سعدي يوسف في «يوميات في المنفى الأخير» طباعة

Image  العرب أونلاين- عبد السلام فزازي*: يوميات المنفى الأخيرً، كتاب صدر للشاعر سعدي يوسف، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات المتفرقة نشرها في عدد من المجلات والصحف العربية خلال السنوات القاتلة التي عاشت فيها بيروت حصارا وتقتيلا وإبادة جماعية، وقد اندرجت المقالات تحت سبعة عناوين وهي: الأيام الصعبة، في حرقة الشعر، حضارة، حكايات، تراث، كتب، شعر من هناك ً.
والكتاب يقدم وبصراحة دامية مشواره اليومي، وفي هذا الإطار يقول مقدم الكتاب فيصل الدراج: فإذا انتهى من أركان ًالنداءً جمع نفسه وحمل قلمه، وتابع الطريق إلى مجلة ًالحريةً يجلس في غرفته، ويجالس الآخرين، ثم يرفع هذا القلم الذي لا ينضب ليقول جديدا، فيستلهم حكاية أو يبعث خاطرة أو يطلق الكلمات لتبني لها معنى، وتبني لنا معنى…ً

ولعل قارئ هذا الكتاب وهذه اليوميات الحزينة يكتشف مسحة الاندهاش والانبهار واللاجدوى تطرزها أبجدية سعدي يوسف وهي تستصحب التفاصيل التي عاشها كمثقف عربي حوصر في بيروت أو بالأحرى فضل أن يعيش الحصار مع ثلة من زملائه المثقفين ليتساءل عن حماقة الإنسان والسياسات التي تقصي حضور هذا الإنسان على الخريطة العربية إذ السؤال الجوهري عند سعدي يوسف يتلخص في: من ينتصر على من في آخر المطاف؟
وكيف اختار الإنسان العربي المدجج بالصمت عاره بمثل هذا الشبق !هذا هو جوهر بطولة بيروت، وكأنني بسعدي يقدم هذه الرسالة إلى العالم والى الأهل، ذلك لأنه يكشف في يومياته هذه عن مركب نقص أصبح فردا في العشيرة العربية، ونزعة تدمير الذات.
ويعترف سعدي أن هذا المشهد لا يفصح إلا عن حقيقة واحدة تتلخص في أننا أعداء دمنا وروحنا، ولا شيء أشد فسادا من هذا الفساد:
ليس لنا أن نتحدث عن مارسيل خليفة إلا بلغة النوتة.
ليس لنا أن نعرف عن مظفر النواب إلا طرائق الكوكتيل.
ليس لنا أن نقول إن كاتب ياسين اسمه كاتب.
ليس لنا أن نكتب مرثية للعراق.
ويشير أساسا تساؤل سعدي إلى كيفية إنقاذ الجسد العربي والفكرة العربية المسيجة، وكيف يمكن إنقاذ الروح؟ هذه أسئلة لا تحال هذه المرة على الفكر، بل على الإرادة التي تشحذ كل طاقاتها لتقهر السؤال الوجودي.
نكون أو لا نكون . إذ ليس في وسع أمة أن تتقدم من هذا السؤال بطريقة محايدة وباردة. وليس في وسع أمة أن تحمل مثل هذه الهوية الفلسطينية واللبنانية الفذة أن تكون غير ما يكون عليه أصحاب الرسائل التاريخية: رسائل الحرية:
ًالجليل لنا ولا نخجل.
في صباح الخرافة تكون الكلمات أجسادا. لن أسخر من الثورة. السفن تحفر باب المندب. والطير أكثر ارتفاعا من الجبل…مر ة قالت لي فتاة فلسطينية، ونحن بين صيادي بيروت: من هناك تأتي طائرات العدو، كانت سبابتها تمسح العالم.
أكيد أن هذه الصور الغرائبية التي عبرها تزهر النخوة الطفولية البريئة أكسبت الشاعر مناعة استثنائية في الصمود والكتابة من أعماق المتاريس التي شكلت بيروت إلى قلعة تخرج من التكرارية اليومية وتتلبس التاريخ…ولعل قارئ ًيوميات المنفى الأخيرً يقف عند حقيقة مقاومة شاعر عانق حب أمة بأكملها جنبا إلى جنب مع ثلة من مثقفي الأمة العربية. وهكذا شوهد في بيروت المحاصرة وهو يقتسم مع الصامدين خبزهم اليومي من التعب والجوع وتهديد الموت الدائم.
وحين خرج الفلسطينيون تحت مطر الرز وشلالات الزغاريد المودعة نخرج معهم، ببذلة محارب:
أيها الوطن الذي ضاق. أيها الوطن الذي مضى.
نحن مانحوك الهوية وحضور المائدة. علقناك
ملصقا في ًالفاكهانيً وجلسنا نحرسك ببنادق الفقراء.
زرعناك وردة في القنبلة اليدوية، وقلنا: لن ننزع
الصاعق. الأمر لك: فلتسكن غرفنا المهددة. ص: 419.

