عبدالجبار خمران 'المثقف التابع' لسعدي يوسف طباعة

Image كتاب وصفه الروائي حمزة الحسن بأنه 'ربما لعنة جديدة يضيفها حفيد امرئ القيس في عالم عراقي غريب، صارت الكتابة ووجهة النظر وتحريك الوعي إرهابا، وصار الإرهاب وجهة نظر'.
الكتاب ماتع ويُشعل الرأسَ قلقا، جُمعت به خلاصات فكر ثاقب غير مستسلم ولا متساهل يسمي الأشياء بأسمائها. يضع المثقف والمبدع في زاوية اختيار لا محيد له عن مرآتها المحرجة، ولا عن تساؤلاتها الآنية إلا بالانحياز لأحد موقفين:
- تبني: ثقافة الخنوع المُوَرثة للخرس والمكرسة للتابع والجاعلة الفرد الحر مسخا.
- أو بديلها: ثقافة المقاومة، المحررة للتابع من تبعيته ليقولô(لا) الكبرى. لا...التي نسينا أن نقولها منذ عقود! كما يصرح صاحب الكتاب.

قد يكون بعضنا قرأ المواد المدرجة بهذا المؤلف (بفتح اللام) على شكل مقالات وحوارات بصحف مكتوبة كجريدة 'القدس العربي' أو ببعض المواقع الإلكترونية الأدبية منها والعامة، لكن المزية في جمع مواده والإشراف على طبعه من طرف الكاتب والإعلامي العراقي مازن لطيف، تكمن في كونه ضخ بين دفتي هذا الكتاب رؤية نظرية متكاملة لقامة شعرية سامقة بمشهدنا الشعري والثقافي: سعدي يوسف الشاعر والمثقف العراقي القابض على فكره كقابض على الجمر. ولو أنه يصرح بإحدى الحوارات التي أجريت معه - والمتضمنة بالكتاب - أن تسمية 'العراقي' لم تعد مناسبة له، ويمكن أن يقال 'الشاعر' فقط، فالعراق الآن وطن ملغى وليس كاملا، إنه مستعمرة تلوب فيها الذئاب - كما يقول- ولن يعود إليها.
جاء كتاب (المثقف التابع: محاولات في موضوعة المثقف التابع) في ست وتسعين صفحة، وهو في طبعته الأولى 2009 صادر عن دار ميزوبوتاميا ببغداد.
ومن خلاله نرافق سعدي يوسف المثقف والناقد إلى جانب الشاعر طبعا،لكنه هنا، شاعر يُظهر بالموازاة مع شعريته رؤية نقدية وتحليلية.
يقول الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح في نهاية مقاله الموسوم: 'سعدي يوسف...الموقف والخصوصية ' المدرج في الفصل الثاني من الكتاب، وفي سياق تعليقه على إحدى إشارات سعدي يوسف النقدية: ' لعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن في الشاعر الكبير يسكن الناقد الكبير. وإذا كان سعدي لا يمارس الكتابة النقدية إلا في أحايين نادرة، فإن هذه الإشارة وأمثالها تكفي لتصنفه في مصاف النقاد العارفين حقيقة الشعر والمحيطين بأسراره '
والكتاب يتضمن ثلاثة فصول:
عبارات عنوان الفصل الأول؛ 'محاولات في موضوعة المثقف التابع'؛ ترصد مضمونها ثماني مقالات لسعدي يوسف، والتي نظم الشاعر العراقي بخيط نقد رفيع عقد محاولة تتبعها الدقيق لموضوعة المثقف والحاكم؛ والنظام الذي يحدد العلاقة بينهما.
والمقالات على التوالي هي:
1- نظام المثقف التابع وعلاقته بتأييد الاحتلال. 2- لما الهجرة...إذا؟
3- المثقف التابع: محاولة التماهي مع المستعمر. 4- آليات انمساخ المثقف الحر، مثقفا تابعا. 5- المثقف التابع مطرودا. - الشعر والجمهور. - لماذا نقرأ لكَ ؟. - ثقافة عراق بين سيفين. ليختم معد الكتاب هذا الفصل بنص شعري: 9- مقام عراقي مع أغنية وبستة.
