الليالي نصفها الى سعدي يوسف طباعة

محمد كاظم جواد 

الليالي تابوتنا المملوء بالدخان                  العراق
وأجسادنا حطب انكساراتنا المبهمة
الليالي تعبث في صمت مباهجنا
فتقطر الظلام في قارورة العسل المر
لتمنحنا نصف الكأس
ونبحث عن النصف الآخر...
في أنقاض يتراكم فيها صدأ الأيام
وعلى موتنا يهتف الناجون توا،
من وحل انكساراتنا
فنستل ربيعا مكتنزا ،بدموع آسنة
وعلى هامشنا الحزين....
يبني الخراب مسلته الخاوية

فأوجه صمتي
عبر مسافات تمتد مئات الكيلو مترات
واستعير شهوة الذبول ...
من حقلك الاجرد 
****
انا اعرف تماما ان دموعا باردة
ستهطل ذات خريف كاذب
واعرف اني ساجرع من وجع البلاد
سم العراف الاعمى
واخزن في ذاكرتي قبلة الربيع
اتحين فرصة تاتيني عبر معابر نائية
فتسيل خطاي على اسفلت خرابي
اطوي رائحة الموت المنسي
في صحراء جنوني
واهذب اوجاعا مبهمة في ريف سنيني
****
الليالي تنهشنا
وتغطي وجوهنا باكفانها المهترئة
فتمنحنا حين نخوض  غمار الوهم
شارتها السوداء
فنؤطرها بغلاف السكون الذي
يستوعب الصهيل
علنا نمسك بالجمرة القانية