ولعل ًيوميات المنفى الأخير ًهو نزيف جرح استثنائي أضيف إلى عالم المنفى الذي صاحب الشاعر منذ 1957نحالة مستمرة تتخللها أحيانا فترات عودة قصيرة ومحدودة، ولكن السبيل الرئيسي فيها هو المنفى.
يقول سعدي: أحيانا أفكر في المعنى، ولكن لا أجد لهذه المسألة معنى أكثر دقة من التطهير، لماذا؟ يمكن القول إن المبدع، في بحثه عن الحرية الضرورية يجد نفسه دائما إزاء قوى خلقت شروطا لإغلاق منافذ الحرية، من الصعب أن يتخطاها هذا المبدع بدون أن يحاول تحقيق حرية مكتسبة، ما دامت الحرية في الطبيعة مفتقدة ً.
وهكذا وخلال حصار بيروت تبين لسعدي أن الواقع العربي دخل الغرغرة بشكل رسمي لأنه أضاع التأسيس الذي من أجله سخر المثقف العربي له وقتا طويلا من نضاله الثقافي وأصبح يطل على الهاوية وحقيقة بيروت خير دليل على المشهد السياسي، فعموم المسرح الثقافي في المنطقة العربية بدت له غير آبهة بالتنوير الذي كان يوما ما الحلم العربي.
وعموم المشهد السياسي لم يعد مهتما باستقلال الوطن ويصرح في هذا الإطار سعدي قائلا:
ً…نحن الذين وهبنا هذه الحياة من أجل التأسيس ومثله ومساعيه، نحن الآن، بل لأقل أنا، على قناعة بأننا فقدنا التأسيس وأضعناه.
إنني حين أفتح عيني لا يمكنني إلا أن أفتحها على الهاوية. إن موسعدي: ثقف في هذه الأيام هو موقف من يطل على الهاوية…ًفهل ترى يمكن لكل من تتبع المشهد السياسي العربي أن ينكر على سعدي هذه النظرة الطالعة من تخوم الواقع المزري الذي باتت تعيشه الأمة العربية؟
بل هل يمكن لعاقل يحمل هوية عربية إسلامية أن ينكر أن الخريطة العربية أصبحت هي الأخرى على الهاوية؟ يقول سعدي: خذ مثلا فقدان المدن، نحن الآن، ومنذ زمن نفقد مدنا. مدنا متصلة بجوهرنا وتاريخنا.
القدس، مثلا، غزة، القاهرة، بيروت، الفاو. هذه كلها مدن نفقدها…فكم من مبدع عربي هو اليوم بلا أرض؟ إننا إذا ما بدأنا بالعد فسنجد أمرا عجيبا. ألا يستدعي هذا الأمر وقفة حقيقية ومسؤولية أعلى من مسؤولية الحياة اليومية المعتادة. ألا يستدعي نوعا من تنسيق الجهد وإطلاق صيحة؟.
ومن خلال هذا الموقف العاري من كل التباس يلوح جليا أن ًيوميات المنفى الأخير ًهي كشف لعورات أمة لا تعتبر وأمة لا زالت تنتشي بعد ذكريات تجاوزها الزمن ذلك لأن الآني يحتم عليها الخروج من أسر اللعبة السياسية الداخلية إلى أفق المستقبل ومقاومة اليوم هي غير مقاومة الأمس، بالأمس كانت تستند إلى وهج ثقافي قادم من المرحلة القومية، وكانت فلسطين ولبنان علامة ثقافية وأسطورية في الوجدان العربي، أما اليوم فالمقاومة تعني الخروج من الأسطورة إلى المواجهة العارية، وهذا ما لم يحدث مع الأسف الشديد لما حوصرت بيروت.
من هنا بدا سعدي ًيومياته ًبلغة بسيطة نافذة إلى الأعماق لأنها مستنبطة من واقع عاش تفاصيله وتفرس شراسة العالم ودخل مساحة اليوميات لا يحمل إلا عفويته وهو لهذا يبدو حريصا على البساطة في حد ذاتها…بساطة اللغة وعمق ًالموضوعً في آن واحد .
من هذه الرؤية كتب سعدي يومياته فأتت العفوية طازجة حارة في كثير من المحطات غارقة في المألوف والعادي واليومي في بعض المحطات الأخرى. وسعدي في كل هذا وذاك يرى العالم في كتابته هذه بشفافية الطفولة الجريحة النازفة.