المقالات الأولى - والمرقمة من واحد إلى خمسة - عبارة عن صياغة لمقولة يؤكد عليها سعدي يوسف ويستأنف بها حديثه بخصوص هذا الإشكال، وهي أن نظام المثقف التابع، هو النظام الطبيعي الذي حدد العلاقة بين المثقف والحاكم.
ويُرجع سعدي يوسف تبعية المثقف لعدة عوامل متعددة ومتشعبة، منها أن المال هو المرجعية الأولى والأخيرة في التراتبية الاجتماعية/ الاقتصادية، وبالتالي فصاحبه متبوع من مثقف يتبع مصدر رزقه.
كما يرى بأن تبلور طبقات اجتماعية بالعراق ما يزال في الطور الأولي، والطبقة الوسطى لم تترسخ بتاتا، أما المجتمع فتُسيطر عليه بقايا العقلية الإقطاعية واندفاع العلائق العشائرية إضافة إلى التفسير الخرافي والغيبي للكون والإنسان.
وبما أن المجتمع لم يُفرز من التباين الطبقي وعلائق الإنتاج ما من شأنه أن يمنح قدرا من الاستقلالية؛ فلا حيز لموقف مختلف ولو جزئيا لهذا المثقف..ناهيك عن مظاهر ضيق وتململ هذا الأخير كأن يحاول كسر الطوق فيهرب من ملك إلى أمير ومن أمير إلى حزب ليتغير بذلك المتبوع في حين يظل المثقف هو التابع دائما.
هناك استثناءات طبعا؛ لمثقفين اختاروا حريتهم واستقلالية رأيهم وأكملوا الطريق، كالرصافي والجواهري وسركون بولص وغيرهم، فكان مصيرهم الإبعاد والإقصاء والدفن في مقابر الغرباء، رافضين بذلك التماهي مع صورة التابع حتى لا تكتمل عملية المسخ شأن هؤلاء المثقفين التابعين، حتى وهم مهاجرون يحملون جنسيات أخرى، ليتساءل صاحب 'الشيوعي الأخير': فيما هجرتهم إذا؟
بل قد يتماهى المثقف التابع مع المستعمر (بكسرالميم). وبعد أن يُمكمك هذا الأخير مخ المثقف ويمجه بعد قضاء مآربه، يرفض هو أن يترك سيده، فيتبعه كما يتبع المضبوع الضبع. ليرفضه الناس بدورهم، كونه من أعوان الاستعمار فيضطر لمغادرة البلد.. إنه المثقف التابع مطرودا!.
هذا غيض من فيض هذا الفصل الذي يسمي أشخاصا ومؤسسات ويفضح علاقة الحاكم بتابعه. هذا الحاكم الذي يتمظهر بلبوس عديدة وفي صور مختلفة كأن يكون نبيلا إقطاعيا أو أمير مقاطعة أو ملكا أو خليفة أو قائد جيش أو رئيس حرفة ما أو عميد مؤسسة تعليمية..الخ إنه بيت المال، وهو المال في الوظيف العام.. وقائمة المتبوع تطول لتضم الكنيسة والأحزاب والاحتلال..الخ.
والفصل الثاني من الكتاب والمعنون: 'مقالات كتبت عن سعدي يوسف' عبارة عن خمس مواد بمثابة مقاربات نقدية تحليلية لبعض نصوص سعدي يوسف الشعرية وقد جاءت مرصوصة كالآتي:
1- ' الشيوعي الأخير يدخل الجنة لسعدي يوسف: قرين جديد للأخضر بن يوسف معمد بالنار والماء ' للناقد المغربي سعيد المولوي، والذي يذهب في قراءته للديوان المذكور؛ إلى أن 'الشيوعي الأخير' امتداد وخلق جديد للأخضر بن يوسف فهو يبادله الإحساس العميق بالحياة ويمضي بها نحو حب عارم للحرية والأرض..
2- 'سعدي يوسف...الموقف والخصوصية' لعبد العزيز المقالح، وينوه فيه الشاعر اليمني بموقف الشاعر ابن العراق الذي'أبصر حوله القامات تتقاصر' ولم تراوده يوما فكرة أنه لا خلاص من الديكتاتورية إلا بدبابات المحتل..