الأخضر بن يوسف

محمد كاظم جواد
أول ديوان قرأته للشاعر سعدي يوسف هو (الأخضر بن يوسف ومشاغله)وقد صدر عن وزارة الثقافة والاعلام العراقية في بداية السبعينات ،كان اخراجه جميلا وغلافه أنيقا ،يظهر فيه وجه سعدي وهو غارق باللون الأخضر ،فتساءلت ....ماالذي يجمع بين الاسمين ؟...سعدي والأخضر كنت وقتهاطالبا في المرحلة الاعدادية وبالتحديد في بداية خطواتي على طريق الشعر....وجدت صعوبة كبيرة في ادراك وفهم مايقوله سعدي في هذا الديوان ...ربما بسبب فقر ذائقتي الشعرية والتي تدربت على قصائد السياب ونازك الملائكة والبياتي وشعراء آخرين ممن كانوا يطرحون همهم بشكل مباشر ويعتنون بالقافية و بجرسها الساحر .                                              ومن كثرة الحاحي في فك طلاسم الديوان حفظت معظم قصائده عن ظهر قلب .....وبعد زمن قصير بدأت ذائقتي الشعرية تتغير فتحسست جمال الصورة الشعرية التي تشترك فيها جميع الحواس ...ورحت أبحث عن الدواوين الصادرة لهذا الشاعر فوجدته شاعرا متجددا ،ماأن يشتغل على مساحة معينة حتى يغادرها باتجاه منطقة اخرى تختلف تماما عن سابقتها ..ليؤسس قارة مجهولة المكان .  وفي منتصف السبعينات كنت ارتاد المكتبة المركزية في الحلة لمراجعة كتبي المدرسية في المرحلة الاعدادية وبما ان المكتبة مخصصة للقراءة الصامتة ينتابني شعور بالملل فاضطر لمغادرة المكان كي لايوبخني المشرف على القاعة عندما يسمعني وانا اهمس في اذن احد الأصدقاء فأحمل خطواتي الى المقهى المجاورة  للمكتبة وهي عبارة عن بستان من النخيل المنتشر على ارض واسعة وضعت عليها بعض الأرائك القديمة والمائلة وكثيرا ما تنقلب هذه الأرائك عندما يرمي أحد ما جسده المتهالك بصورة مفاجئة ....مكان المقهى جميل رغم فوضويته واهماله  ،حتى الشاي الذي يقدمه صاحب المقهى كان فوضويا ايضا ...السكّرملتصق بجدار القدح ،بالاضافة الى لونه الغرائبي كنت ادس بين كتبي المدرسية ديوان الاخضر بن يوسف لأتجنب ملل مراجعتي الكتب...وذات يوم وبينما كنت ساهما بالنظر صوب الشارع توقفت سيارة بيضاء اللون ترجل منها شخصان أنيقان الأول ابيض الشعر والثاني اسمر نحيف بعض الشيء يتوسطهما طفل، دخلوا المقهى وجلسوا على أريكة تستند على جذع نخلة ....انتبهت الى الرجل الأسمر الذي لم يكن غريبا عن ذاكرتي ...انه الشاعر سعدي يوسف لاأدري لماذا اعتراني الخوف والارتباك ،حاولت أن أستجمع كل قواي وأذهب اليه لأحييه ...وأقرأ أمامه بعضا من قصائده التي أحفظها وأتحدث قليلا عن شعره ....بلا شك سيفرح وربما يحتفي بي ...وقبل الشروع بهذه المهمة الصعبة غادر المكان وهنا بدأ صراع الندم والألم ورجعت الى بيتي منكسرا وحزينا بسبب هذه الخسارة الكبيرة ....عرفت فيما بعد من الناقد الراحل عبد الجبار عباس ان الشخص ذو الشعر الأبيض الذي كان برفقة سعدي هو خالد السلام أما الطفل فهو ابنه الراحل حيدر( كم تألمت لرحيله) ....وفي عام 1978 ...استضافت مدينة الحلة الشاعر سعدي يوسف في امسية رائعة ومتألقة ،حرصت أن أكون أول الحاضرين  وامتلأت القاعة بالحضور مما اضطر البعض الى الوقوف قرب مدخل الباب .....ماان دخل سعدي حتى فاجأه الجمهور بتصفيق حاد فبدا على وجهه الارتباك والخجل ..مما اضطره قبل بدء الأمسية الى الاعتذار عن ارتباكه وحيا هذا الحشد البابلي واصفا بابل انها مدينة الخمرة والقانون والألسنة المشتبكة وعندما طلب منه ان يتحدث عن تجربته الشعرية قال أنا شاعر بلا تجربة وهذا دليل واضح عن قلق روحه التي تبحث عن مقترحات تجريبية .......وقرأ قصائده الجديدة في ذلك الوقت (الأعداء،كيف كتب الأخضر بن يوسف قصيدته الجديدةوقصيدة الخراب التي اثارت جدلا واسعا عن حيثيات انتماءه السياسي وفي نهاية الأمسية فتح باب الحوار فبادرته بالسؤال عن الوصايا العشر في قصيدة كيف كتب الأخضر بن يوسف قصيدته الجديدة؟....اتذكر نص السؤال:هناك عشر وصايا ..لماذا تناولت اربعا شعريا؟ فأجاب عن سؤالي وكانت اجابته انتصارا سجلته في صفحة القلب......وتمر السنوات وسعدي يتنقل من عاصمة الى اخرى بحثا عن وطن يأويه بعيدا عن تعسف الأنظمة فيدفع ثمن غربته التي تطبق بفكيها على سنين عمره ....وطالت هذه الغربة دون ان يتمكن من العودة الى ارض الوطن فوجد في ريف لندن وطنا بديلا بعد أن قاوم الحنين الذي عذبه ..سعدي الذي احب العراق ودخل من اجله السجون وشاهد( مراكز توقيف يملأها الرمل وأخرى يملأها القمل) ...واستمد معظم كتاباته من معين ذكرياته ....اخيرا أدرك ان لا فائدة من هذا الحنين فاقامته على الأرض أصبحت قليلة ..وبقي مرتديا سترته الأولى ولم يقلبها (لا تقلب سترتك الأولى حتى لو بليت) وسار مع الجميع وخطوته وحده وتيقن أخيرا انه حزب نفسه( الشيوعي الأخير.).لقد امتدت قامته الابداعية من خلال منجزه الكبير فهو لا يشبه احدا لكن يشبهه الكثيرون على حد تعبير الشاعر محمود درويش أليس من حقنا ان نفتخر به  اقول هذا للذين يصطادون في الماء العكر ويأولون تصريحاته الجريئة عندما يذكر بعض الحقائق بشكل شفاف ..أقول احتفوا بمنجز هذا الشاعر الذي اقتربت كتبه من السبعين ،فكل مايكتبه سعدي للعراق ..فهو الذي رأى كل شيء فغني بذكره يابلادي

بابل
فبراير 2008