فالعالم عنده كثيرا ما يبدو في أغلب الأحيان ساكنا منفصلا من شدة الغرابة وان كان قاسيا شرسا، وسعدي إزاءه يبدو مسكونا بالصورة الجميلة الملونة حينا وبالمرارة والعبثية تجاهها أحيانا كثيرة.
وهذه اليوميات هي أصلا بمثابة اعتمار للذات القارئة داخل العالم اليومي والمألوف وفي الآن نفسه محاولة لوضعها وجها لوجه أمام العالم والحياة بكل ما يزخر به من تفاصيل وتناقضات، وبكل ما تحمله الحياة من مآسي وزلات خطتها يد إنسان…من هنا فإن هذه ًاليومياتً تقترب من الروح…
تناوش خيوط الأسى، وتكتب نفسها على إيقاع فردية تزدحم داخلها أشياء الإنسان العربي البسيطة والمعذبة في الآن نفسه. ولقد آمن سعدي الذي ظل منفيا ردحا من الزمن أن مشكل المثقف العربي عموما والمبدع خصوصا يأخذ أبعادا مأساوية لا تطاق ما دام الأمر يتعلق عنده بفقدان للهوية في عالم يحكمه منطق الجور والطاغوت وإلا فكيف الحال.
فأولئك الذين يعيشون دون هوية لأنها سحبت منهم، والأكثر فظاعة، من يفتقد أصلا الجهة التي يمكن أن تمنح مثل هذه الهوية مما جعل المرء يتساءل قائلا: ما أعظم المرارة والشعور بالفقد والضياع في عالم يتحول فيه الإنسان إلى سطور موثقة يخترقها خاتم دائري أو مستطيل.
ورقم سري، وآخر معلن، ومجموعة من الملفات، ملف هنا وملف هناك، ملف عند الأعداء، وملفات عند الأصدقاء ويقول في هذا الصدد: لم أجد إجابة شفافة وشافية في مصادر التاريخ التي أبحر فيها كثيرا وعن الكيفية التي كان يسافر بها ابن خلدون، أو شيخنا الأكبر محيي الدين بن عربي، أو ابن رشد…وآلاف غيرهم كانوا يلتمسون رحلة تبدأ من المشرق وتنتهي في المغرب أو العكس، كيف كانوا يعبرون الحدود؟.
أكيد أنه لم يلق إجابة شافية فيما خلفه التاريخ العربي، ولكن الحاضر مدجج بما يدمي القلب، وما حصار بيروت ومجازر صبرا وشتلا والبقية تأتي خير دليل على وقاحة الوقت.
هكذا يبدو ومن خلال قراءتنا لًيوميات المنفى الأخير ًأن قناعات سعدي يوسف تبدلت لا محالة بعد حصار بيروت، حيث بدا العالم شريرا وغير قابل للهضم، وعدائيا قبل كل شيء، والأقربون من هذا العالم بدوا له على هذه الهيئة، قبل سواهم.
أما الش، الجميع فقد انحسرت مسافته في الروح، ويعترف ملاحظا أن جميع من كانوا معه هناك إما أنهم عاودوا التنويع على مشاربهم وإما أنهم لم يكتبوا لفظاظة كانوا ينفرون منها، أو أنهم فكروا جديا في البحث عن أفق آخر يأويهم.
مع ذال، الجميع صار يعاود النظر من جديد في المشروع الثقافي العربي برمته: إشكالاته، أجياله، وتصنيفاته الماحقة، وفراغ ساحاته من مواقف حاسمة. لأجل هذا كله دعا سعدي إلى إعادة النظر في المشروع الثقافي ليعلن في يومياته على تكوين جبهة ثقافية – ديمقراطية تتأسس أصلا حول سؤال سياسي يتوسل الثقافة وحول سؤال ثقافي يتوسل السياسة، ويعلن بوضوح أننا في مأزق شامل يحتاج إلى مراجعة ونقد وتعريض.
إذ أن المأزق الراهن الذي يعيشه المثقف العربي لا يختلف عن مأزق سياسي وان كان المثقف يطرح سؤال الأزمة بإلحاح وتصميم وغضب بل بما يدفعه الغضب أحيانا إلى آفاق السواد والإحباط والمتاهات المفتوحة:
إننا ننذبح في نابلس، ونتذابح في الخليج،
نتساءل في المشرق، ونتنصل في المغرب،
نخرج من سجن، ونفتتح سجنا!.

ــــــــــــ
* أكاديمي في جامعة ابن زهر أغادير المغرب

اخر تحديث الأحد, 23 نونبر/تشرين ثان 2008 23:02