ يخاف كل شيء فيه ثراء تخييليا، أو يعبر عن أزمات حميمية. في حين أن هذا هو الزمن الذي ينبغي أن يكون فيه الشعر احتفالا، جنونا، ما ورائيا، يدفعنا بقوة إلى الحدة، ويقود كل شيء إلى أقصى مداه. دعوني أكرر أن شهرة الشعر اليوم جاءت من حماسة العرب وليس من تداولية الشعر. ولولا تلك الحماسة لكان الشعر والشاعر مجهولين على هذه الأراضي التي طالما اعتبرت القلب الأسطوري للعالم، بفضل الشعر،

 عندما كانت اليونان تعتبر القلب الأسطوري للعالم بفضل الفلسفة. ألم يعلم الشعر أسلافنا كل ما يحتاجه الإنسان: الشجاعة والحساسية. ولتعلم هذين الخصلتين دخلت مرة إلى المكتبة لشراء كتاب لرجل يدعى الأصمعي طالما سمعت أنه كان يمضي إلى الصحراء طيلة عشرين عاما ليتعلم أسرار اللغة العربية ليفهم الشعر العربي. فخرجت من المكتبة وفي يدي مجموعة شعرية لسعدي يوسف هي «بعيدا عن السماء الأولى». ومنذ ذلك الوقت وأنا أقرأ سعدي يوسف. منذ «بعيدا عن السماء الأولى» إلى «قصائد الحديقة العامة» مسافة جمالية وتخييلية احتاج فيها الشاعر إلى رؤية تنويرية. مسار يميز بين العمل الجاد وبين الكسل. تم التخلي فيه عن جميع كليشيهات الشعر لصالح ترسيخ أسلوب خاص. وهذا هو سر استمرار سعدي يوسف من جيل إلى جيل. في المجموعة الشعرية الأخيرة التي قرأتها قبل أيام «قصائد الحديقة العامة» ( منشورات دار الجمل)، ثمة كلمات مفصلية خطيرة، ما إن تنطقها حتى تفتح أمامك أبواب الأدب والحياة. أختار منها، في البداية، كلمتين: الحديقة العامة. إن من يكتب هاتين الكلمتين لابد أن تكون له طبيعة صادقة وجامحة.وأن تحوم روحه حول زمن معين. لابد أن تعرف ما إذا كان الوقت صباحا أو مساء. ومن ثم سنعرف سلالته. في الحديقة العامة يلتقي العنف والرقة. بل يتحدى أحدهما الآخر. الحديقة العامة فضاء عتبة. مكان عابر السبيل الذي ينام في أي مكان ويستعير ثيابا وأحذية أصدقائه. في الحديقة العامة كان ينام «هنري ميلر» و»سركون بولص». في الحديقة العامة نلاحظ كل شيء، من النخلة النحيلة إلى قناني النبيذ الفارغة إلى غيمات الخريف البيض. في الحديقة العامة نتعلم هجاء الآخرين. -2- منذ سنوات بعيدة قرأت مقالا لسعدي يوسف عنوانه «بول إيلوار في الضاحية».ذكر فيه مشاركته في إحياء ذكرى الشاعر الفرنسي «بول إيلوار» في مقبرة «بيير لاشيز»، حيث وضغ المشاركون زهورا حمراء على ضريحه والقوا كلمات.كتب سعدي يقول عن ذلك اليوم:» صباح ذلك اليوم، فرشت أمامي الخارطة الكبيرة لخطوط المترو الباريسية،ودرست جيدا طريقي،حفظت المحطات غيبا، ثم انطلقت إلى مقبرة «بيير لاشيز»». إن كلمة مقبرة باعثة على التطير والذعر إلى حد بعيد. لكن عبارة «درست طريقي جيدا» قامت بدور الممحاة للذعر والتطير. لا يمكن أن تتصوروا مدى إعجابي بعبارة «درست طريقي جيدا». فالعالم ليس مليئا بممارسات مشابهة. ومنذ ذلك الحين، الزمن الذي استغرقه جولاني في عالم سعدي يوسف، جهده في ترجمة الرواية الإفريقية له وزن خاص، منذ ذلك الحين عرفت أنني أمام شاعر له نزعة «بروتيسية». له القدرة على الظهور في أشكال مختلفة، ولابد من فهمه في كل صوره المختلفة. لابد من قراءة مدنه قراءة مختلفة. وبالرغم من أنه لم ينشر مجموعة شعرية تحت عنوان» قصائد أستراليا»، إلا أنني استطيع أن أتخيل قصائدها حول حيواني «الكوالا» والكنغر، حول الجبال الزرق والمشرب الصغير الذي يؤمه الصعاليك. بعد أن زار أستراليا تساءل سعدي: ماذا أضفت إلى تكويني؟ وأجاب:» أضفت محيطا، وقارة، وغابة مطر». وذلك جعلني أتوق إلى زيارة أستراليا، والى قراءة شاعرها المرموق «دفيد معلوف» الذي ترجم له «سعدي» روايته الجميلة»حياة متخيلة»، وإلى العيش في لندن،مثلما جعلني «رولان بارت» أعشق الصين بعد قراءة مذكراته عن زيارته لإمبراطورية العلامات سنة 1974. كما جعلني الروائي الفرنسي «ميكائيل فوريي» أعشق «طوكيو» في روايته «طوكيو،بورتريهات صغيرة في الفجر». دفعني سعدي يوسف أيضا إلى قراءة الرواية الإفريقية، من خلال النصوص الكثيرة التي ترجمها: «تويجات الدم» لنغوجي واثيونغو، الحوالة» لعثمان صمبين، «المفسرون» لوول سوينكا، الشمس الثالثة عشرة» لدانياتشو ووركو... وروايات أخرى من عالم روائي سماه «فردوس الرواية الإفريقية». -3- التقيت سعدي يوسف لأول مرة في مدينة فرنسية صغيرة اسمها «لوديف» في صيف 2007. قلت في نفسي ها أنا أمام شاعر طالما رددت أمام زملائي إنه متحرر من المواجهات التقليدية مع اللغة والشعر والحياة. أردت أن أسأله: أنت الشاعر سعدي يوسف ؟ لكنني ترددت، وقلت ربما سيرد بما كان يرد «ألان كينسبورغ» عندما يوجه إليه نفس السؤال: لا، لكن هذا هو الاسم الذي ينادونني به». وجدته على الصورة التي كان ينشرها له «صموئيل شمعون» في «كيكا». ذات صباح جلست إلى جانبه في المقهى. لم اكلمه.ودخلت في مونولوغ طويل كأني أتحدث إليه. قلت ها أنا أمام إنسان الشارع المغامر. ومادمت في فرنسا فإنني لن أشبهه إلا بالشاعر «بليز ساندرارس». لنقرأ قصيدة «الشمس التي لا تأتي» من مجموعة «قصائد الحديقة العامة»: «في هذا الأحد المقرور اشتقت إلى بلدي / أمضيت صباحي في الساحة والمقهى». كان سعدي مرحا يتحدث مع الكل ويضحك. في يوم آخر إلتقيته وتحدثنا. كان حادا وميالا إلى الصمت وكأن الكلام مضيعة للوقت.تذكرت ما كتبه عن مجموعة وليد خازندار» أفعال مضارعة»: «الضجيج حرفة،لها أهل وساحة، وأسواق. أما الصمت فما أهله بالكثر. وليس للصمت من أسواق أيضا، إذ لا باعة ولا شراة». وفي مرة ثالثة ترافقنا أنا وهو ومحمد بنيس إلى مدينة «مارساي»،فكان يتكلم بتدفق كأنه يفتح صنبور الأفكار لتنهمر. فعرفت أن التناقض هو سلاحه العظيم. التناقض فلسفة عظيمة، صحيح أنه ليس فلسفة تعليمية تلقن في الكليات التي يلقن فيها النسق والنظام والبنية، لكنه فلسفة متينة في الشعر لأنه بكل تأكيد يصدر عن جرح. فالتجربة الذاتية، الفكرية والروحانية والشهوانية، هي أصل هذا التناقض الخلاق. وسعدي يوسف، في إصغائه لحياته الخاصة، لا يمكن أن يكون إلا متناقضا. والإصغاء هنا بمعنى المقاربة الفلسفية للتجربة. ألم يعرف «بول فاليري» الشعر بالتالي: «اقتران التحليل بالخلاصات». كنت دائما انزعج من مقالات قرأتها عن سعدي تعدد المدن والعواصم التي يعاش فيها وكتب عنها.إن استثناء الشعر وتفوقه، على الرواية مثلا، هو كونه يعبر عن «شكنا المعمم» (صلاح ستيتية). فالإنسان لا محدد ويعيش في عالم لا محدد. ووطن سعدي هو ذاك الذي يؤدي فيه الضرائب، وله فيه حقوق وعليه واجبات. لكن في الخلاصة النهائية لقد «ضاع الوطن وضاع المنفى». على الشاعر، إذن، أن يحفظ في قصيدته «مكانا لعتمة الكينونة»(ستيتية).