باتجاه زاويةٍ ما غير معلومة : سعدي يوسف .. في ديوان" قصائد نيويورك" طباعة

قيس مجيد المولى

يُحسِنُ الشاعِرُ إلى الشعر حين يغادر الأُسس التي تكونت بموجبها حافظتهُ الشعرية وقد نشأت ضمن مكونات وحوادث معلومة ليُنشئَ حافظةً جديدةً خارج تلك المؤثرات في نمطه التكويني والتي لابد وكانت قد تأثرت بالمنظومات الإجتماعية والثقافية والنفسية وهو بهذا الوصف ولكي يكون قادراً على التخلصِ من صرامة الفيولوجيا وقواعد التشكيل في توزيع النص وأحياناً إستقبال المنطق والتوقف إزاءه وحتى قبوله لابد أن تأخذ هذه التحويلية الجديدة ومنظماتها في إشراك المرئي الجديد بإستخدام موثرات جديدة خارج قوى المستخدم المعتاد بحيث تكون متوافقة في السعة والسماح والتقدير والتكيف لإحالة دهشة الوعي إلى دهشةٍ في اللاوعي ومن خلال

إيجاد مُسمى (الفراغ الكلي ) الذي يحول دون الخلط أو بروز ظاهرة الإزدواج  بين المسمى القديم والمسمى الجديد ضمن الرؤية الواحدة والتي يبنى عليها الإشتغال الجزئي لإعطاء دفعات المشاهد الأنية ضروراتها السببية لإبقاء شعريتها ضمن لغتها وأغراضها وبيان نياتها في توظيف حراكها بإتجاهِ زاويةٍ ما غير معلومة في إنسانية البناء النفسي ضمن تلازم الدوائر المتحركة للمعنى بصيغة إقتران مترابط لمحاولة منع تدفق المشاهد المعزولة مع ظهور المشاهد المنتجة الجديدة وضمن ذلك لابد أن يعيش الشاعر توجساً تحذيريا على مستوى التصور ومستوى التآلف في التراكيب لإنشاء قاعدة البناء للممتع والتي لاتسمح إلا بالمشهد المنبعث من ذاتية اللحطة وتساعد على عدم الإفراط  بمدخولات القيمة الحقيقية للنص لتوفر سرعة الانقضاض على المشهد والذي أصبح مهيئا ومنسجماً ضمن صياغاته البنائيةِ . ومن هنا أعتقد بأن الشاعر سعدي يوسف قد وضع تلك المخيرات في ذهنهِ عندما أسس لبناء قصائد نيويورك مع وعيّهِ بالنمط الجديد المتوقع لإستقبال مرسلاته ليكون هناك ممرا للمكان التاريخي عِبر تلك المدينة لتزويد المتلقي بما يقود على المعرفة الجمالية والتي سرعان مايتقوض حجمُ دلالاتها مع الحس الإنسيابي المقصود للإشتغال على جدلية الحياة في حضورها وغيابها وهي نقلات شعرية ذكيةٌ تبدو وكأنها إراديةٌ مُطلَقة لكنها وفي طبيعتها خارجةً عن الإرادة تُرتب بأثر الحجم النفسي للتعبير والبوح بما يؤمل من المصير وما قد تخلقه الصراعات من إعجازاتٍ أحيانا وعَجَزٍ أمام نيل المُراد :
أين يمضي القطار... ؟
أين تمضي القبورُ
التي سكنت كل دار ... ؟
أين تمضي الكنائسُ
خَمساً لكلِ أمرئٍ ...؟
أين يمضي القطار
لا رياح
السفينةُ لامَسَت القاعَ
نامَ المُغَني
وغابت نُجومُ الصَباح