3- 'سعدي يوسف في خطوته الخامسة: ذاكرة الحديد والجدران الرطبة' لقيس مجيد المولى، والمقال عبارة عن ورقة ذات عمق نقدي للمجموعة الشعرية 'الخطوة الخامسة' والتي يلامس عبرها الكاتب خصوصية النصوص الشعرية المتضمنة بهذه المجموعة.
4- 'عزلة الصبار: حياة متخيلة لسعدي يوسف' للروائي العراقي حمزة الحسن، وهو عبارة عن فصول من نص روائي، استمد الكاتب خيوطا لنسجه من كتاب 'خطوات الكنغر' لسعدي يوسف ومن مجموعاته الشعرية، وكذا كتاب الشاعر 'بارنستون' عن بورخيس، وأيضا من كتب لبورخيس نفسه: 'الصانع' - 'الألف' - 'المرايا والمتاهات'. وبما أن 'نصفنا اختراع، ونصفنا الآخر ذاكرة' - المقولة البورخيسية - التي جعلها الروائي مفتاحا لباب دخوله هذا النص، فقد كان الخيط الناظم للمسار السردي هو مخيلة حمزة الحسن.
5- ' سعدي يوسف: يحرث في أرض بكر وسواه يزرع في أرض جاهزة ' لعواد ناصر. والذي اختار ثلاث قصائد من ديوان 'أغنية صياد السمك' للشاعر، ليلقي الضوء على وحدة المادة الخام التي تشكل كينونتها الشعرية، وكيف أن تناول سعدي للموضوع السياسي شعريا، نقل القصيدة العربية باعتبارها قصيدة سياسية لتصبح سياسة شعرية.
أما الفصل الثالث من الكتاب فقد حوى أربع ' حوارات مع سعدي يوسف'، يحكي عبرها عن سجنه في الستينات بعد انقلاب البعثيين، وكيف خرج من السجن بصدفة عمياء، سببها صديقه حسين مردان 'الشاعر الرجيم' كما كانوا يسمونه.. ليُخرج بعدها من العراق؛ وعن علاقته أيضا بالمدن التي حط فيها الرحال؛ وعن قصيدة النثر بما لها وما عليها؛ وعن الثقافة والحرية والاحتلال..الخ
وقوفنا على شاطىء هذه الحوارات مع الشاعر سعدي يوسف يغري القارىء بالإبحار أكثر وأعمق بفلسفته ورؤيته للأشياء وللعالم وللثقافة والشعر وللحياة.
وإن كان يصرح بأحد عناوين قصائده: 'سأحاول ألا أقول شيئا' فهو هنا / ودائما، يقول ما يمنحنا الكفاية للتفكير والتأمل والمراجعة. ويفتح لأبناء العراق / ولنا..فسحة أمل على هذه الأرض صارخا :'نحن في السفح الثاني من الجبل. لقد بدأ الجنود يحزمون حقائبهم استعدادا للرحيل'.
وعناوين الحوارات مع سعدي جاءت كالآتي:
- سعدي يوسف: 'رحالة في الشعر والمدن يحمل النهر في راحتيه ويقول: لم يعد العراق وطني' حاوره: محمد شعير.
- سعدي يوسف: 'العراق مستعمرة تلوب فيها الذئاب' حاوره: وليد الزريبي.
- سعدي يوسف: 'خريطة العراق في قلادة برقبتي ولن أعود تحت راية أمريكية' حاوره: نور الدين بالطيب.
- سعدي يوسف: ليس في خارج العراق ثقافة يعتد بها،شأن الداخل العراقي: حاوره: مازن لطيف.هذا الأخير الذي كان له فضل الإشراف على طبع كتاب سعدي'يوسف: 'المثقف التابع'.
كاتب من المغرب يقيم بباريس
عنوان البريد الإلكترونى هذا محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تفعيل الجافا لتتمكن من رؤيته

اخر تحديث الخميس, 05 فبراير/شباط 2009 12:33