من هنا يبدأ الشاعر بعرض مميزات تلك المدينة لتلتئم في تكوينها المُعَرَف بعد عملية تحجيب مقننة لدلالاتها الواقعية والتي تُذكر بتفاصيل مُجزاءة وسريعة لكن المغادرة منها تكون بقوة أسرع وهذا الخروج من نهايات الجملة الشعرية بمثابة العودة لإنتقاليةٍ جديدةٍ لا يريد الشاعر أن تأتي كلواحق لما سبقها في تشكيل النص وإنما للبدء بتشكيل معنى تترشد وتتوزع فيه الإثارة إلى ما يُشبهُ (الوخزات العاطفية ) لإثارة المنبهات السريعة هنا أو هناك لإيقاظ المتلقي ثم إعادته من جديد إلى منتصف غيبوبته لِمواصلةِ تواجده في تلك المساحة لِغَرَضِ إستكمالِ حاجاته من النص مادامت الكليات خالية من الضغط الاضطراري لخلو البناء من أي وصف إيقاعي يحل بديلا عن وظائف الصور المتعاقبة والمتنافرة في المعنى وقوة الإرتكاز وهذا الإنتظام يُظهر سببية هذا التدفق الشعري وهو كشف لحاجات ليست بالضرورة أن تكون ضمن المشاهد الأنية التي يحققها المنتج وإنما تحديثٌ لرؤيا الألم غير المعلن عنه بعد أن يتم إستدراك كيفياته وهو شكل من أشكال القياس في الأداء يكشف عن محاولة الشاعر في بناء معماريته غير الخاضعة لمؤثرات هندسةِ معماريةِ القصيدة العربية والتي كانت تخضع لمجموعة من المشروطيات . إن أثار الحس السمعي والبصري قد جعلا المنحى الجمالي يتقبل التوتر ضمن مناطق تبادل المعنى بحيث أن تكرار أي مفردة وكذلك تكرار أي جملة شعرية يأتي منسجماً مع المحتوى العام والمتعدد الأغراض ضمن المعنى الشمولي للنص وتأتي المتناقضات من أبعاد مكانية مفترضة لتزيد من قوة إندفاع الإقتراب والخروج لإستثمار المساحة الواسعة بينهما لمغايرة التشكيل أو عزل تشكيل عن أخر ثم إمداده بما يُلائم الحاجة للوصول إلى الخصوصية في الإتجاه صوب النتائج .ولاشك بأن المشهد السمعي المتزاوج مع المشهد البصري يكونان أحد الأبعاد الإشتغاليةِ والتي يبني الشاعر منهما شكلا منمطاً لإخفاء الصوت الأخر بسمته الخطابية المباشرة وكذلك إخفاء المناوبة مابين الصوتين لكي يتحسس المتلقي شكلاً من العلاقة الهلامية مابين الأصوات بما يُشبه الطيف أو الهَمس ويمتاز هذا النوع من التحسس الشعري بكفاءة المتخيلة التي تجمع بعدين متساويين على مستوى الصوت والصورة وبالتالي توثق كفاءة الشاعر على ضبط إحتياجاته وتوزيع موسيقاه في أدنى السُلَم وأعلاه لبلوغ مفهوم العذوبة الصافية بعيداً عن الإغراق أو الإطالة وبعثرة الذي سيستحضر من غير الموجود ولكنهُ قابلٌ للتهيئة :

فَجأةً .. قررتُ أن أدخلَ في زاويةِ الجاز
مَساءٌ باهِتٌ
كان بريدي الالكتروني يأتي  بإعتذاراتٍ
 طوال اليوم
والقيظُ
كأني لم أزل في عدن
والمرأةُ / القطةُ
قالت أنها تتركني الليلةَ
كي تأوي إلى مرسَمها في أخر البلدة
إني رَجِلٌ يكرهُ أن يحيا وحيداً
هكذا
قررتُ أن أدخُلَ في زوايةِ الجاز

ثم ينحى سعدي يوسف في قصائد أخرى في هذه المجموعة إلى مفهوم رسم المشهد الحكائي وهي رسومٌ تتبعيةٌ بفعل متصل ذي أنساق تعبيرية تتداخل فيها المفارقة  أي الخروجات على المشهد لمعاكسة المعنى والعودة على قصده في إشاعة الوخزات العاطفية وهذا يعني أن الشاعر يمارس عمليةَ إستمكانٍ لإيقاف أي تضخم في الإثارة قد يهئ ذلك إلى مطاولةٍ لامبرر لها مادام الضغط الشفاف من قبله ممكنا ولا يؤدي ذلك إلى نسف مفهوم (الفراغ الكلي )حيث تشعر خياراته في البعد اليومي بمزيد من الإنفتاح نحو أي مغامرة إنسانيةٍ وإن نصوصة بتعبير بيير ريفردي  : (قائمٌ فيما لايكون . . أي فيما يظل ينقصنا دائماً ) أي عدم الإكتفاء بالشعور باللذة لتحقيق الوصول للذة العُليا لتمكين المتلقي من تهيئة نفسه تجاه أي غرض يشتهية وهو يستطيع من استنباطه دون الرجوع إلى مرجعياته  أو موثرات مشابهةٍ مرت من الحدث اليومي أو إمتلاك مثير لوني في مساحة إفتراضية . إن البعد اللامرئي يُخلَقُ من تأثير قوة الوصلات التي تنتقل بالنص إلى حدود أخرى في اللامعلوم ولعل مجال الإغراء هنا شيوع إستخدام المُكون ولا يكون هناك أي فائض في الإستهلاك ضمن ماتم وأعدته المُخيلة بمرادفة سببية أخرى تُعزى إلى نوعية قاموسه الشعري والذي يجدد هذا القاموس إنسجامه مع المتجدد من متطلبات النص وكأن النص لدى سعدي يوسف (لايُنتج بل يُنَفذ ) بفضل تطابق المستويات الإلهامية من تجربة إلى أخرى وهنا لايُعد الشعر نبوءة إستحضار بل نبوءة غيبية وكأنها رسائلَ من الألهة ولعل وفي هذه المجموعة تحديداً الذي يجري فيها الحديث عن مدينةٍ مسماة ومكشوفة وجاهزة في أكثر من ثابت إجتماعي وأقتصادي وسياسي وتاريخي تتكون هناك قوى مساندة من تلك الثوابت وهي تأتي كوسيط نافعٍ يساهم في تخفيف حدة العاطفة من جهة وخلق طاقات بديلة قابلة على التعويض السريع .إن فكرة تشريح جسد النص تقوم لدى سعدي يوسف على أساس فسلجة الفسلجة  ومفادها أن الفكرة لدية لاتنتهي عند حدود معلومة من هذا النص أو ذاك لان فكرة التجدد في عملية التواصل هي اقترابٌ من الجمال البعيد غير المُقتَّرَبِ منه وهي تُشكِلُ في بعدها الأخر تحسبات عن نوعية المشتركات التحسسية للحاسة البصرية مادام المتكون منظورأ من كافة إتجاهاته ويساعد هذا التروي في الكشف والإستخدام أختيار لغته المناسبة التي لاتكتفي بما في مفهوم واقع اللغة لان معاينة العالم من جزئياته يعني وجود العالم في أيما جزء جعله الشاعر مدخلا للتعريف تارة بالعالم الفاسد وتارة بالعالم الثر وكلاهما يدخلان في مفهوم القانون الجمالي للأشياء وتلك هيَ عملية تحريك وشحن مستمرين لجلي الصدأ صدأ المعاينة الجادة من أجل ترك التدقيق للأخرين :

بالطيورِ التي تُعلِنُ الشمسَ .. يستقبلُ العاملُ الأسودُ . الصُبحَ
كانت مماشي الحديقةُ ناعمةً بالندى . والغصونُ التي إستيقظت
 تتشكلُ مثل الغصون
المصاطبُ مبثوثةٌ كالأرائكِ ..
 والكلبُ يرفعُ قائمهُ ..ثَمّت الماء يقطرُ من حنفيةٍ
والعصافيرُ تشربُ .. والعاملُ الأسودُ الأن يفتح عينية . يفركُ واحدةً
ثم يمضي إلى الحنفيةِ ..
تفزعُ فاختةً . يُخرجُ فرشاة أسنانه
يتمضمضُ .. يملأُ راحَتَهُ . يشربُ الماءَ .. سرواله الجنس أسودَ في زُرقةٍ
كانت الشمسُ تبلغ مصطبة النوم
يَختارُ أُخرى
ويَغمضُ عينية ثانيةً
وينام

لقد إستند الشاعر على مجموعة بيانات إختصرت في هذه المجموعة قاموسه الجمالي الذي يقوم على أساس إن الإستدلال المنطقي للأشياء قد يكون مطلوباً لكنه غير مرغوبٍ إذا جاءت الصور الشعرية كحالة مستنسخة للمشاهد العينية ولا ضير من النقص أو الزيادة في صياغة تصور المدلولات شريطة العمل على ضبط زيادات الشحنات الإنفعالية وبمستوى يتوافق مع البناء اللغوي كما إن الفكرة تنتج فكرة أخرى
وبالتالي فإنها تتخذ منحىً أخر وتهيئ للشاعر فرصاً قصوى للإفادة وهذا لايشكل إنحرافاً بل عملية إبداعيةً لأنها تعني رفض الجمود ورفض التصور المُسبق وهو سعي وخلاص وألق وثقة بجودة المنتج وجودة كميات الأسئلة الفلسفية والتي أدام الشاعر حيويتها بتحريض الذات بأن لاصُلحَ مع أحد ولاوجود لأحد لأن الشعر كما أرى إختلاف العيوب في الواقع .

عنوان البريد الإلكترونى هذا محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تفعيل الجافا لتتمكن من رؤيته
شاعر عراقي – مقيم في قطر